top of page

سلسلة مقالات بدون عنوان ١٨

فبراير 1

77 min read

0

0

0

(419) 17/2/2016 (عندما تلبس «السلفية الدينية ثوب المرجعية الإلهية)

 عدد المشاهدات : 211

هل يعلم المسلمون أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، ومؤسساتهم الدينية الرسمية وغير الرسمية، أنهم جميعا أسرى «السلفية الدينية»، التي جعلت «أئمة السلف» يُفكرون ويتدبرون ويجتهدون نيابة عنهم، حسب المذهب العقدي أو التشريعي الذي ينتمون إليه، وهم تابعون مقلدون؟!

فإذا أردنا أن نعلم من هم «أئمة السلف»، أصحاب هذه «المرجعية الدينية» التي حكمت عقول المسلمين قرونا من الزمن، فلن نجد إجابة واضحة شافية، ففريق يقول إنهم «الصحابة» الذين أخذوا الدين عن رسول الله، وفريق أضاف إليهم «التابعين»، وآخر أضاف «تابعي التابعين»!!

فكيف تكون «المرجعية الدينية» التي أمر الله تعالى اتباعها، مرجعية بشرية لا يُفهم الدين الإلهي، ولا تُفهم أحكام شريعته، إلا من خلالها؟! فإذا ذهبنا إلى هذه المرجعية نتعرف عليها، وجدنا لكل فرقة من الفرق الإسلامية مرجعيتها، حسب المذهب العقدي الذي تنتمي إليه، ولكن من هم أئمة السلف، أصحاب هذه المرجعيات، الذين يعتبرهم أئمة الخلف خطًا أحمر يحرم الاقتراب منه أو مسه بسوء؟!

هنا سنجد أنفسنا أمام بحر متلاطم الأمواج، فإذا ذهبنا إلى التعريف اللساني أو الاصطلاحي لكلمة «السلف»، فلن نصل إلى قرار، فكل أصحاب أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، الذين ظهروا بداية من القرن الثاني وحتى القرن العاشر الهجري، هم من «السلف الصالح»، كلٌ حسب الفرقة والمذهب العقدي الذي ينتمي إليه، فالسلف الصالح الذي ينتمي إليه أهل السُّنة، غير الذي ينتمي إليه الشيعة!!

فإذا ذهبنا إلى تعريف فرقة أهل السنة والجماعة لمصطلح »السلف الصالح« لن نصل أيضا إلى قرار، وإذا اعتمدنا التعريف القائم على الرواية المنسوبة إلى النبي، أن خير القرون الثلاثة الأولى، أخرجنا أصحاب أمهات الكتب الذين جاؤوا في القرون الأخرى من دائرة «الصلاح»، وذلك بنص الرواية: «ثم يجيء قوم، أي بعد القرون الثلاثة، تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»!!

إن هذه الرواية، المتفق عليها بين البخاري ومسلم، يشرحها أئمة السلف بقولهم: إنه سيجيء بعد القرون الفاضلة أقوام «لا يؤتمنون على شهاداتهم وأيمانهم، ويكثر فيهم الكذب»، فإذا علمنا أن هناك من أهل السنة من يُعرّفون «السلفية» بأقوام ظهروا بعد القرن الثالث الهجري، فهل من حق أي إنسان وصفهم بما وصفهم به النبي دون أن يُتهم بازدرائهم؟!

إن «الحنابلة»، أتباع أحمد بن حنبل «ت ٢٤١هـ»، يعتبرون أن ظهور «السلفية» كمذهب عقدي متكامل الأركان، كان في القرن «الرابع» الهجري، ثم تجدد ظهورها في القرن «السابع» على يد ابن تيمية، مع بعض التعديلات، ثم ظهرت مرة أخرى في القرن «الثاني عشر» الهجري على يد محمد بن عبد الوهاب، مع بعض التعديلات، ثم أصبحت «الوهابية» هي الممثل الرسمي للسلفية إلى يومنا هذا!!

ولكن، لماذا لا نجد تعريفا لـ «السلفية»، يجعل الصحابة هم «أئمة السلف»، استنادا إلى أمهات كتبهم التي دوّنوها في حياة النبي، أو في حياة الخلفاء الراشدين، أو في عصر الخلافة الأموية، على أقصى تقدير؟!

الجواب: لأن القرن الأول الهجري، لم يشهد مطلقا وجود أي مدونة لهؤلاء السلف، لأنهم لم يولدوا بعد، هذا بالإضافة إلى أن السمة التي كانت تميز هذا القرن، باستثناء الربع الأول منه، هي سفك الدماء بغير حق، وإشعال أزمة التخاصم والتكفير بين أتباع التوجهات العقدية المختلفة، وفي مقدمتهم من سماهم التاريخ بعد ذلك بأهل السنة والشيعة!!

ولذلك نسألهم: أين المرجعية «السلفية الدينية»، التي دونت في القرن الأول الهجري؟! ولماذا لم تظهر أمهات كتب الفرق والمذاهب العقدية المختلفة في القرن الأول الهجري؟! وإذا كانت هناك «فرقة ناجية»، فلماذا لم تظهر أمهات كتبها في القرن الأول الهجري، الذي يدّعون أنه كان خير القرون؟!

ولكن هل يُعقل أن تصل أزمة التخاصم والتكفير بين المسلمين، في القرن الأول الهجري، إلى أن يلعن بعضهم بعضا على منابر الدعوة الإسلامية، وبأمر من الخلافة الإسلامية؟!

نعم يُعقل، فبعد وفاة النبي مباشرة افترق الصحابة إلى فريقين، فريق آمن بولاية وخلافة علي بن أبي طالب، ودليله أن النبي نص على ذلك صراحة، وفريق أنكر النص على خلافة علي، وناصر استخلاف أبي بكر، والأول سُمي بعد ذلك بـ «الشيعة»، والثاني بـ «أهل السنة»!!

ولكن ماذا نفعل في هذه المصيبة! لقد اتفق المؤرخون ورواة السير أن خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان كان يصعد المنبر، ويلعن عليّ بن أبي طالب، وكان ولاة الأقاليم يقتدون به في هذا، حتى إن المسعودي ذكر في «مروج الذهب»، أنهم جعلوا لعن عليّ سنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير!!

إذن فهل يمكننا اتهام أمهات الكتب التي ذكرت هذه الواقعة، بأنها تساعد على تدعيم أزمة التخاصم بين المسلمين، وازدراء كل طائفة الطوائف الأخرى؟!

لقد ورد في صحيح مسلم، شرح النووي، عن سهل بن سعد قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان، قال فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا، قال: فأبى سهل، فقال له: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب … إلى آخر الرواية!!

يقول الدكتور موسى شاهين لاشين، في «فتح المنعم شرح صحيح مسلم»: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا، والتقدير: أمره أن يسب عليا، فامتنع، فقال له: ما منعك؟! ويحاول النووي تبرئة معاوية من هذا السوء، فيقول: قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها ….»!!

ثم يرد الدكتور موسى على النووي بقوله: «وهذا تأويل واضح التعسف والبعد، والثابت أن معاوية كان يأمر بسب عليّ، وهو غير معصوم، فهو يخطئ، ولكننا يجب أن نمسك عن انتقاص أي من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسب عليّ في عهد معاوية صريح في روايتنا التاسعة».

ثم جاء الدكتور موسى في الرواية التاسعة فقال: «فأمره أن يشتم عليا: أي أن يسب عليا رضي الله عنه باسمه، فقال له: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب: أي حيث أبيت سبه باسمه فسبه بكنيته «أبي التراب»، ويلمحون بذلك إلى تنقيصه بهذه الكنية»!!

والسؤال: وهل الانتقاص والتنقيص إلا ازدراء؟!

ويقول ابن سعد «ت٢٣٠هـ» في الطبقات الكبرى: «كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبدالعزيز يشتمون عليا رحمه الله فلما ولي عمر أمسك عن ذلك»!!

ويحكي الطبري «ت٣١٠هـ» في تاريخه، وابن الأثير «ت٦٣٠هـ» في الكامل، قصة قتل جند معاوية ستة من أنصار علىّ بن أبي طالب، ومنهم الصحابي حجر بن عدي، فقالوا لهم قبل قتلهم: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم…، قالوا اللهم إنا لسنا فاعلي ذلك، فأمر فحفرت القبور، وأحضرت الأكفان، فلما كان الغد قتلوهم!!

ويقول الزمخشري «ت٥٣٨هـ»، في الكشاف، عند تفسيره لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى … الآية» وجدناه يقول: «والبغى: طلب التطاول بالظلم، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، أقيمت هذه الآية مقامها، ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالاً وخزياً»!!

فإذا ذهبنا إلى ابن تيمية «ت ٧٢٨هـ»، في منهاج السنة النبوية، الجزء الخامس، نجده ردّ أحد عشرة رواية في سب عليّ إلا رواية مسلم، وقال عنها: «وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسب فأبى فقال ما منعك أن تسب على بن أبي طالب..، فهذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه»!!

ثم قال في الجزء السابع: «ومعلوم أن الله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم، لاسيما الخلفاء رضي الله عنهم، لا سيما أبوبكر وعمر، فإن عامة الصحابة والتابعين كانوا يودونهما، وكانوا خير القرون، ولم يكن كذلك علي بن أبي طالب، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبونه ويقاتلونه»!!

وقال ابن حجر «ت٨٥٢هـ» في فتح الباري، شرح صحيح البخاري: «ثم كان من أمر علي ما كان، فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتد الخطب فتنقصوه، واتخذوا لعنه على المنابر سنّة، ووافقهم الخوارج على بغضه وزادوا حتى كفروه»!!

أما السيوطي «ت٩١١هـ» فقد ذكر فى تاريخ الخلفاء: «كان بنو أمية يسبون عليّ بن أبى طالب فى الخطبة، فلما ولى عمر بن عبد العزيز أبطله، وكتب إلى نوابه بإبطاله، وقرأ مكانه «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ… الآية، فاستمرت قراءتها فى الخطبة إلى الآن»!!

هذه بعض النصوص المتعلقة بأزمة التخاصم بين السنة والشيعة، التي يعترف بصحتها أهل السنة قبل الشيعة، بداية من القرن الأول الهجري، وحتى القرن العاشر، لبيان أنه لم يستطع خليفة من الخلفاء، ولا مؤسسة دينية رسمية في بلاد المسلمين إلى اليوم، أن تطهر أمهات الكتب من هذا «الازدراء» الموجود بين الفرق الإسلامية، والذي يعاقب عليه القانون اليوم!!

إن الحديث عن وجود علاقة بين المرجعية «السلفية الدينية»، ومرجعية عصر الرسالة لا أساس له من الصحة، فبين عصر الرسالة وعصر تدوين هذه المرجعيات السلفية المذهبية ما لا يقل عن قرنين من الزمن، ثم أصبح المسلمون يتبعون مرجعيتين:الأولى: مرجعية إلهية، شهد النبي تدوين نصوصها في كتاب، هو «كتاب الله».

والثانية: مرجعية بشرية، دُوّنت بعد وفاة النبي بقرنين من الزمن، شهد تدوينها أئمة السلف، كلٌ حسب الفرقة التي ينتمي إليها، وحسب مدرسة الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، التي يتبعها المحدثون الذين ينتمون إلى هذه الفرقة!!

فكيف يعبد المسلمون ربهم، بالدين الذي ارتضاه لهم أئمة السلف، والذي مرجعيته أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، وما يُسمى بالمصدر الثاني للتشريع، لا الدين الذي ارتضاه الله تعالى لهم، ومرجعيته «كتاب الله»؟!

لقد ظهرت «السلفية الدينية»، وظهر «أئمة السلف»، وظهر مصطلح «السلف الصالح»، بظهور المذاهب العقدية والكلامية المختلفة، بعد خير القرون، وكل طائفة تعلن اتباعها لـ «السلف الصالح»، وتقصد الصحابة والتابعين، فأصبح الصحابة والتابعون قسمين: سلف صالح، وسلف طالح، بناء على المعايير والقواعد العقدية لكل طائفة!!

والمصيبة الكبرى التي حملتها المرجعية «السلفية الدينية»، القول باستحالة فهم «كتاب الله» بمعزل عنها، بدعوى أنها التي حملت «السنة النبوية» المبينة والمكملة لأحكام «كتاب الله»، وأن مخالفة هذه المرجعية أو ازدراءها يعتبر معصية لله ورسوله، يُحكم على صاحبها بالردة، ويُستتاب، فإن تاب وإلا قتل!!

لقد لبست المرجعية «السلفية الدينية» ثوب المرجعية الإلهية، بدعوى حب الرسول، والاقتداء بسنته، والتحلي بصفاته الخُلقية والخِلقية، فهو النبي الذي لا ينطق عن الهوى: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»، وبناء عليه حملت المرويات المنسوبة إلى النبي، والفتاوى المنسوبة إلى السلف الصالح، التي يستند إليها اليوم أئمة الخلف في إباحة كثير من المسائل التي حرمها الله في كتابه، بدعوى اتباع «السنة النبوية»!!

لقد تساوت «المرجعية الإلهية» التي نطق النبي فيها بـ «الآية»، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، مع «المرجعية السلفية» التي نطق الرواة فيها بـ «الرواية»، التي آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها، فاختلطت الدين الإلهي بالتدين البشري، وأصبحت الرواية حاكمة على الآية، وأصبح ازدراء التدين البشري جريمة يُعاقب عليها القانون!!

إن أخطر ما في المرجعية »السلفية الدينية«، أنها أوقفت العمل بفاعلية نصوص «الآية القرآنية»، المتجددة مع إمكانيات وتحديات كل عصر، فظل المسلمون أسرى هذه المرجعية السلفية، لا تجديد ولا إبداع ولا اجتهاد، فكانت هي البيئة الحاضنة للتطرف الديني، الذي ولد الإرهاب في أحضانه!!

إن أخطر ما في المرجعية «السلفية الدينية» أنها خدعت المسلمين، فبدأت بإفهامهم استحالة فهم كتاب الله بمعزل عن «السنة النبوية»، ثم باستحالة فهم »السنة النبوية« بمعزل عن أئمة الحديث، ثم باستحالة فهم «الحديث النبوي» بمعزل عن أصول الفقه، ثم باستحالة فهم «المنظومة الفقهية» بمعزل عن فهم أئمة الخلف لأحكامها، ثم إذا ذهبت إلى «أئمة الخلف» وجدتهم فرقا ومذاهب متخاصمة متصارعة!!

إن لكل فرقة من الفرق الإسلامية أئمتها، ولكل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة أئمته، ولكل جماعة أو جمعية دينية أئمتها، ولكل منظمة إرهابية أئمتها، وكل هؤلاء الأئمة يقولون نحن نتبع السلف الصالح، وكتاب الله وسنة رسوله، فإذا قلنا لهم: أين كتاب الله؟! أخرجوا لنا كتابا واحدا، فإذا سألناهم وأين سنة الرسول؟! أخرجوا لنا آلاف الكتب لأئمة السلف!!

إن «كتاب الله» ينص على أنه قادر على إخراج الناس من الظلمات إلى النور:

«كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»

فلماذا هجر المسلمون كتاب الله، واتخذوا المرجعية »السلفية الدينية« دينا، فخرجوا من النور إلى الظلمات، واستحلوا الدماء بغير حق، وهم يعلمون أن هذه المرجعية هي البيئة الحاضنة للتطرف الديني، الذي أفرز الإرهابيين، الذين نراهم بأعيننا يفسدون في الأرض، بدعوى الدفاع عن الإسلام، وإعادة الخلافة الإسلامية إلى الأرض؟!

فهل كانت الخلافة الإسلامية، وفق هذه المرجعية السلفية، إسلامية؟!

لقد قاد الصراع المذهبي القائم بين أئمة السلف، على مر العصور، إلى صراع فكري، يزدري أتباع كل مذهب المذاهب الأخرى، ولقد فرضت «منظومة الآبائية»، على الأبناء كراهية الآخر، والتعصب لميراث الآباء، والقتال في سبيله حتى الموت!!

وعندما تكون »منظومة الآبائية« هي البيئة الحاضنة للصراع الديني بين الملل المختلفة، وازدراء أتباع كل ملة الملل الأخرى، ثم تقوم كل ملة بسن القوانين التي تجرم «ازدراء الأديان»، بدعوى الدفاع عن دين الله، هنا يجب أن نعلم أن كل ملة تدافع عن تدينها المذهبي، وليس عن دين الله!!

إن الدفاع عن دين الله يكون بالعلم والتربية، وبالحوارالعلمي بين أتباع الملل والديانات والمذاهب المختلفة، فما أسهل أن تسن قانونا يعاقب على الازدراء، وما أصعب على المذهبية أن تواجه الازدراء بالحوار العلمي!!


(420) 21/2/2016 (حوار العقلاء، وسقوط السلفية المذهبية)

 عدد المشاهدات : 245

 المحاور: أنتم ليه بتقدسوا الأحاديث التي نسبها الرواة إلى النبي؟!

# الشيخ: احنا لا نُقدّسها!!

* المحاور: طيب ليه مش عايزين تنتقدوها، وتتبرؤوا من الضعيف منها؟!

# الشيخ: تعالى معايا المكتبة وأنا أطلع لك عشرين تلاتين ألف صفحة كتبها علماء طول أطوار التاريخ لنقد صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرهما من كتب الحديث، إحنا نقدناها كويس جدا جدا، ولم نحترم مجهود المحدثين ونقدره إلا بعد دراسة أحاديثهم ونقدها، ولا نستطيع التبرؤ من الضعيف منها، لأنه قد يأتي اليوم الذي يصحح فيه العلماء ما ضعّفناه!!

= التعليق: هذا دليل على أن هذه الأحاديث التي حملها ما يُسمى بالمصدر الثاني للتشريع، قد آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها، منذ ولادتها، وقد تم نقدها على مر العصور، ومازال، فكيف تكون مصدرا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع؟!

* المحاور: طيب ليه أصح كتاب عندكم في الحديث هو صحيح البخاري؟!

# الشيخ: لأن الإمام البخاري قام بمجهود علمي كبير وعظيم في تحقيق الأحاديث، واشترط مقابلة الرواي لمن روى عنه، ولف العالم علشان يتأكد من صحة السند!!

= التعليق: لقد توفي البخاري سنة «٢٥٦هـ»، أي في منتصف القرن الثالث الهجري، إذن فهذه شهادة من «السلفية المذهبية»، أنه حتى القرن الثالث الهجري، لم يكن هناك كتاب واحد للأحاديث النبوية معتمد من الخلافة الإسلامية، يمنع أي تلاعب أو نزاع حولها، فكيف تكون مصدرا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع؟!

* المحاور: يعني كل الأحاديث اللي في البخاري قطعية الثبوت عن النبي؟!

# الشيخ: لأ طبعا، أغلب الأحاديث اللي في البخاري ظنية الثبوت عن رسول الله، الكلام ده كل علماء المسلمين عارفينه.

* المحاور: شفت، أديك اعترفت أهو؟!

# الشيخ: اعترفت بإيه يا صديقي، بقول لك ده أمر مستقر يعرفه كل من له أدنى اتصال بعلوم الحديث، معظم الأحاديث ظنية الثبوت عن رسول الله، سواء كانت عند الإمام البخاري أو عند غيره من الفرق الأخرى!!

* المحاور: يبقى مش لازم نعمل باللي فيها طالما هي ظنّية، وأكيد سبب هذه الظنية عدم تدوينها في حياة النبي، مش كده ولا إيه؟!

# الشيخ: لأ، الظن بيُعمل بيه في مقابلة الوهم، ولا يُعمل بيه في مقابلة القطع، يعني لو عندي دليل ظني ومافيش أمامه قطعي بعمل بالظني، ولو الظني يعارضه القطعي، هنا بشوف: لو قدرت أفهم كل واحد فيهم على وجه يصححه يبقى كويس، ماقدرتش يبقى أترك الظني وأعمل بالقطعي.

= التعليق: وصلنا إلى التهافت الآيل للسقوط، فالقرآن هو النص الإلهي الوحيد القطعي الثبوت عن الله تعالى، والشيخ يقول: «لا يُعمل بالظني في مقابلة القطع»، ويقول: «لو عندي دليل ظني ومافيش أمامه قطعي بعمل بالظني»، وقد سبق أن قال إن أغلب الأحاديث ظنية الثبوت، إذن فلا حجية لها ولا وزن في دين الله تعالى!!

مثال: عقوبة الزنى في القرآن هي «الجلد»، ولم يفرق الله تعالى في هذه العقوبة بين بكر وثيب، ولا بين محصن وغير محصن، إذن فما حجية عقوبة «الرجم» التي ابتدعها أئمة السلف، والتي نقلها الرواة عن عصر الرسالة، بالتواتر أو الآحاد، وهو نقل بشري، يستحيل أن يرقى إلى مستوى حجية النص القرآني، المنزل من عند الله تعالى؟!

* المحاور: ولماذا كل هذه الإشكاليات في إثبات حجية هذه الأحاديث، خاصة وأن هناك اختلاف حول تدوينها في حياة النبي، بل هناك من أئمة الحديث من يقولون إن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى أصلا عن تدوينها، فكيف يدوّنوها؟!

# الشيخ: النبي نهى عن تدوين الحديث في بداية الإسلام، فلم يكن المسلمون قد تعرفوا على أسلوب القرآن الجديد عليهم، فأراد النبي صرف همتهم لحفظ القرآن وتدوينه، وبعد استقرار تدوين القرآن، أمر النبي بتدوين الحديث!!

* المحاور: الحقيقة هذا الكلام ليس عليه برهان، فلو أن الصحابة كتبوا «الأحاديث النبوية» في عهد الرسول، لجمعوها كلها في كتاب واحد، ولورث المسلمون هذا الكتاب إلى يومنا هذا، فأين هذا الكتاب؟!

# الشيخ: هذه مشيئة الله، والله لا يُسأل عما يفعل!!

= التعليق: وسقطت «السلفية المذهبية»، وبرهان سقوطها، أنهم عندما لا يملكون الحجة للرد على «حوار العقلاء»، يُلقون بأنفسهم إلى التهلكة، وهم يقولون: إنها إرادة الله، والله لا يُسأل عما يريد!!

محمد السعيد مشتهري

ملاحظة: لقد قمت بالرد على هذه الشبهات، التي دائما تثيرها «السلفية المذهبية»، في أكثر من مقال على هذه الصفحة، منها:

١- «هل حفظ الله الأحاديث النبوية كما حفظ النص القرآني»٢- «طاعة الرسول في القرآن وليست في روايات كتبت بعد وفاته بقرن ونصف»٣- «هل فسر النبي القرآن بمرويات «السنة النبوية»٤- «بيان من رسول الله إلى المسلمين اليوم»٥- «القرآن أمر بطاعة الرسول واتباعه لا الفقهاء والمحدثين»




(421) 25/2/2016 (من هي الفرقة الناجية، المتبعة لـ السلف الصالح؟)

 عدد المشاهدات : 246

عندما يكون تعريف «السلف الصالح» تعريفا نبويا، ورد في أحاديث شهد لها المحدثون بأعلى درجات الصحة، بل والتواتر، بدعوى أن «السلف الصالح» لا يُجمعون على ضلالة، لأنهم معصومون، وأن المسلم الحق يستحيل إلا أن يكون سلفياً، لأن الانتساب إلى السلفية يعني الانتساب إلى النبوة..، إذن فنحن أمام مصيبة عقدية وتشريعية!!

وعندما يقرر النبي أن أمته ستتفرق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، هي الناجية، فقالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي، ثم يقول ابن تيمية في الفتاوى: ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها «أهل السنة»، فهم (وسط) في النحل، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء..، إذن فنحن أمام أزمة فكرية تكفيرية!!

وعندما يكون «أهل السنة» هم الفرقة الناجية، وهم «السلف الصالح»، الذي نزل القرآن يحذّر الناس من مخالفتهم، واتباع سبيل غير سبيلهم، استنادا إلى قوله تعالى:

«وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»

ويُفسر أئمة «أهل السنة» الآية بمعنى: أي سلك غير سبيل الجماعة التي شهد لهم الرسول بأنها الفرقة الناجية، المتبعة لما كان عليه الرسول وصحبه، ثم نجد أن كل فرقة من الفرق الإسلامية تقول إنها تتبع ما كان عليه الرسول وصحبه، إذن فنحن أمام أزمة عقلية تخاصمية، تشمل جميع الفرق والمذاهب الإسلامية!!

ووسط هذه الأزمة العقلية، التي يشهد بفاعليتها واقع المسلمين، أين نجد «الفرقة الناجية»، وكيف السبيل للوصول إلى »السلف الصالح«، وليس أمامنا إلا هذه السبل التخاصمية المتفرقة؟!

سبق أن قلت في أكثر من مقال، أحدهما بعنوان: «أئمة السلف فسروا السلف في القرآن خطأ واعتبروها مذهبا»، والثاني: «أكاذيب السلفية الوهابية التي يحاولون إقناعنا أنها أحاديث نبوية»، والثالث: «عندما تلبس السلفية الدينية ثوب المرجعية الإلهية»… قلت إن أخطر ما في المرجعية »السلفية الدينية« أنها خدعت المسلمين، فقالوا لهم استحالة فهم كتاب الله بمعزل عن فهم «السلف الصالح»، لأنهم الذين حملوا إلينا نصوص «السنة النبوية»!!

فإذا ذهبنا إلى «السلف الصالح»، وجدنا أن لكل فرقة أئمتها في الحديث، يقولون باستحالة فهم «الحديث النبوي» بمعزل عن شروح أئمة الحديث، فإذا ذهبنا إلى الشروح وجدناهم يقولون باستحالة فهم الحديث بمعزل عن «منظومة فقه السلف»، فإذا ذهبنا إلى فقهاء السلف أئمة المذاهب العقدية والتشريعية، وجدنا صعوبة فهم مصطلحاتهم الفقهية إلا من خلال «منظومة فقه الخلف»!!

فإذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى حقيقة «الفرقة الناجية»، وإلى مَن هم «السلف الصالح»، إلا من خلال مرجعيات الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وإذا كانت كل فرقة من هذه الفرق تقول نحن «الفرقة الناجية»، ونحن أتباع «السلف الصالح»، فماذا نفعل؟!

يقول ابن تيمية في «شرح العقيدة الأصفهانية»: «ولا تجد إماماً في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل…، إلا وهم مصرّحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب».

والسؤال: لقد توفي آخر صحابي، وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، عام «١٠٢هـ»، وقيل «١١٠هـ»، فلماذ لم تتوقف مرجعية «السلف الصالح»، من تفسير وحديث وفقه، عند القرن الأول الهجري؟!

ويقول ابن تيمية في »الفتاوى«، عن حجية كلام التابعين من أهل الحديث: «ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم»!!

ويستندون في حجية كلام التابعين بقوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»؟!

والسؤال: إذا كان «السلف الصالح» هم جيل الصحابة والتابعين، وقد توفي آخر تابعي، وهو خلف بن خليفة، عام «١٨١هـ»، إذن فلماذ لم تتوقف أمهات كتب الحديث عند القرن الثاني الهجري؟! ألم يكن جيل الصحابةوالتابعين كافيا، لبيان وشرح نصوص «السنة النبوية»؟!

علمًا أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ» لا علاقة له بجيل التابعين الذين جاؤوا بعد جيل الصحابة، لأن المقصود بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم» هم الصحابة الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار في نصرة النبي بعد فتح مكة: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»، لذلك اشترط الله أن يكون اتباعهم بإحسان: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ»، وليس لأغراض ومصالح دنيوية!!

ويذهب ابن تيمية، في «منهاج السنة النبوية»، إلى أن السلف هم أهل الأثر، وهم أهل الاتِّباع، لأنَّ مِن طريقتهم اتباع آثار الرسول، واتباع سبيل السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار، واتباع وصية الرسول حيث قال: «عليكم بسنَّتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ»!!

والسؤال: أليست سنة الخلفاء الراشدين، واجبة الاتباع بنفس درجة اتباع «السنة النبوية»، استنادا إلى هذه الرواية؟! أليس الخلفاء الراشدون من «السلف الصالح»؟!

إذن فلماذا لم يُدوّنوا نصوص »السنة النبوية« في كتاب واحد، تحت إشراف الخلافة الإسلامية وباسمها، بعيدا عن أئمة الحديث، أتباع الفرق الإسلامية المختلفة؟!

ويقول ابن تيمية، في «الفتاوى»: «إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية هم أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها، واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها»!!

فهل يقصد ابن تيمية بقوله عن الفرقة الناجية، إنهم «أهل الحديث والسنة»، فرقة «أهل السنة»؟! أم أنه يتحدث عن »أهل الحديث والسنة« على مستوى الفرق الإسلامية كلها؟! لاشك أنه يقصد «أهل السنة»، إذن فما موقف أهل التفسير والفقه من مسألة النجاة من النار؟!

وإذا كان «أهل الحديث والسنة»، هم «الفرقة الناجية»، لأنهم «أعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها»، فهل لم يكن ابن تيمية يعلم، أن النص التشريعي الإلهي، يستحيل أن يأتيه الباطل، حتى يأتي «أهل الحديث والسنة» فيُميّزون بين صحيحه وسقيمه؟!

ما هذا العبث بدين الله تعالى؟!

الغريب، واللافت للنظر، أن أئمة السلف والخلف، على مستوى جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، العقدية والتشريعية، لا يملكون الدليل على أن نصوص »السنة النبوية« التي نسبها الرواة إلى النبي، نص تشريعي إلهي واجب الاتباع، وبرهان ذلك أن نجيب على هذا السؤال: عند أي فرقة من الفرق الإسلامية، نجد نصوص «السنة النبوية» الصحيحة؟!

فإذا ذهبنا إلى مفهوم «السلف الصالح»، عند المذهب الأشعري، باعتباره المذهب العقدي للمؤسسة الدينية الرسمية في مصر، وهي مؤسسة الأزهر، وجدنا فضيلة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، يقول في حديثه مع عمرو الليثي، في برنامج واحد من الناس:

«جمهور الأمة الإسلامية لم يكن على هذا المذهب الذي يُبَشّر به الآن، وهو ما يُسمى بالمذهب السلفي، لكن احنا كأزهر لا نُبّدع ولا نُفسّق هذا المذهب، ولكن نضعه في حجمه الحقيقي».

عمرو: أنا بقول هذا لأن فضيلتك وصفت السلفيين بأنهم «خوارج» هذا العصر

فضيلة الشيخ: هذا الموضوع يحتاج إلى شرح الخلفية التاريخية والعلمية، جمهور المسلمين لم يكونوا على هذا المذهب، جمهور المسلمين كانوا مالكية وشافعية وأحناف، الإمام أحمد بن حنبل، وهو إمام أهل السنة، وهو إمام من أئمة أهل السلف، وليس إمام السلف كلهم، الإمام مالك من أئمة السلف، الإمام أبو حنيفة من أئمة السلف، الإمام الشافعي من أئمة السلف، كثيرون جدا من أئمة السلف، والسلف ليس مدرسة، ليس مذهبًا!!

عمرو: الدارج السلف الصالح، الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم، والتابعين.

فضيلة الشيخ: شوف كلمة سلف لم ترد في القرآن إلا في موضع واحد، وجاء أيضا في موضع الذم: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ – فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ»

ولا يوجد حديث عن النبي: «إذا وجدتم اختلافا فعليكم بمذهب السلف»، وإنما «إذا وجدتم اختلافا فعليكم بالجماعة»، حديث يحث على اتباع الجماعة، عليكم بالجماعة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي.

مذهب السلف الآن، هل هو فعلا ينتمي إلى السلف الصالح، أم أنهم يقولون: عليك بمذهب الإمام أحمد بن حنبل فقط، والمذاهب الأخرى مقصاه؟! هذا ليس مذهب السلف، هذا مذهب الغلاة، حتى كانوا يسمونهم غلاة الحنابلة.

وهناك مؤلفات من الحنابلة أنفسهم أرشدونا ونبهونا ألا نصدق هؤلاء، لأنهم لا ينتمون إلى الإمام أحمد بن حنبل، حتى قالوا عنهم كلاما أنا لا أستطيع أن أقوله وصفا فيهم، وكيف أنهم نجّسوا هذا المذهب، أو غيّروا هذا المذهب، كما يُغير ماء البحر…، فيه لبس وتدليس وغش في استخدام هذا المصطلح، إنما الأزهر ينتمي إلى السلف الصالح!

ويقول فضيلته في حديثه مع أحمد عتابي، برنامج «فقه الحياة»:

«المذهب الأشعري، وهو المذهب الوسطي، مذهب السنة والجماعة، وهم الذين يُأولون لا يُفوضون، المفوضون قلة قليلة جدا من عينة الإمام أحمد بن حنبل، أما الأغلبية العظمى من علماء الأمة الإسلامية ومن فقهائها، ومن أئمتها، مُأولون.

فلا معنى أن أظهر تراث المفوضين وأعلنه على أساس أنه الإسلام الذي لا إسلام غيره، ولكن أن يقال إن المذهب الوهابي هو مذهب السلف، وغيره مذاهب ضالة، هذا خطأ وهذا جهل، وهذا إضلال للناس»!!ويقول فضيلته في حلقة أخرى:

«موضوع السلفية موضوع مُعقد وشائك ومُشكل حقيقة، لأن استغل ضرب الوسط من جميع الجهات الخارجة عن الوسط، تحدثنا في أكثر من حلقة أن السلفية المعاصرة تدعي الانتماء إلى السلف الحقيقي، وسلف الأمة، وهم علماء الأمة وأئمتها، الذين اتخذوا لهم سمتا معينا في التعامل مع النصوص، السلف الحقيقي موجود، ولكن الذين لبسوا قميص السلف ليسوا بسلفيين!!

فيجب تحرير ماذا تعني السلف، السلف الحقيقي ده شيء نفتخر به في تراثنا، ونعتز به تماما، وهو موقف يُظهر مدى دقة الذين اتجهوا هذا الاتجاه الورع جدا، دقتهم في فهم أين يقف العقل، وهؤلاء هم قلب الإسلام، ولكن ليسوا هم في الميدان وحدهم، معهم الذين دخلوا في تفسير الآيات المتشابهات في القرآن الكريم!!

وهنا علينا أن نتوقف عند بعض الجمل التي جاءت في حديث فضيلته:

أولا: «إنما الأزهر ينتمي إلى السلف الصالح»!!

والسؤال: من هم «السلف الصالح» الذي تنتمي إليه مؤسسة الأزهر، وهي المؤسسة الدينية الرسمية؟! الجواب في «ثانيا»!!

ثانيا: »المذهب الأشعري، وهو المذهب الوسطي، مذهب السنة والجماعة، وهم الذين يُأولون لا يُفوضون»!!

والسؤال: سبق أن ذكر فضيلته في حلقة من برنامج «فقه الحياة»، أن الأشاعرة هم أهل السنة، وقال تحديدا: «من هم أهل السنة إن لم يكن الأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة»؟!

ثم قال: «هم أهل السنة، والذين يقولون اليوم إنهم هم أهل السنة، قد وُصفوا في مراحل التاريخ بأنهم مشبهة ومجسمة، وكثير من علماء الإسلام من كفرهم»، وقد سبق أن ذكرت حديث فضيلته كاملا والرد عليه في مقال: «عندما يصبح الكافر مؤمنا، حسب هوى المذهب».

نفهم من ذلك أن مؤسسة الأزهر ترى أن «الفرقة الناجية» هي فرقة أهل السنة والجماعة، وتحديدا «السلف الصالح» منها، وهم الذين ينتمون إلى المذهب الأشعري، وهؤلاء هم قلب الإسلام، كما ورد في «ثالثا».

ثالثا: «السلف الحقيقي ده شيء نفتخر به في تراثنا، ونعتز به تماما…، دقتهم في فهم أين يقف العقل، وهؤلاء هم قلب الإسلام»!!

والسؤال: ما معنى قول فضيلته: إن دقة «السلف الحقيقي» في فهم أين يقف «العقل»، ومعلوم أن فضيلته يقصد بـ «السلف الحقيقي» المذهب الأشعري؟!

عندما ظهرت «المعتزلة» مع بداية القرن الثاني الهجري، اهتمت بالدفاع عن الشبهات التي وُجّهت إلى الإسلام، وإلى أسماء الله وصفاته الحسنى، وجعلت «العقل» حاكما على صحة النقل، ثم بظهور أحمد بن حنبل «ت ٢٤١هـ»، في القرن الثالث الهجري، ظهرت أزمة التخاصم والتكفير بين »المعتزلة» و«الحنابلة»!!

ولقد ظلت الأزمة العقدية بين »المعتزلة» و«الحنابلة» قائمة، وخصوصا الغلاة منهم، وانحصر الفكر الإسلامي، وتدين المسلمين، في قضايا «التجسيم والتشبيه»، وهل كلام الله مخلوق أم غير مخلوق، وفي ظل هذه البيئة التخاصمية ظهر أبو الحسن الأشعري، الذي ولد عام «٢٦٠هـ» وتوفي عام «٣٢٤هـ«، وتربى فكريا على أيدي «المعتزلة»، ثم تركهم وأخذ طريقا وسطا بينهم وبين «الحنابلة»!!

ولن أدخل في تفاصيل الخلافات العقدية حول أفعال الله تعالى وصفاته، التي كانت محل صراع وتخاصم بين الفرق والمذاهب المختلفة، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وما زالت إلى يومنا هذا، وهل يجب أن يخضع النقل للعقل، أم العكس، وهل إذا تعارض النقل والعقل وجب تقديم العقل..، فهذا بحر متلاطم الأمواج، لا قرار له!!

ولكن الذي يهمنا في هذا السياق، هو بيان أن الوسطية التي قيل أنها ميّزت المذهب الأشعري عن غيره من المذاهب العقدية، تكمن في قولهم:

إذا كان الحنابلة يقولون: إن كلام الله أزليّ، حتى حروف القرآن اعتبروها قديمة غير مخلوقة، والمعتزلة يقولون: إن كلام الله حادث والقرآن حادث، فإن الأشعرية يقولون إن حقيقة الكلام ليست الحروف والأصوات، بل هي الكلام النفسي القائم بالنفس الإنسانية، فكلام الله النفسي قديم، والقرآن لذلك قديم، أما الحروف والأصوات، أو القراءة، التي هي دلالة على الكلام النفسي، والتي هي فعل القارئ، فمخلوقة!!

وفي ذلك يقول فضيلة الدكتور أحمد الطيب، في حلقة من برنامج «فقه الحياة»، في سياق حديثه عن موقف «الطوائف الكلامية» من كلام الله:

«الاعتزال والحنابلة مذهبان متطرفان، في الوسط جاء الأشاعرة والماتريدية، وهؤلاء هم (أهل السنة والجماعة)…، قالوا كلام الله هو الذي نقول عليه أساسا هو في النفس، فكل معاني القرآن، من أخبار، ومن وعد ووعيد، ومن أمر ومن نهي…، إلى آخره، كل هذه معانٍ كانت ولا تزال قائمة في ذاته تعالى، ولذلك يُسمونه «الكلام النفسي»، فكلام الله هو الكلام النفسي، هو المعاني المجردة التي تقوم بذات مجردة عن الحسّيات».

ولكن، ومن منطلق سنة التخاصم والتكفير بين المذاهب العقدية المختلفة، نجد أن معظم المذاهب العقدية هاجمت المذهب الأشعري، وبيّنت تهافته، وأن ما يدعيه أنصاره من أنه المذهب «الوسط» لا أساس له من الصحة!!

في كتابه «التسعينية»، رد ابن تيمية «ت٧٢٨هـ» على مسألة «الكلام النفسي»، وقول الأشعرية إن الألفاظ والحروف ليست كلاماً، واستدلالهم على ذلك بعدة آيات قرآنية منها قوله تعالى:

«وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ»، «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً»، «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، وبيّن بطلان استدلالهم هذا!!

فإذا نظرنا إلى المحور الأساس، الذي استند إليه الذين نقضوا مذهب الأشعرية في مسألة «الكلام النفسي»، وجدناهم يقولون إن الأشعرية فرّوا من تشبيه الله بخلقه في الكلام الملفوظ، الذي وقعت فيه المذاهب العقدية الأخرى، ووقعوا في نفس الإشكال عندما شبهوا كلام الله بكلام الإنسان النفسي.

ولذلك اعتبر ابن قدامة العدوي، «ت ٦٢٠هـ»، وهو أحد علماء المذهب الحنبلي، أن الأشعرية فرقة مبتدعة، فقال في «روضة الناظر وجنة المناظر»:

«وزعمت فرقة من المبتدعة، أنه لاصيغة للأمر بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم بالنفس، فخالفوا الكتاب والسنة واللغة والعرف»، ثم بين أدلة بطلان مذهب الأشعرية من الكتاب والسنة واللغة والعرف!!

إن الصراع المذهبي بين العقل والنص، القائم بين أتباع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة اليوم، تمتد جذوره إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهو في حقيقته صراع تكفيري، قام على اختلاف الرؤيات في مسائل الصفات الإلهية، استنادا إلى تأويلات مذهبية للنصوص القرآنية، قد تحدد على أساسها من هي «الفرقة الناجية»، ومن هم «السلف الصالح»!!

وإذا كان «المذهب الأشعري»، قد ظهر بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، وسط هذه البيئة التخاصمية التكفيرية، فمن حق كل مسلم أن يسأل:

إذا كان هذا هو حال الفرق والمذاهب العقدية، التي ظهرت بعد تفرق المسلمين وتخاصمهم وتقاتلهم

إذن فعلي أي أساس شرعي، أو منطقي، يكون أتباع «المذهب الأشعري» هم «الفرقة الناجية» المتبعة لـ «السلف الصالح»

وتكون مؤسسة الأزهر هي المرجع الأساسي فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية

والجهة التي من حقها مصادرة الفكر المخالف لمذهبها ومعاقبة صاحبه

بدعوى أنه خالف معلوما من الدين بالضرورة، أو ازدرى الدين الإسلامي؟!

محمد السعيد مشتهري



(422) 28/2/2016 (احذروا أن تلعبوا مع الله)

 عدد المشاهدات : 214

إن «الإسلام»، إعلان الالتزام بالدين الذي أمر الله اتباعه، و«الإيمان»، إقامة البرهان على إخلاص الدين لله، وفق الحق الذي أنزله في كتابه: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ».

ولن يقبل الله تعالى غير الدين الخالص: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ»، والذي يقابل الدين الخالص الشرك: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ»

إن دلائل الوحدانية خير شاهد على أنه: «هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»، لذلك قال بعدها: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ».

وهنا يأتي الابتلاء، وتأتي الفتن، ليعلم الله الذين صدقوا وأخلصوا دينهم لله، ويعلم الكاذبين: «وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا خوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ».

إن الذي لم يخلص دينه لله، ولم يجعل بوصلة حياته «الدين الخالص»، لا يذكر الله إلا في الضراء، وينساه في السراء، وينشغل بالنعم عن المنعم، فقال تعالى: «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

أما الذي أخلص دينه لله، فإن حاله يختلف، وتختلف دنياه عن الذي أشرك بالله: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً»، فالليل وقت نوم وراحة، فإذا قام المرء وآثر العبادة فيه، فذلك دليل على أنه: «يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ»، لذلك قال بعدها: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ».

هل يستوي الذي علم الحق، فقنت آناء الليل، «يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ»، مع مَن جعل لله أندادًا؟! «إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»!!

إن «أولي الألباب» هم الذين عرفوا الحق، وأقاموا عبوديتهم لله على الدين الخالص، فإذا لم يتمكنوا من إخلاص دينهم لله في بلادهم، فأرض الله واسعة: «قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

إن «الإسلام الحق»، هو الذي نبع من قلب مؤمن أخلص دينه لله تعالى: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ»، وإن «المسلم الحق»، هو الذي يعيش حياته خائفا من معصية الله:

«قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

وللمرة الرابعة يؤكد الله تعالى على أن «الوحدانية» هي إقامة «الدين الخالص» في الأرض: «قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي».

إن هذه الآيات، من سورة الزمر، وضعت القواعد التي يقيم عليها المسلم مقتضيات إيمانه بالله تعالى، وعلى رأسها الوحدانية، وإخلاص الدين لله.

ولا يستوي من علم الحق، وعرف أن شرعة ومنهج حياته في كتاب الله، مع من لم يعلم ولم يعرف، لأن الله يقول: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا».

إن الذين وصلتهم رسالة ربهم، وعلموا أنها حق، وعرفوا أن الله لن يقبل إلا «الدين الخالص»، وأن أرض الله واسعة، ثم بعد ذلك أخلدوا إلى متاع الدنيا وزينتها، وفتنتهم أموالهم، ظنا أنهم ينفقونها في سبيل الله، وما هي في سبيل الله، هؤلاء يقول الله تعالى لهم:

«الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا، وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ».

ويقول للذين عرفوا الحق نظريا، وهجروه عمليا: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى».

إن من غضب الله على المسلمين، أن أنزل العذاب بهم، ومظاهره معيشتهم الضنك، التي لا تخفى على أهل البصيرة:

«قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ، أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا، وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ، انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ»

فهل فقه المسلمون لماذا معيشتهم ضنك؟!

وهل فقه الذين يرون آيات العذاب شاخصة أمامهم ولا يعتبرون، أنهم من القاسية قلوبهم، وأن عليهم أن يتوبوا إلى الله، ويؤمنوا، ويقنتوا آناء الليل، يسجدون ويتضرعون؟!

محمد السعيد مشتهري



(423) 29/2/2016 (الشفاعة في الدنيا، والحصاد في الآخرة)

 عدد المشاهدات : 299

«الشفاعة» سُنة اجتماعية جرت عليها أعراف الناس، سواءً أكانت حسنة، جلب منفعة أو دفع ضر يكون للشافع ثوابها، أم سيئة، جلب ضر أو دفع منفعة يحمل الشافع وزرها، ولا يتصدّى للشفاعة إلاّ من تُقبل شفاعته، وعندها يُقال: شفع فلان عند فلان في فلان فشفّعهُ فيه، أي فقبل شفاعته، يقول الله تعالى:

«مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً»، «النساء ٨٥»

إن «الشفاعة» دعوة لها فاعليتها الاجتماعية في عالمنا المعاصر، إنها دعوة إِلى فعل الخير والتزام جانب الحق والعدل، دعوة إلى نشر مبدأ التكافؤ والتعاون الاجتماعي بين الناس، ونبذ الأنانية وحب الذات وتجاهل الآخرين، دعوة لإِنقاذ العصاة قبل الوقوع في المعاصي، والأخذ بيد من وقع إلى باب التوبة حيث الأمان والثقة بالنفس.

إنها دعوة إلى القيام بأعمال «الشفاعة» والتوجيه، وتشجيع الآخرين على فعل الخير على أساس أن المحرض على عمل الخير سيناله نصيب من نتائجه دون أن ينقص شيء من نصيب الفاعل الأصلي، وأن المحرض على عمل الشر سيناله نصيب من نتائجه هو، وكل من شاركوا فيه بأية وسيلة من وسائل التحريض، دون أن ينقص من أوزارهم شيء.

ولقد حرّفت المعتقدات والشرائع البشرية هذه «الشفاعة»، ونقلتها من دائرة الأعراف الاجتماعية، إلى دائرة الحساب في الآخرة، فنزل القرآن يُصحح، ويُبيّن أن الذي يضع ميزان الحساب في الآخرة هو الله تعالى، وهو ميزان قسط، لا يحتاج إلى وسطاء يشفعون فيه.

«وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»، «الأنبياء ٤٧»

إن مسألة وجود شفعاء في الآخرة، يُدخلون من شاؤوا الجنة، ويُخرجون من شاؤوا من النار، من المفاهيم الخاطئة التي كانت منتشرة في عصر الرسالة الخاتمة والموروثة عن أتباع الديانات السابقة، التي انحرفت عن صراط الله المستقيم.

لقد نزل القرآن يبين مسألة «الشفاعة» بأسلوب يعرفه الناس ويفهمونه، يكشف لهم زيف وبطلان اعتقادهم أن «الشفاعة» التي اعتادوا عليها في الدنيا، حيث العمل، يمكن أن تنتقل إلى الآخرة، حيث الحصاد والجزاء والحساب.

ولقد حذرت أول آية قرآنية تتعلق بموضوع «الشفاعة» المؤمنين من هذا الاعتقاد الخاطئ، الذي كان منتشرا في عصر الرسالة، ونفت استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعاً عند الله يوم القيامة، فقال تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ، وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ»، «البقرة ٢٥٤»

والمتدبر لسياق الآية يعلم أنه يتحدث عن أحكام الشريعة، «أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ»، ويُبيّن أنه لا وسطاء في الآخرة، من «بيع، صداقة، شفاعة»، وأن أعمال الإنسان هي التي ستشفع له، لإبطال زعم الكافرين وجود شفعاء لهم في الآخرة، «وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ».

ثم جاءت الآية بعدها «٢٥٥» تثبت «الشفاعة»، مشروطة بإذن الله:

«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»

فهل هذا معناه تخصيص العام الوارد في الآية «٢٥٤»، الذي نفى الشفعاء في الآخرة، وقصره على الذين أذن الله لهم بها؟!

هذا يحتاج منا إلى وقفة وتدبر لمعنى «إذن الله»، حسب وروده في السياق القرآني، وهل جاء بمعنى «السماح» و«التصريح» و«الموافقة» بأداء الفعل، كما تعارف عليه الناس؟!

إن «إذن الله» هو مشيئته، وهو الأمر التكويني، فكل شيء في هذا الكون لا يكون، ولا يعمل، إلا بإذن الله ومشيئته، ولا تتنزل الشرائع على الرسل إلا بـ «إذن الله»:

«قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»

ولا يحمل الرسل البراهين الدالة على صدق نبوتهم إلا بـ «إذن الله»:

«وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»

وبـ «إذن الله» خُلقت النفس مستعدة لقبول الحق والباطل، والصلاح والفساد، والفجور والتقوى، وعلى الإنسان أن يختار:

«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا-_ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا»

وعلى أساس هذه السُنّة الكونية قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ»

إن معظم الآيات التي ورد فيها «إذن الله» جاءت تتحدث عن الوحدانية، وفاعلية أسماء الله الحسنى، والالتزام بأحكام الشريعة، وذلك ردا على المشركين الذين يزعمون أن «الشفاعة» يمكن أن تعفيهم من هذه الالتزامات، ومنها قوله تعالى:

«إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الأَمْرَ، مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ»، «يونس ٣»

لقد تحدتث الآية عن دلائل الوحدانية، وفاعلية أسماء الله الحسنى، لبيان من هو الإله المعبود: «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ»، فما علاقة مسألة «الشفاعة» في هذا السياق، وهل هي في الدنيا أم في الآخرة؟!

إن السياق الذي وردت فيه الآية يخاطب الكافرين المشركين، الذين يستحيل أن يموتوا على الكفر والشرك، ثم يأذن الله لأحد من خلقه أن يشفع لهم!!

لقد جاءت هذه الآية، وغيرها من الآيات الكثير، لتصحيح العقائد والمفاهيم الباطلة عن ميزان الحساب في الآخرة، التي كانت منتشرة في عصر الرسالة، وتُبيّن أن الذي ينفع الإنسان ويشفع له هو عمله، إذا أداه وفق مقتضياته وشروطه، أي وفق «إذن الله»، وهذا كله في الدنيا، لذلك عندما يقول الله تعالى:

«يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً- وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً – لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً»، «مريم ٨٥-٨٧»

علينا أن نسأل: من هم الذين «لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ»؟! هل يُعقل أن يشفع المتقون للمجرمين؟! إذن فالسياق سياق استنكاري، لأن الذين ظنوا أن شفاعة الشافعين ستنفعهم، هم أصلا لم يتخذوا «عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً»!!

إن الآخرة ليست محلا لاتخاذ «العهود»، فاتخاذ العهود لا يكون إلا في الدنيا، لذلك رد القرآن على الذين زعموا أن «الشفاعة» تُغير الجزاء في الآخرة، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فقال تعالى:

«وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ»

تدبر كلمة «العهد» في قوله تعالى: «أْتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ»، وعلاقتها بالعهد الذي ورد في الآية السابقة: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً».

إن مسألة الإذن، أو العهد، وغيرهما من الاستثناءات التي وردت في سياق الحديث عن الشفاعة، جاءت على سبيل الاستنكار، لبيان أنه يستحيل أن تنفع شفاعة الآلهة المزيفة أو الملائكة للنجاة من عذاب الآخرة، كما كان يعتقد المشركون!!

فعن الملائكة، يقول الله تعالى:

«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ – وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ – أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ – بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ»، «الزخرف ١٩ -٢٢»

لقد عبد المشركون الملائكة، واتخذوهم شفعاء عند الله، بدعوى أنهم هكذا وجدوا آباءهم يفعلون، فنزلت الآيات تصحح هذه العقائد الباطلة، وتقول: «إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»، وتُبيّن أن الشريعة الإلهية لا تثبت إلا ببرهان إلهي، قطعي الثبوت عن الله، وليس عن الرسول: «أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ»!!

وعن شفاعة الملائكة يقول الله تعالى:

«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ _- لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ – يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»، «الأنبياء ٢٦ – ٢٨»

نفهم من قوله تعالى: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى»، نفيا لاعتقاد المشركين، الذين «قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا»، أن الملائكة ستشفع لهم، وعلى فرض أن لهم شفاعة من باب الاستنكار، فلن تكون إلا لمن رضي الله عنهم، وهل من رضي الله عنهم يحتاجون إلى شفاعة الشافعين أصلا؟!

لذلك لا يصح القول، إن الاستثناء في قوله تعالى «إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى»، دليل على شفاعة الملائكة للمشركين، بشرط أن يرضى الله، لأن هذا الادعاء لا يُقبل شرعا!!

إن الملائكة، الذين اعتاد المشركون اتخاذهم في الدنيا شركاء وشفعاء، حسب زعمهم، يتبرءون من هذه الشفاعة أصلا يوم القيامة، ويردون الأمر كله لمشيئة الله وإذنه، فتدبر:

«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى»، «النجم ٢٦»إن شفاعة الملائكة، المأذون لهم بها، هي التي نصّ عليها القرآن صراحة، ومجالها في الدنيا وليس في الآخرة،وهي استغفارهم للذين آمنوا، الأمر المُحرّم على الكافرين والمشركين، فتدبر:

«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»، «غافر ٧»

تدبر دعاء حملة العرش: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ»، إن اتباع سبيل الله هو اتباع «إذن الله»، أي أن قبول شفاعة أعمال المؤمنين يقوم على الشروط التي أذن الله بها، وفي مقدمتها التوبة واتباع سبيل الله وصراطه المستقيم، أليس هذا الدعاء، صورة من صور الشفاعة المأذون بها للملائكة في الدنيا؟!ومما يؤكد ذلك، قوله تعالى:

«تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ـ- وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ»، «الشورى ٥ -٦»

فهل المؤمنون الذين استغفرت لهم الملائكة يحتاجون إلى شفاعة الشافعين؟! وهل المشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء يمكن للنبي أن يشفع لهم، وقد قال الله له: «وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ»؟!

كما يؤكد ذلك أيضا قوله تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ـ- نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ـ- نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ»، «فصلت ٣٠ -٣٢»

فهل يمكن أن ينال المؤمنون شفاعة الملائكة، المتمثلة في الاستغفار والدعاء لهم في الدنيا، دون إذن من الله تعالى؟! هل يمكن أن ينالوا هذه الشفاعة، وهذه النزل، «نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ»، دون أن يُؤدّوا ما عليهم من مقتضيات «الإيمان والعمل الصالح»؟!

وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك، وأن الشفاعة التي يأذن بها الله تعالى، هي للمؤمنين الصالحين، الذين أدوا ما عليهم من مقتضيات «الإيمان والعمل الصالح» فما أهميتها إذن؟!

أقول: أهميتها أنها تشجع المرء وتعينه، وترفع من همته وتطمئنه، وهو مازال حيا، يعمل ويجتهد في هذه الدنيا، لعل الله يدفع بها عنه مكروها، أو يعينه على طاعة، أو يرفع بها درجته في الجنة.

إن الذين يؤمنون بشفاعة الآخرة، سينتظرون الشفعاء الذين سيأذن الله لهم بها يوم القيامة، ويستمر انتظارهم وفزعهم واضطرابهم، إلى أن تظهر الحقيقة:

«قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ـ- وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، «سبأ ٢٢ -٢٣»

ويسأل المنتظرون: «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ»؟! فتأتي الإجابة: «قَالُوا الْحَقَّ»، أي قال الكلام الحق، فما هو هذا الحق، النافي تماما لاحتمال وجود هذه الشفاعة في الآخرة؟! تدبر قوله تعالى:

«وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ـ- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ»، «الزخرف ٨٦ -٨٧»

نلاحظ أن الآيات التي وردت فيها مسألة «الشفاعة» في الآخرة، تتحدث سياقاتها عن عقائد المشركين المزيفة، فهل يمكن أن يشهد المشركون وآلهتهم المزعومة بالحق، وهم يعلمون أن الذي خلقهم هو الله، «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ»؟!

إن «الحق المشهود» سُنة الله في الحساب والثواب والعقاب، في الدنيا والآخرة، لذلك لا يشفع في الآخرة إلا «الحق» الذي حمله الإنسان في الدنيا، ووجد ثماره في ميزان حسناته في الآخرة، أما مَن جاء يوم القيامة يحمل «ظلمًا» من الدنيا، فمن أين ستأتي له الشفاعة في الآخرة؟!

«يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً – يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً»، «طه ١٠٨-١٠٩»

إن «إذن الله» قائم على علمه المطلق، الذي لا يحتاج لوسيط يذكره سبحانه يوم القيامة بصلاح عبده وتقواه، وما إذا كان «من حمل ظلمًا» يحتاج إلى شفاعة الشافعين أم لا، خصوصا إذا علمنا أن السياق يتحدث عن المجرمين، يقول تعالى «الآية ١٠٢»:

«يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا»

وهذا ما بينته بعد ذلك الآيات «١١٠-١١١» فتدبر:

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً – وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً»إن الإذن بالشّفاعة وقبولها دليل على رضا الله عن الشافع، فهل يمكن أن يأذن الله تعالى للشافع (أي يسمح له) أن يشفع في «مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» ويقبل قوله: «وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً»، وهو القائل سبحانه: «وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً»،وفي سياق يتحدث عن مصير المجرمين؟!

لقد وُضعت الموازين بالحق، فلا ظلم يوم القيامة، فقال تعالى «الآية ١١٢»:

«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً»

إن الجزاء في الآخرة مرتبط بعمل الدنيا، هذا هو ميزان الحق والعدل الذي أقام الله عليه هذا الوجود.

إن ميزان الحساب في الآخرة لا يعرف إلا عمل الإنسان، ومدى موافقته لـ «إذن الله»، فلا يعرف رأفة، ولا محسوبية، ولا مجاملة لأحد، فتدبر:

«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ـ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه – وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه»

إن الإنسان وحده هو المسئول عن عمله، والله تعالى وحده الذي سيوفيه على هذا العمل الجزاء الأوفى، فتدبر:«أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى – وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ـ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى – ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى»

إن الحساب في الآخرة يشمل فريقين من الناس: فريق من أوتي صحيفة أعماله بيمينه، وهم المؤمنون، وفريق من أوتي صحيفة أعماله وراء ظهره، «أو بشماله» وهم الكافرون المشركون، فيقول الله تعالى:

«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ – فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا – وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا – وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ – فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا – وَيَصْلَى سَعِيرًا»

فأية «شفاعة» هذه التي يمكن أن تخترق ميزان الحق والعدل في الآخرة؟!

إن المؤمن، الذي عمل بمقتضيات الإيمان، سيحاسب حسابًا يسيرا، ويعجَّلُ به إلى الجنة، أما الكافر الذي لم يؤمن، فمصيره جهنم خالدًا فيها، فعلى أي أساس شرعي تكون هناك شفاعة في الآخرة، ومصير كل إنسان سيلقاه منشورا في كتابه؟!

إن شفاعة الآخرة حصاد عمل الدنيا، إنها الجزاء الأخروي على عمل الدنيا، فإذا مات المسلم مذنبًا، غير مُصرّ على ذنبه، ولم يتُب، فأمره مفوّض إلى الله تعالى، فقد يقبل الله شفاعة المستغفرين من المؤمنين، ومن الملائكة، ويمحو ذنوبه، قبل الإعلان عن مصير الناس: فريق في الجنة، وفريق في السعير.

محمد السعيد مشتهري


(424) 4/3/2016 (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)

 عدد المشاهدات : 206

إننا نرى بالبصر ظاهر الأشياء، ونرى بالبصيرة جوهر الأشياء وحقيقتها، لذلك سمى الله تعالى نصوص آيته القرآنية «بصائر»، لأنها تجعل الإنسان يقف على حقائق الأمور.

«قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ»

لقد استعير الإبصار « فَمَنْ أَبْصَرَ» للعلم، لبيان أن «البصيرة» قوامها «العلم» الذي ينير للنفس طريقها إلى صراط ربها المستقيم، لذلك قال بعدها: «وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا»، فليس كل من أبصر الآيات يملك «بصيرة» فهمها!!

إن الذين ينظرون إلى الدنيا بعيونهم، لا يَرَوْنَ إلا مُتعها وشهواتها وزينتها الظاهرة، وليس كل ما يَسُر القلب من الدنيا يكون خيرا للناس!!

والذين ينظرون إلى الدنيا بعين «البصيرة»، لا يَرَوْنَ إلا زرعها الذي لا تُجنى ثماره إلا في الآخرة، فلا تُسَر قلوبهم إلا بعد رعايته رعاية كاملة، والاطمئنان على جودة ثماره وقبولها، وفق معايير الحساب في الآخرة، وهؤلاء قوم «يوقنون».

«هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ»

وعندما يكون القلب هو الميزان الكاشف لحقيقة هذه الجودة، يكون على الإنسان أن يقف على طبيعة هذا الميزان وضوابطه، وهل يعمل وفق شريعة الخالق، أم وفق شريعة المخلوق.

وكلما ابتعد الإنسان عن شريعة الخالق، لا يرى مصير الأمور وعواقبها، وما في الآيات من عبر وعظات، وكلما اقترب من شريعة المخلوق، ابتعد عن «البصيرة»، فلا يرى حقيقة الأشياء!!

«أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»

إن الذي يمشي بنور القرآن، يملك «البصيرة» التي تهديه إلى صراط ربه المستقيم، فيزع الزرع الذي يؤتي ثماره بإذن ربه، ويرى الآيات ويأخذ العبر، «لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا»!!

وهناك من المسلمين من يعيشون وسط الآيات وقلوبهم لاهية، ويحافظون على الصلوات وقلوبهم مُعرضة، ويدعون ربهم ليل نهار وقلوبهم قاسية، ثم يقولون:

«مش عارفين الابتلاءات إلي احنا فيها سببها إيه»!!

«أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا، كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

محمد السعيد مشتهري



(425) 5/3/2016 (عندما يستهزأ المسلمون بالآيات الكونية)

 عدد المشاهدات : 248

الآيات الكونية لا حصر لها، والقلوب التي تفقهها قليلة، لذلك يُمر عليها الناس وهم عن ذكر ربهم غافلون، وعن تنزيهه كافرون!!

ويستغل الكافرون جهل المسلمين وتشرب قلوبهم الخرافات، ويَحْفُرون بمواد كيماوية وتقنيات معروفة، على بيضة كلمة «الله»، أو على شجرة «لا إله إلا الله»، وينخدع الجاهلون، وكأن البيضة أو الشجرة تحتاج لحفر كلمة «الوحدانية» عليها، أو جملة «محمد رسول الله»، ليعلم الناس أن «لا إله إلا الله»، «محمد رسول الله»!!

ولقد ظلت هذه الخرافات في عقيدة المسلمين عقودا من الزمن، إلى أن تظهر من جديد بين فترة وأخرى!!

أما أن ينحتون شجرة على هيئة امرأة عارية، ويضعونها ضمن مجموعة من صور الأشجار النادرة، ثم يأتي المتدينون الجاهلون ويصنعون منها فيديو ينطق بآيات قرآنية، منها قوله تعالى:

«هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ، فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ»

إنك عندما ترى آيات الآفاق والأنفس، تقول: «سبحان الله»، وهذا معناه: «تنزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله، وبفاعلية أسمائه الحسنى.

فهل من هذا التنزيه الإبداع الفني في كشف العورات، بهدف أن يقول الناس: «سبحانه الله» على هذا الجمال الرباني؟!

إن الصورة المقصودة في هذا الفيديو هي الصورة قبل الأخيرة، واللافت للنظر أن يأتي عند ظهور هذه الصورة قوله تعالى: «بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ»!!

إنه عندما يقيم المسلم حياته على الشريعة السلفية، يعيش حياته بقلب مظلم، فلا يرى الوحدانية إلا من خلال أئمة السلف، وفرقته الإسلامية التي يموت عليها، وهو يحمل معه إلى الآخرة نفس القلب المظلم، فيدخل جهنم خالدا فيها!!

محمد السعيد مشتهري

https://www.facebook.com/mohamed.moshtohry.1/videos/979423338806215/


(426) 7/3/2016 (لكن ليس من حق الأنبياء إخراج من في النار)

 عدد المشاهدات : 329

لقد اخترقت الإسرائيليات أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، وأخطر ما في هذا الاختراق ما يتعلق بملة الوحدانية، وبفاعلية أسماء الله الحسنى، وهل القرآن كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ وهل من دخل النار سيخرج منها بشفاعة الشافعين، من ملائكة وأنبياء وأولياء؟ هذه المسائل الكلامية التي سُفكت في سبيل الدفاع عنها الدماء!

ومع بيان القرآن لطبيعة الحساب في الآخرة، وأن الذي سيشفع للإنسان هو عمله، والتزامه بمقتضيات الوحدانية، كما فصلنا ذلك في المقال السابق، فإن أئمة السلف والخلف يُصرّون على وجود شفعاء يُخرجون عصاة المسلمين من النار، وعلى رأسهم النبي محمد، عليه السلام، فإذا ذهبنا إلى كتاب الله، وجدناه ينفي نفيًا تامًا أن يكون من حق أي مخلوق أن يُخرج من في النار، فيقول الله في سورة آل عمران:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ»

فلماذا تولى «الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ» عن الالتزام بأحكام الكتاب؟!

الجواب: لأنهم كانوا يعتقدون أن عذاب الآخرة أيام معدودة، فلماذا لا يستمتعون بشركهم، وبشهواتهم، ومعصية الله ورسله؟!

«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ»

إن المغرور يصعب عليه الإقلاع عن المعاصي، والذي يفتري على الله ورسوله الكذب قد أظلم قلبه، والذين دَوّنوا تراثهم الديني، ونسبوه إلى الله، وقالوا إنه «وحي يوحى»، ويلٌ لهم مما كتبت أيديهم، فتدبر:

«فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ»، «وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ». [البقرة ٧٩ – ٨٠]

فهل اتخذ أئمة السلف والخلف عند الله عهدا، «فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ»؟! هل من أئمة السلف والخلف من يملك البرهان الإلهي على أن رسول الله محمدا، عليه السلام، سيُخرج عصاة المسلمين من النار؟! «أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»؟!

لذلك قال الله بعدها، مبيّنا طبيعة ميزان الحساب في الآخرة: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». [البقرة٨١]

هذا هو ميزان الحساب في الآخرة، وهذه هي النتيجة التي سيراها الإنسان أمامه:

«اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»، «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ..»، «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ».

إن من دخل النار لن يخرج منها، ولن ينفع أئمة السلف تحريفهم لكلام الله لخدمة مذاهبهم الكلامية العقدية، استنادا إلى مرويات وجدوها أمامهم في عصر التدوين، ما أنزل الله بها من سلطان، فجعلوها حاكمة على فهم النص القرآني، ثم وظّفوا «علم البيان»، وما حمله من استعارات تمثيلية، مصرحة أو مكنية، لخدمة هذا التحريف!!

تعالوا نلقي نظرة على هؤلاء الذين ظنوا أن الآخرة محل شفاعة، وأنهم وإن طال الزمن سيخرجون من النار، فنزل القرآن يرد عليهم:

أولا: المشركون، الذين زعموا أن شركاءهم سيشفعون لهم:

«وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ». [الأنعام ٩٤]

«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ». [يونس ١٨]

«ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ» [يس ٢٣]

ثانيا: الكافرون، الذين لم يعملوا بمقتضيات الدين الإلهي، وكانوا يخوضون مع الخائضين، ويعتقدن أن الشفاعة ستنفعهم في الآخرة:

«فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ». [الأعراف ٥٣]

«وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ، فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ». [الشعراء ٩٩-١٠٢]

«قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ». [المدثر ٤٣-٤٨]

ثالثا: اليهود الذين قال لهم الله: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ»، فظنوا أن هذه الأفضلية ستكون شافعا لهم في الآخرة، فقال تعالى:

«وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ». [البقرة ٤٨]

ثم قال أيضا في الآية [١٢٣]: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ».

رابعا: الذين يؤمنون أن الشفاعة لله جميعا، وقد أذن الله للنبي أن يشفع في أمته، استنادا إلى أحاديث منسوبة إلى النبي، فخلطوا بين «الآية»، و«الرواية»، وعلى أساس هذا الخلط ادّعوا أن النبي سيأذن لمن شاء من أمته أن يشفع في من شاء، ويسمون هذه «شفاعة ظلية»، ويستندون في ذلك إلى جملة «مِنْ دُونِهِ»، التي جاءت في بعض الآيات، ومنها:

«وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ». [الأنعام ٥١]

«وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ». [الأنعام ٧٠]

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ». [السجدة ٤]

فقالوا إن جملة « مِنْ دُونِهِ»، قد بيّنها قوله تعالى «قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا»، أي أن الله وحده الذي يملك الشفاعة، فالأمر كله لله: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

ومع إيماننا بعلم الله المطلق، وأنه يستحيل أن يتم شيء في هذا الوجود إلا بمشيئته وإذنه ورضاه، وأنه وحده مالك يوم الدين، يوم الحساب، الذي بيده الأمر كله، إن شاء أدخل الناس جميعا النار، وإن شاء أدخلهم الجنة، فهو القائل عز وجل عن أهل النار: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»

وعن أهل الجنة: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»

مع إيماننا بكل هذا، إلا أننا لا نتصور أن قرار دخول الجنة أو النار، يمكن أن يتغير يوم القيامة، بشفاعة ملك، أو رسول، أو أحد من الصالحين، فنحن أمام نصوص قرآنية يجب أن تُفهم في سياقاتها، وبالاستعانة بالأساليب البلاغية للسان العربي، والتي لا تملك الدليل قطعي الثبوت عن الله، قطعي الدلالة، أنه سبحانه سيجعل النبي يشفع في من دخلوا النار من أمته، ويخرجهم منها!!

إن القائل: «لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً» هو الله تعالى، وهو القائل: «لله الْعِزَّةُ جَمِيعاً»، لبيان انفراد الله بفاعلية أسمائه الحسنى، التي لا يشاركه فيها أحد، وأن التقول على الله بغير علم جهل بهذه الفاعلية، ونفهم ذلك بتدبر قوله تعالى:

«مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ». [فاطر ١٠]

إن «العمل الصالح»، الذي يرفعه الله تعالى، هو «الشفيع» الذي يشفع لصاحبه في الآخرة، وإذا كان أصحاب الكبائر خالدون في جهنم، فهؤلاء يمكن أن تشملهم الشفاعة في الدنيا، ويبدل الله سيئاتهم حسنات، إذا تابوا والتزموا بمقتضيات «الإيمان والعمل الصالح»، فتدبر:

«إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً، فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً». [الفرقان٧٠]

إن الشفاعة في الدنيا، ومحو السيئات، وتكفير ذنوب أهل الكبائر، تأتي في إطار فاعلية أسماء الله الحسنى المتعلقة بالدنيا، ومنها أنه سبحانه «الرحمن الرحيم»، فتدبر:

«وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». [الأنعام ٥٤]

وتدبر قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»، «وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً». [النساء ١٧ ـ ١٨]

إنه عندما تقترب مقدمات الموت، وتظهر علاماته، ويعلمها الإنسان، وقد تستمر شهورا، فإن القانون الإلهي: «لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»، فقد آمن فرعون عند غرقه، فقال الله له: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»!!

ولذلك لن ينفع المسلم، الذي لم يعمل بمقتضيات «الإيمان والعمل الصالح»، دعاء المؤمنين، ولا قنوت الأولياء الصالحين، ولن يقبل الله توبته، بعد أن بيّن الله ذلك في الكتاب، ونلاحظ أن آية «وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ..»، قد جمعت الذين لم يتوبوا إلا عندما حضر الموت، مع الذين ماتوا وهم كفار، في ميزان واحد: إن من دخل النار فلن يخرج منها، واجتناب الكبائر هو ضمانة تكفير السيئات في الدنيا، وشفاعة الله وقبول توبة العصاة محلها الدنيا، وليس الآخرة، فتدبر:

«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً». [النساء ٣١]

إن يوم القيامة يوم حساب، وإعلان لنتائج الأعمال، وليس يوم تغيير النتائج بشفاعة الشافعين، فتدبر: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ». [آل عمران ٣٠]

وتدبر قول الله تعالى: «وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ». [الزمر ٦٩-ـ ٧٠]

وكل ذلك يتم قبل أن يذهب أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، فهل بعد أن قال تعالى: «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ»، يكون هناك مجال لشفاعة الشافعين؟!

إن المسلمين الذين عصوا النبي في حياته، والذين عصوا رسالته بعد وفاته، هؤلاء لا نجاة لهم من العذاب المهين في الآخرة، إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم في الدنيا، وهذا ما بيّنه الله مخاطبا المسلمين المؤمنين، بقوله تعالى:

«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ». [النساء ١٣ـ١٤]

لقد جاءت الآية في سياق بيان ملة الوحدانية، ووجوب الالتزام بأحكام الشريعة القرآنية، فماذا يعني تحذير الله المسلمين المؤمنين، من تعدي حدود الله، وأن من يتعداها يدخل النار خالدا فيها؟!

ثم كيف يجرؤ أئمة السلف والخلف، بعد هذا البيان الإلهي قطعي الدلالة، على القول: إن من قال «لا إله إلا الله» دخل الجنة، وإن فعل كل الكبائر، وارتكب فظائع الدنيا كلها، ولكن السؤال: هل من فعل ذلك ولم يتب، سيمنع إسلامه الوراثى كفره؟!

إن الباب الوحيد للشفاعة، الذي أذن الله تعالى به في الدنيا، هو باب التوبة، والعمل الصالح، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، واستغفار الملائكة، فإذا مات المرء ولم يتب، ولم يحصل على هذه الشفاعة، مات كافرا، والله تعالى يقول عن النار: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»، وعن الكافرين: «خَالِدِينَ فِيهَا، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ»؟!

لقد شفع نوح، عليه السلام، للمؤمنين من قومه، فقال:

«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً». [نوح ٢٨]

وشفع النبي محمد، عليه السلام، للذين آمنوا معه:

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً». [النساء ٦٤]

لقد طلب النبي من الذين ذهبوا إليه ليستغفر لهم، أن يستغفروا الله أولا، ثم استغفر الرسول لهم، وهذه هي شفاعة النبي في الدنيا، وهناك من استغفر لهم النبي، ولم يقبل الله استغفاره، أي لم يقبل شفاعته، لأنهم كانوا من المنافقين، فقال تعالى:

«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ». [التوبة ٨٠]

ويقول الله تعالي عن شفاعة المؤمنين في الدنيا:

«وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ». [الحشر ١٠]

إنني لا أنكر فاعلية العدل الإلهي في الدنيا والآخرة، والتي تقتضي أن يكون العقاب على قدر المعصية، فلا يتساوى المشرك مع المسلم المصر على الزنى، ولكن الذي لم يتدبره أئمة السلف والخلف جيدا، قوله تعالى في سورة الفرقان، في سياق الحديث عن صفات عباد الرحمن:

«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَزْنُونَ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا»

إن المتدبر لسياق الآيات، يعلم أن الشرك بالله معصية، يُخلد صاحبها في جهنم، وقتل النفس بغير حق معصية، يُخلد صاحبها في جهنم، والزنى معصية، يُخلد صاحبها في جهنم، وأن الذي أدخل أصحاب هذه المعاصي جهنم، خالدين فيها، إصرارهم على ارتكاب المعاصي، وعدم التوبة منها، والكافر لا يُخاطب بالالتزام بأحكام الشريعة، كالقتل والزنى، لأن ليس بعد الكفر ذنب!!

إنه عندما يوضع الشرك مع القتل مع الزنى في ميزان واحد، ميزان الخلود في جهنم، فهذا من العدل الإلهي، لأن المصر على سفك الدماء بغير حق، وعلى الزنى، قد أشرك مع الله هواه، وقد قال الله تعالى مخاطبا رسوله:

«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا»

إن الذين قالوا: إن الخلود في النار: «خَالِدِينَ فِيهَا»، غير الخلود المؤبد: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»، وأن الخلود الأول يتعلق بعصاة المسلمين، وبالتالي سيخرجون من النار حتما، هؤلاء يفترون على الله الكذب، فسياق الآيات لا يتحدث عن المسلمين، وإنما عن أهل جهنم، الذين إذا خرجوا خرجوا جميعا!!

إنه لا توجد آية قرآنية تعطي الحق لأي مخلوق، حتى لو كان نبيا، أن يُخرج من النار من حقت عليهم كلمة العذاب، ولذلك حذر الله أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، من هذا الاعتقاد الباطل، بل وخاطب النبي نفسه قائلا:

«أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ»؟!

إن المتدبر للسياق الذي وردت فيه هذه الآية، من سورة الزمر، «الآيات ٦ ـ-١٩»، يجد أنها جاءت في سياق عام، يخاطب الناس جميعا، بدأت بالحديث عن دلائل الوحدانية:

«خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ»

ثم جعل الله الناس مختارين في تدينهم: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»

وبعد أن بيّن الله الفرق بين الجاحد لنعم الله، الذي لا يلجأ إلى الله إلا إذا أصابه الضر، وبين الذي أخلص دينه لله، الشاكر في السراء والضراء، قال تعالى لرسوله: «قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»

ثم بيّن مصير العصاة الجاحدين لنعم الله: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ»

أما الذين اتقوا ربهم وأنابوا إليه: «لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»ثم قال بعدها: «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ»!!

إذن فمن أين جاء أئمة السلف والخلف، أن الله سيجعل النبي يشفع في عصاة أمته، ويخرجهم من النار؟!

ألم يتدبروا قول الله تعالى، مخاطبا النبي والذين آمنوا معه:

«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!

وعلى فرض أن في القرآن البرهان قطعي الدلالة على إخراج النبي عصاة أمته من النار، فأين هي أمته أصلا التي سيخرجها من النار؟!

ألم ينقلبوا على أعقابهم بعد وفاته، وتفرقوا في الدين إلى مذاهب عقدية يكفر بعضها بعضا، وقد حذرهم الله أنهم إذا ماتوا على هذا التفرق ماتوا مشركين؟!

فهل مازالوا على تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم؟!

محمد السعيد مشتهري


(427) 10/3/2016 (هل يمكن أن يتحول «الوحي الإلهي» إلى روايات؟)

 عدد المشاهدات : 211

إن حجية نصوص الشريعة الإلهية، لا تخضع لاجتهادات البشر ومدارسهم المذهبية في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، لأنها تقوم على تدوين النص التشريعي الإلهي في كتاب فور نزوله، وهي سنة الله مع جميع الأنبياء.

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .. الآية»

لذلك حذر الله الناس من نسبة أي قول إلى الله أو إلى أنبيائه، غير الذي قام البرهان الإلهي قطعي الثبوت على أنه من عند الله، فتدبر:

«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ»

لقد جاء القرآن يكشف عما أصاب الكتب التي نسبوها إلى الله وإلى أنبيائه من تحريف وتزوير، ولكن يبدو أن قضية العلم بهذه القضية، وبوجوب تدوين النص التشريعي الإلهي فور نزوله، تحتاج إلى قلوب حية، آلياتها غير مغيبة، أخلصت دينها لله، تعلم معنى أن يكون الكتاب منزلا من عند الله: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»

إن ميثاق جميع الأنبياء والرسل، ألا يقولوا على الله إلا الحق:

«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ»

لذلك أمر الله رسوله محمدا، عليه السلام، أن يدون نصوص آيته القرآنية في كتاب، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وجعله حجة على الناس إلى يوم الدين، ولم يجعل ذلك لغيره من الكتب التي نسبها الرواة والقصاصون إلى الأنبياء والرسل، ثم ادعوا أنها الوحي المكمل والمبين لأحكام الكتاب.

إن الذي يرثه المسلمون جيلا بعد جيل هو «كتاب الله»، فهل بيّن الله أن أتباع النبي الخاتم، يرثون كتابا مع «كتاب الله»، يحمل أحاديث النبي، باعتبارها «السنة النبوية» التي يكفر منكرها؟!

الجواب: إن الدليل الذي نملكه، والذي نص عليه الله تعالى في كتابه، بالدلالة القطعية، أن الذي يرثه المسلمون إلى يوم الدين، هو الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد، عليه السلام، فتدبر:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»

إن »كتاب الله«، هو النص الإلهي الوحيد الذي أمر الله النبي، والناس جميعا، التمسك به: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»

إن النبي لم يؤت كتابا مع كتاب الله، ولم يأمر الله المسلمين التمسك إلا بكتاب الله، وإلا قولوا لنا عند أي فرقة من الفرق الإسلامية نجد كتاب الأحاديث النبوية التي أمر الله اتباعها؟!

ثم أين البرهان الإلهي على وجوب اتباع هذا الكتاب، والله تعالى يقول لرسوله:

«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ»-_ «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» _- «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»

إن «كتاب الله» هو «الآية القرآنية»، التي حملت نصوص الشريعة الإلهية إلى العالمين، لذلك كان هو الكتاب الوحيد الذي يكفر من أنكر آية من آياته، أو استهزأ بها، فتدبر:

«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً»ولم يبين الله تعالى ماذا يفعل المؤمنون، إذا سمعوا روايات المحدثين، التي صنعوها بأيديهم، «يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا»!

أما أن يقال: إن الإيمان بالرسل، يعني الإيمان بما نسبه رواة الفرق والمذاهب المختلفة إليهم من روايات، كل حسب مدرسته في الجرح والتعديل، والتصحيح، والتضعيف، فهذا ادعاء لم يستطع أصحابه، عبر قرون مضت، أن يقيموا الدليل على صحته!

إن »كتاب الله«، كتاب أحكمت آياته: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»، كتاب يخرج الناس من الظلمات إلى النور: «الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، كتاب فيه بيان لكل شيء:

«وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»

تدبر العلاقة بين إخبار الله تعالى بشهادة رسوله على قومه: «شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء»، وأن يكون موضوع هذه الشهادة هو محتوى الكتاب، والذي من صفاته: «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ»

فإذا كان موضوع هذه الشهادة يشمل نصا تشريعا إلهيا ثانيا باسم «الأحاديث النبوية»، لاقتضى الأمر أن تدوّن هذه الأحاديث في عصر الرسالة، كما وكيفا، ويحفظها الله تعالى، لتتساوى حجيتها مع حجية كتاب الله، وبذلك تتحقق الشهادة على وجهها الكامل التام.

إن شهادة رسول الله، عليه السلام، كانت على نصٍ حاضرٍ أمام الناس، يعلمون حدوده وعدد كلماته، ولا شك أن هذا النص قد بلغه رسول الله من غير نقص ولا تحريف، ليقوم المسلمون على هذا الأساس، بتفعيل شهادتهم على العالمين، وهنا تظهر حكمة الحفظ الإلهي لهذا النص، فلا يجد المشهود عليهم مجالا للطعن فيه إلى يوم الدين.

ولقد بيّن الله خصائص هذا الكتاب المنزل في كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى:

«قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»

«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ..»

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»

«تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ»

إن «كتاب الله»، يستحيل أن يأتيه العوج، كيف وهو الهادي إلى صراط الله المستقيم؟!

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا»

إن «كتاب الله»، هو الكتاب الذي سيشتكي رسول الله قومه أنهم اتخذوه مهجورا، ولا نرى دليلا واحدا فيه، أن الرسول سيشتكي قومه أنهم هجروا الأحاديث التي نسبها رواة الفرق الإسلامية إليه، فتدبر هذا السياق القرآني المحكم:

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً – يَا وَيْلَتا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً- لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً – وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»

إنه لا يصح إسلام المرء، إلا إذا كان على علم بخصائص الوحي الإلهي، وأنه يستحيل أن ينزل الله على رسوله نصوص شريعة على غير صفة الحق الذي نزل به القرآن، فتدبر:

«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»

قالوا: إن قوله تعالى «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»، ليس معناه وحي «الكتاب» فقط، وإنما أيضا وحي «السنة»، القولية والفعلية والتقريرية!

نقول: إن الحديث عن «النص التشريعي» المدون في كتاب، والذي ادعى أئمة السلف والخلف أنه نصان: وحي »الكتاب«، ووحي »السنة«، وليس حديثنا عن كيفيات أداء ما أجمله هذا النص التشريعي من أحكام، هذه الكيفيات التي نقلتها لنا «منظومة التواصل المعرفي»، كالصلاة مثلا!

لقد حصره الله تعالى «النص التشريعي الإلهي»، على مر الرسالات، في وحي »الكتاب« فقط، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ»

وفي سياق بيان طرق كلام الله مع البشر، لم يكن من هذه الطرق وحي »السنة القولية«، فتدبر:

«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ»

إن كلام الله مع البشر، إما أن يكون وحيا، أو من وراء حجاب، أو بإرسال ملك، ولقد بيّن سبحانه أن الكلام مع نبيه الخاتم كان وحيا، فقال بعدها: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا»، ثم حدد طبيعة هذا الوحي بقوله تعالى بعدها:

«مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

وبيّن أن الرسول الملك الذي تولى عملية إنزال هذا الكتاب هو الروح الأمين:

«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ – نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ – عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ – بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»

كما بيّن أن اسم هذا الروح الأمين هو جبريل، عليه السلام، فقال تعالى: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»

ولا شك أن هناك طرقا أخرى للكلام مع رسول الله، غير طريق «النص القرآني»، ولكنها تتعلق بمواقف وأحداث عصر التنزيل، فقد يسبق نزول »النص القرآني» إعلام النبي بشيء يتعلق بظروف المرحلة الانتقالية التشريعية الخاصة بعصر التنزيل، ثم ما شاء الله أن يتضمنه »النص القرآني» من هذه المرحلة ينزل به وحي قرآني.

مثال ذلك قول الله تعالى: «إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»

فقد أرى الله تعالى نبيه محمداً أولا رؤيا منامية، ثم نزلت بعدها هذه الآية بموضوع الرؤيا، والعبرة منها، دون بيان تفصيلي لها، وقد يحكى النبي، عليه السلام، تفصيلات هذه الرؤيا لصحبه، وقد تنتشر بينهم، ثم تتناقلها الأجيال كروايات بشرية، ليست نصا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع، وإلا لحفظها الله في كتاب واحد كما حفظ كتابه!

ولقد أعلم الله رسوله بحال المنافقين، وأمره ألا يسمح لهم بالخروج معه، فقال تعالى:

«سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً»

ويتضح من سياق الآية، أنه حدثت حوارات بين الرسول والمنافقين، ثم أنزل الله بعدها وحيا قرآنيا بما شاء أن تتضمنه رسالته الخاتمة من أحداث عصر الرسالة.

فإذا نقل الصحابة تفصيلات مواقف وأحداث عصر التنزيل، وتتداولتها ألسنتهم على مر العصور، ونقلها عنهم آخرون، ثم جاء عصر التدوين، ودوّنها المحدثون كلٌ حسب مدرسته في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، فكيف تكون نصا تشريعيا إلهيا؟!

لقد مكث رسول الله عمره بين قومه، فهو صاحبهم الذي عرفوه جيدا، وعرفوا حديثه وعلموا أسلوبه، فلماذا لم يصدقوه، واتهموه بالضلال والغواية؟!

«وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى – مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى – وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى – إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى – عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»

لم تكن أحاديث النبي في يوم من الأيام موضع اتهام أو تكذيب أو إعراض من قومه، سواء كان ذلك قبل بعثته أو بعدها، فمتى حدث هذا التكذيب، وهذا الإعراض، وإلى أي شيء يعود الضمير «هو» في قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى»؟!

إن الذين جعلوا هذا الضمير يعود إلى كل ما خرج على لسان النبي، هؤلاء افتروا على الله ورسوله الكذب، وجعلوا «الرواية البشرية» حاكمة على «الآية الإلهية»، وحرّفوا كلام الله لخدمة مذاهبهم العقدية، وسفكوا الدماء بغير حق، تحت راية: »إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى«!

إن الضمير «هو» عائد إلى المنطوق به، ورسول الله لم يتهم بالضلال والغواية إلا عندما نطق بـ «النص القرآني»، وأعلن أنه رسول رب العالمين، ولذلك نزل القرآن يُبيّن أنه لم ينطق بهذا القرآن عن هواه «وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى»، وإنما عن وحي من الله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى».

لقد كانت تصرفات النبي اليومية، غير التي كانت بوحي قرآني، تخضع للقانون البشري، وقد أشار القرآن إلى ذلك في كثير من الآيات منها قوله تعالى:

«وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» – «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» – «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ».

لقد أفشت إحدى أزواج النبي حديثا دار بينها وبينه، ثم انتشر هذا الحديث بين أهل البيت، ولا شك أنه قد أخذ مساحة زمنية يتداول فيها، وأعلم الله النبي بما حدث، ثم أنزل بعدها وحيا قرآنيا بما شاء سبحانه أن يشمله «النص القرآني» من أخبار عصر التنزيل، فقال تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»

فإذا تدبرنا قوله تعالى: «نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»، علمنا أن الله «نبأ» رسوله بما حدث من بعض أزواجه، بطريقة من طرق الكلام غير الوحي القرآني، ولم يُفصّل هذا «النبأ» في كتابه، فهل إذا تداول الصحابة تفصيلاته، نقلا عن أزواج النبي، ثم تناقلتها ألسن الرواة حتى وصلت إلى عصر التدوين، ودوّنها المحدثون في الكتب، أصبحت نصا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع؟!

إذن فكيف يكون كل ما نطق به النبي وحيا إلهيا؟!

إن اللافت للنظر، أن الهوى المذهبي كان حاكما على فهم أئمة السلف للنص القرآني، ذلك أن الله تعالى لم يوجه خطابه أصلاً في آيات سورة النجم، للمؤمنين، وإنما خاطب المكذبين الذين لم تكن قضيتهم مع رسول الله أحاديثه، وإنما كانت قضيتهم ما نطق به من قرآن، وقال إنه من عند الله.

وعلى أساس هذا الهوى المذهبي تحول «حديث النبي»، الذي خرج علي لسانه في عصر الرسالة، إلى روايات، صحح المحدثون البعض، وضعّفوا البعض، والذي صححه البعض ضعفه آخرون، فهل من طبيعة «الوحي الإلهي»، أن نؤمن ببعضه ونكفر ببعضه؟!

لقد حدد الله تعالى طبيعة الوحي المنزل على رسوله، كما وكيفا، بحيث يستطيع أي إنسان أن يتعرف بعضه من كله، فقال تعالى:

«فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ»

تدبر قوله تعالى: «تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ»

إني عندما بيّنت في دراسة علمية أن الشريعة الإسلامية التي أمر الله اتباعها كلٌ لا يتجزأ، وأنها هي التي أنزلها الله في كتابه، أوصى مجمع البحوث الإسلامية بمصادرة هذه الدراسة، وسجنت، سألني المحقق: هل لديك مانع أن تأتي لجنة من مؤسسة الأزهر لمناقشتك في هذه الدراسة؟!

قلت: إن هذه الدراسة لا تخاطب فرقة من الفرق الإسلامية بعينها، ولا تخاطب المؤسسات الدينية التابعة لأي فرقة، وإنما تخاطب أتباع الفرق الإسلامية جميعهم، فإذا أردتم مناقشتي فيها، فليكن ذلك بتشكيل لجنة من علماء ينتمون إلى الفرق الإسلامية التي أخاطبها!

لقد عجزوا عن تشكيل هذه اللجنة، بعد علمهم استحالة أن يتفق أعضاؤها على رأي بخصوص هذه الدراسة، وأفرجوا عني، بعد أن سجنت شهرا!!

إن الذين حصروا أزمة الفكر الإسلامي في الباطل الذي حملته أمهات كتب فرقة من الفرق الإسلامية، أو في المناهج التي تدرسها المؤسسة الدينية لهذه الفرقة، أو في كتاب «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع»، الذي يخرج علينا بين فترة وأخرى على القنوات الفضائية، هؤلاء تصوروا أن تنقية أمهات كتب الفرقة التي ينتمون إليها، والمناهج التي تُدرّس في مؤسساتها الدينية، من «البعض» الباطل الذي أصابها، هو الذي سينقذ الفكر الإسلامي من أزمته!!

إن مصيبة الفكر الإسلامي ليست في تجديده ولا في تنقيته، وإنما في تأصيله، للوقوف على حقيقته، وهل من الإسلام التفرق في الدين، وتحويل «الوحي الإلهي» إلى روايات مذهبية، يدافع عنها أهل الحديث، ويهاجمها المفكرون المنتمون إلى نفس الفرقة التي ينتمي إليها أهل الحديث؟!

«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ»

محمد السعيد مشتهري


(428) 14/3/2016 (وهل يمكن أن يتحول «الذكر الحكيم» إلى روايات؟)

 عدد المشاهدات : 211

لقد نزل القرآن الكريم آية للعالمين، وشفاءً ورحمة للمؤمنين، شفاءً من أمراض القلوب وعلل الأبدان، بمنهجه القويم، وبنيته المحكمة، وشريعته الهادية إلى صراط الله المستقيم.

«وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً»

لقد نزل القرآن الكريم يحمل حجيته في ذاته، وفق دواعي الحق التي اقتضت نزوله، فكان حقا في نزوله، وحقا في موضوعه، وحقا في منهجه، وحقا في تعهد الله بحفظه.

«وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً»

فهل يمكن أن يترك الله الحق المُنزل يأتيه الباطل، وهو القائل: «وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ»؟!

هل يمكن أن يُنزل الله على رسوله نصا تشريعيا، غير الحق المنزل، ويتركه يأتيه الباطل على أيدي رواة الفرق والمذاهب المختلفة، وقد جاء بعدها مباشرة ببيان وتحديد واضح لموضوع هذا الحق، الذي أمر الله رسوله أن يبلغه، ويقرأه على الناس، فقال تعالى:

«وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً»

وقد قال تعالى في موضع آخر: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ»

تدبر العلاقة بين إنزال القرآن وإنزال الكتاب بالحق، وإخلاص العبودية لله تعالى، فأين يمكننا وضع «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة في هذا السياق المحكم، وقد آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها؟!

وهل يمكن أن تحمل هذه «المرويات»، التي آتاها الباطل، أحكام الشريعة الإلهية، والله تعالى يقول: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً»؟

تدبر قوله تعالى: «بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ»، لتعلم أن رسول الله يستحيل أن يخرج عن الإلتزام بالنص التشريعي الذي أنزله الله تعالى: «أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ»، فإن التعبير بالرؤية حقيقته الرؤية البصرية، الدالة على معاينة الشيء معاينة لا لبس فيها ولا غموض، تجعلها لا تخرج عن حدود ما أنزله الله، وهذا ما أكده قوله تعالى:

«وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ»

تدبر قوله تعالى: «وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ، بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ»، فكيف تكون «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة من الحق الذي لا لبس فيه، ومن العلم الذي لا يتبع الهوى؟!

كيف يُؤتي الله النبي مثل القرآن، كما يدّعون، وينسبون إليه أنه قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، ويقصدون بالمثل »مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة، والله تعالى يقول:

«قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»

ثم كيف يأمر الله تعالى الناس باتباع أحسن ما أُنزل إليهم، وهو الكتاب الخاتم، ثم يُنزل على رسوله مثل هذا الكتاب «مرويات»، والله تعالى يقول:

«وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ – أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ»

ثم يبين الله بعد ذلك بآيتين ماهية وخصائص هذا المنزل، الذي سيندم ويتحسر يوم القيامة من فرّط فيه، بقوله تعالى: «بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ»

وهل عندما طلب الكافرون من رسول الله، عليه السلام، أن يأتيهم بآيات حسية:

«وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»

هل أجاب الله طلبهم؟ لا، لماذا؟! لأن عصر «الآيات الحسية» قد انتهى، وجاء عصر «الآية العقلية»، الآية القرآنية، فقال تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

إن قوله تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ»، بيان واضح، بأن عصر الرسالة لم يشهد نصا تشريعا إلهيا غير الكتاب: «أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ»، فهل يعقل بعد هذا البيان الصريح، أن ينزل الله نصا تشريعيا ثانيا لبيان واستكمال ما نقص من أحكام القرآن، ثم لا يحفظه الله كما حفظ «الكتاب»، ويتركه في أيدي الرواة ليأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ليأتي جهابذة المحدثين، ليفصلوا الحق عن الباطل، كل حسب مدارسهم في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف؟!

انظر ماذا قال أئمة السلف، لإثبات حجية مصادرهم التشريعية الثانية، ومروياتهم المذهبية المتخاصمة:

إن على كل من يؤمن أن محمداً خاتم الأنبياء، وأنه مرسل إلى الناس كافة، أن يعلم أن من لوازم هذا الإيمان، الاعتقاد في حفظ الله لحديث النبي، سواء علم كيفية هذا الحفظ أو لم يعلم، وسواء كان عالما أو من العامة، لأن الله يقول: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ»، والذكر في الآية هو الكتاب والسّنة، وقد تكفل الله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ الكتاب، فلم يكن النبي يقول شيئا من عنده، «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»!

وقالوا: لو كان المراد بالذكر القرآن وحده، لاستخدم السياق كلمة «القرآن» كما استخدمها في مواضع كثيرة، فقال تعالى: «إن هذا القرآن – بل هو قرآن مجيد»، لذلك فهم يعتبرون قوله تعالى: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ» دليلا على حجية السنة المبينة للقرآن والمكملة لأحكامه، بدعوى أنه لا يُعقل أن يحفظ الله المبين ويترك البيان!

أما المصيبة الكبرى فقولهم: إن من علامات الساعة، أن يذهب جهابذة علم الحديث، فيذهب بذهابهم العلم بكتاب الله، فلا تبقى فائدة لوجود النص القرآني، لأنه لم يعد «ذِكْراً»، وعندئذ يرفعه الله إليه، ثم يأذن بقيام الساعة!

هذا ما فهمه أئمة السلف من قوله تعالى: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ»، وقد أجبت في مقالي السابق عن سؤال: هل يمكن أن يتحول «الوحي الإلهي» إلى روايات؟! وفي هذا المقال أجيب عن سؤال: وهل يمكن أن يتحول «الذكر الحكيم» إلى روايات؟!

إن «الذكر»، ليس كلمة تُقرأ «قرآن»، أو تُكتب في «كتاب»، وإنما هو معنى يُفهم، ولا يُفهم المعنى ولا يتذكره الإنسان، إلا إذا عُرف الاسم، وعرف المسمى، لذلك حفظ الله الأسماء والمسميات عبر «منظومة التواصل المعرفي».

ولقد حفظ الله القرآن ويسره للتذكر والمذاكرة، من خلال مقابله الكوني، فقال تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»، وقد بينت ذلك في مقال بعنوان: «حجية القرآن ليست في نصوصه فقط، وإنما في مقابلها الكوْني».

لقد جاء قوله تعالى: «فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»، في سياق الحديث عن تيسير القرآن للذكر، والمُدَّكِر هو الذي يتفكر في الدليل، ويتذكره لأخذ العبرة، قال تعالى عن سفينة نوح عليه السلام: «وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»، فقد جعل الله من سفينة نوح آية للذين أرسل إليهم الرسل، ليتعلموا منها الدرس، وتكون عبرة لهم.

والقرآن الذي يسره الله للذكر، ليس في آياته القرآنية فقط، وإنما في مقابلها الكوني، وهذا ما بيّنه قوله تعالى: «ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ»، ثم قوله بعدها: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ»، فالسياق الذي وردت فيه الآية يخاطب الكافرين بالقرآن، الذين لم يقفوا على العلاقة بينه وبين آيات الآفاق والأنفس، وقد بيّن الله تعالى لهم هذه العلاقة بقوله: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

إن السياق القرآني عندما يصف القرآن بـ «الذكر»، فهو يخاطب الذين يعلمون أنه ليس كتابا يُكتب، ولا قرآنا يُقرأ، فقط، وإنما آية تدركها القلوب الحية: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»، والتدبر يكون بتفعيل آليات عمل القلب «آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر..»، للوقوف على العلاقة بين الآيات القرآنية ومقابلها الكوني، هذه العلاقة التي جاءت آيات كثيرة تؤكدها، منها قوله تعالى في سورة الواقعة:

«نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ … أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ … أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ … أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ. نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»

تدبر كلمة «تَذْكِرَةً»، في قوله تعالى عن هذه الآيات الكونية: «نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً»، وعلاقته بمادة «الذكر»: التذكر، والمذاكرة، والتذكير..، هذا «الذكر» الذي وصف الله تعالى القرآن به في مواضع كثيرة، فقال تعالى:

«وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»

إن الضميرين «عليه»، «هو»، يعودان إلى القرآن، بدلالة السياق، ولا يوجد مطلقا في كتاب الله ضمير يبين أن «الذكر» يعود إلى مرويات «السّنة»، التي يدعي أئمة السلف والخلف أنها من «الذكر الحكيم»!

إن من عادة الذين يعجزون عن مواجهة الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وعن تفعيل آليات عمل قلوبهم، «آليات التفكر والتعقل..»، أن ينسبوا إلى خصومهم من أهل الحجة والبرهان، من الصفات ما ليست فيهم، فاتهموا رسول الله بالجنون، بعد أن عجزوا عن معارضة «الذكر الحكيم»: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ»!

هذا هو حال كل مكابر يريد أن يهرب من المواجهة الفكرية، فعندما يعجز عن إقامة الحجة والبرهان، يلجأ إلى التجريح الشخصي لمعارضيه، ونشر الشائعات الباطلة عنهم، فتدبر:

«وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ _- وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ».

إن ضمير «هو» في قوله تعالى: «وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»، يعود إلى «الذِّكْرَ» الذي سبق بيان معناه، فهل مما أزعج الكافرين، وجعلهم يتهمون الرسول بالجنون، مرويات «السنة» التي لم تكن قد وُلدت بعد، حتى يدّعوا أن »الذِّكْرَ» يشمل هذه المرويات، لتصبح الشريعة الإسلامية «كتابا وسُنة»؟!

لقد عطف الله «الذِّكْرَ» على الآيات، في قوله تعالى: «ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ»، بعد بيان قصص وأنباء الأمم السابقة، لأنها كانت واقعا مشاهدا، يجب على الناس تذكره ومذاكرته، فهناك علاقة ملازمة وملابسة بين «الذكر الحكيم»، و«الآيات»، فتدبر:

«..قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..»

لقد جعل الله مفهوم أحد الاسمين »الذِّكْرَ» مفسرًا قائما على مفهوم الآخر «الرسول» الذي بلغ الآيات، التي تُذكّر الناس إلى يوم الدين، لذلك وصف «المنزل» بالذكر: «قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً»، وكثيرا ما تأتي الصفات معطوفة على الكتاب.

فلقد وصف الله الكتاب بـ «الفرقان»: «وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ»

إن «الفرقان» المنزل، ليس شيئا غير الكتاب، وليس شيئا غير القرآن، قال تعالى:

«تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»

ووصف الله الكتاب بـ «النور»، فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً».

ووصف الله ما كان يتلوه النبي على قومه، والذين آمنوا معه، بـ «الآيات»، وليس بـ «الروايات»، فقال تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»

وقد فصلنا موضوع »الحكمة«، وعلاقتها بالكتاب، في مقال سابق بعنوان: «عندما تصبح الحكمة الإلهية المنزلة مرويات بشرية»

إن جميع الآيات القرآنية التي جاء سياقها يتحدث عن «النص الإلهي» الذي أمر الله رسوله أن يتلوه على الناس، جاءت تتحدث عن «تلاوة» آيات الكتاب، أي اتباعها، فتدبر:

«إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ»

فهل ذكر الله تعالى أن هناك كتاب هداية يُتلى في حياة المسلمين، وعلى منابر دعوتهم، وفي مؤسساتهم الدينية، غير القرآن؟! تدبر:

«وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ..»

وتدبر: «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً»

وإذا كان الله قد أمر رسوله بتلاوة القرآن، أي بقراءته واتباعه سلوكا عمليا، فقد بشر الذين يطيعون الله، ويقتدون بالرسول، بتجارة لن تبور، فقال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ».

إن قوة التزام المسلم بأحكام الشريعة الإلهية، تنبع من ثقته في مصدرها الحق، المنزل من الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فتدبر:

«قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»

تدبر قول الله تعالى: »ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»

فهل عَقَلَ أنصار «الفُرقة والمذهبية» هذه الوصايا، وأنه يستحيل أن يأمر الله رسوله، أن يتلو على الناس نصا تشريعيا، ثم لا يأمره بتدوينه في كتاب، وتحت إشرافه؟!

ثم قال الله تعالى بعدها: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»

تدبر قول الله تعالى: «ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

فهل تذكر أنصار «الفُرقة والمذهبية» هذه الوصايا، وأنه يستحيل أن يأمر الله رسوله، أن يتلو على الناس نصا تشريعيا، ثم لا يأمره بتدوينه في كتاب، وتحت إشرافه؟!

ثم قال الله تعالى بعدها: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»

تدبر قوله تعالى في الآيات السابقة: «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، لتعلم أن أنصار «الفُرقة والمذهبية» لا يتقون الله، ولا يتذكرون، ولا يعقلون، عندما يساوون بين حجية «الآية» وحجية «الرواية»!

إن النص التشريعي الإلهي، واجب الاتباع، الذي أشرف النبي على تدوينه، هو «الكتاب» الإلهي الخاتم، بصفاته المتعددة: القرآن، الفرقان، الذكر، النور، الحكمة..، ولذلك عندما وصف المشركون القرآن بالشعر، رد عليهم الله تعالى بقوله:

«وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ»

تدبر قوله تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لَهُ»، فالذي تعلمه النبي كان بوحي إلهي، فما هو موضوع هذا الوحي؟! الجواب: «إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ«، لقد حصر الله تعالى ما تعلمه النبي من الوحي في «الذكر والقرآن المبين»، فأين مكانة وموقع «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة في هذا السياق؟!

وعندما اتهم الكافرون رسول الله، عليه السلام، بأن الذي أنزل عليه أساطير الأولين، فقالوا: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»، هل لم يكونوا يعلمون شيئا عن وجود مصدر تشريعي إلهي غير القرآن؟!

لقد رد الله هذه الأباطيل، وهذه الادعاءات، بقوله تعالى بعدها: «قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً»

وعندما أخبرنا الله أن الرسول سيشتكي قومه الذين هجروا القرآن، فقال تعالى:

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يَا وَيْلَتا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً»

هل كان يعلم هذا الظالم، أن «الذِّكْرِ» هو «الكتاب»، بالإضافة إلى مرويات «السنة» المذهبية، التي لم تكن قد ولدت بعد؟!

لقد رد الله تعالى هذه الأباطيل، وهذه الادعاءات، بقوله بعدها: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»

وإذا كان الظالم سيعض على يديه يوم القيامة لأنه ضل طريقه إلى الذكر الحكيم، فإن من أعرض عن هذا الذكر في جهنم خالدا فيها، فتدبر:

«كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً. خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً»

فكيف يكفر، ويخلد في النار من يُعرض عن «روايات» الفرق والمذاهب المختلفة التي آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها؟!

إنه لم ترد مادة فِعل «أنكر»، و«كفر»، في كتاب الله عند الحديث عن دين الله واجب الاتباع، إلا وكانت تتعلق بالكتاب و«الذكر الحكيم»، ومن ذلك قوله تعالى:

«وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ»

وقوله تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»

إن الذين يتهمون الناس بازدراء الدين الإسلامي، دفاعا عن روايات وتشريعات مذهبية ما أنزل الله بها من سلطان، هؤلاء يتقوّلون على الله بغير علم، بلا حجة ولا برهان.

إن أنصار وحُماة «الفُرقة والمذهبية»، هم الذين يزدرون الدين الإسلامي، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا، وهم سعداء بتفرقهم في الدين، ودفاعهم عن انتماءاتهم المذهبية العقَدية، والله تعالى يقول لرسوله:

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»

محمد السعيد مشتهري




(429) 15/3/2016 (على هامش تحريم الله الْخَبَائِثَ)

 عدد المشاهدات : 281

أولا: ليس كل ما حرمه الله تعالى نزل باسمه نص قرآني، كما يعتقد السطحيون، فهناك منظومة من المحرمات لا تقل في حرمتها عن التي نزل بها نص قرآني، ولم تذكر صراحة في القرآن، وتدخل في المعنى العام لقوله تعالى: «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ».

ثانيا: علينا أن نرجع إلى اللسان العربي، الذي نزل به القرآن، وإلي السياق القرآني، لنقف على تعريف «الْخَبَائِثَ» المحرمة، وخلاصة القول:

إن كل ما ثبت ضرره، علميا أو طبيا، فهو من الخبائث المحرمة تحريما قطعيا، لا شبهة فيه، ومن الخبائث أيضا ما يستقزره الإنسان حسب العرف الاجتماعي، ومنه الروائح الكريهة، و«الغازات» التي تخرج من البطن، وهو ليس موضوعنا.

موضوعنا هو ما ثبت ضرره، علميا أو طبيا، على الإنسان أو على المجتمع.

ثالثا: يجب أن نفرق بين «الخبائث» التي تُفرض على الإنسان من خارجه، ولا حول له فيها ولا قوة، كالتلوث البيئي، وتلك التي يرتكبها الإنسان باختياره، فإذا أخبر الطبيب المريض أن يمتنع فورا عن الدهون والسكريات أصبحت من «الخبائث» المحرمة عليه.

وإذا أجمع علماء وأطباء العالم على شيء فيه هلاك الإنسان، ولو بعد حين، أصبح محرما على الناس جميعا، والمسلم الذي يبلغه ذلك، ويعلمه علم اليقين، ومات مصرا على فعل هذا الخبيث المحرم، مات غير مغفور له، لأنه الله تعالى يقول:

– «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا (فَاحِشَةً) أَوْ (ظَلَمُوا) أَنفُسَهُمْ»

– «ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ»

– «وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ»

إن ارتكاب الفواحش وظلم النفس «معصية»، و«ذنب» لا يغفره الله إلا بـ «التوبة»، ولن يغفر الله ذنوب العاصين إذا أصروا على ارتكابها: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»

رابعا: ماذا يعني أن يصر المسلم على معصية الله، بظلم نفسه وارتكاب الفواحش، وقد أجمع أطباء وعلماء العالم على أن «السجاير» سمٌ قاتل، عاجلا أم آجلا، وهذه حقيقة لا ينكرها عاقل، لذلك كان الإصرار على ارتكاب ما حرمه الله شرك بالله تعالى وكفر بشريعته، لأنه القائل: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ».

خامسا: لن ينفع المسلم المصر على معصية الله شهادة «الوحدانية» التي ورثها عن آبائه، لأن القاعدة العامة للناس جميعا هي قوله تعالى:

«بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً»

«وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ»

«فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»

ولو أن المسلم تاب من بعد سيئته، ما أحاطت به خطيئته!!

محمد السعيد مشتهري


(430) 16/3/2016 (فقط للتوضيح والبيان)

 عدد المشاهدات : 227

ذكرت في المنشور السابق، «على هامش تحريم الله الْخَبَائِثَ»، في المسألة الخامسة:

«لن ينفع المسلم المصر على معصية الله شهادة الوحدانية التي ورثها عن آبائه، لأن القاعدة العامة للناس جميعا هي قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً، وأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، ولو أن المسلم تاب من بعد سيئته، ما أحاطت به خطيئته».

فظن البعض، أن قوله تعالى: « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» خاص بأهل الكتاب، الذين كتبوا الكتب بأيديهم، وقالوا إنها من عند الله، ولا علاقة لها بعصاة المسلمين، من أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، الذين ماتوا وهم يصرون على معصية الله، ولم يتوبوا!!

لقد ورثوا عن أئمة سلفهم، أن النطق بشهادة الوحدانية، ولو مرة واحدة في حياتهم، تعصمهم من الكفر والشرك، ولو ارتكبوا فظائع الدنيا كلها، كما قال شيخ الأزهر عن سبب عدم تكفيره «داعش»، في حديث له في جامعة القاهرة، وقد فصلت ذلك في منشور سابق.

لذلك لزم التوضيح والبيان، فأقول:

إن قوله تعالى: « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»، جاء في سورة البقرة، في سياق يبدأ بقوله تعالى عن أهل الكتاب:

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ {78}

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ {79}

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {80}

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {81}

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {82}

أولا: إن جملة: « وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ» معطوفة على آية سابقة هي:

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75}

فالآية تتحدث عن فريق من أهل الكتاب، افترى على الله الكذب، ونسب إلى الله شريعة ما أنزل بها من سلطان، وكتبوها في الكتب: « ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ الله»!!

وهذا ما فعله أيضا «المحدثون»، أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، نقلا عن رواة الفرق الإسلامية، عندما دوّنوا «الأحاديث» المنسوبة إلى النبي في الكتب، وقالوا: «إن هي إلا وحي يوحى»!!

وللأسف الشديد أن من أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة من أقام مشروعه الفكري على منهج ينطلق «من أساس الأسس، وأصل الأصول، التنزيل الحكيم، والسيرة النبوية» كما ذكر ذلك في توطئة كتابه!!

فهل هذا يُعقل، أن نتحدث عن الحداثة والمعاصرة ثم نتخذ أئمة السلف أسوة لنا، ونستند إلى أقولهم، ومروياتهم التي نسبوها إلى النبي، وقد آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها؟!!!

ثانيا: لقد جاء السياق القرآني بعد ذلك بالقانون العام الذي يحذر أتباع جميع الرسالات:

« فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله … الآية»

ومن افترائهم الكذب على الله في هذه الكتب قولهم: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً»

فرد الله تعالى عليهم بقوله: « قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»

ثالثا: لقد جاء السياق القرآني بعد ذلك بالقانون العام الذي يُبيّن ميزان الحساب في الآخرة، والذي يشمل أتباع جميع الرسالات:

«بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ. فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»ثم تدبر ماذا قال بعدها:

« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»

هذا هو ميزان الحساب في الآخرة، الذي يشمل أتباع جميع الرسالات.

رابعا: إن كلمة «بَلَى» في قوله تعالى: «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ»، جاءت لإثبات نقيض النفي، ككلمة «بَلَى» في قوله تعالى:

«بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»

وذلك ردا على افترائهم الكذب على الله وقولهم:

«وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»

لذلك أقول لأصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، وأنصارهم:

إن نصوص «الآية القرآنية»، الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، عليه السلام، هي القوة الدافعة للحداثة والمعاصرة، التي لا تعادلها قوة في هذا الوجود، ولكن لقوم يعلمون، يتفكرون، يتدبرون، يتفقهون!!

أما أن تقوم الحداثة والمعاصرة على تحريف ملة الوحدانية، وتفكيك بنية الكلمة القرآنية، والجهل بعلم السياق القرآني، وبعلم البيان، لإخراج منظومة من أحكام شريعة ما أنزل الله بها من سلطان، لتضل الناس بغير علم، فأين الحداثة، وأين المعاصرة في هذا الباطل؟!!

« قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ »

محمد السعيد مشتهري


(431) 20/3/2016 (المسلمون يقولون اهدنا الصراط المستقيم.. ثم يتخاصمون ويتقاتلون)

 عدد المشاهدات : 192

عندما يدعو المسلمون ربهم أن يهديهم إلى صراطه المستقيم: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»، صراط أوليائه الصالحين: « صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ »، « غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ »، هل يعلمون ما هو هذا الصراط، وكيف يصلون إليه؟!

لقد بيّن القرآن في كثير من الآيات معنى الصراط المستقيم، وموضوعه، ومنها قوله تعالى مخاطبا رسوله محمدا، عليه السلام: « فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ».

وقد بيّنت في مقال سابق، استحالة أن يتحول « الوحي الإلهي » إلى روايات، لأن الله تعالى هو الذي أمر بالتمسك بهذا الوحي، وشهد للرسول برسوخه وثباته في العمل به، وهذا ما أفاده حرف الاستعلاء «على» في قوله تعالى: « إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ».

وفي المقال السابق بيّنت، استحالة أن يتحول «الذكر الحكيم» إلى روايات، لقوله تعالى: « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ »، وأن الله جعل هذا «الذكر» موضوع السؤال في الآخرة، فكيف يتحول إلى مرويات، إن صحت عند فرقة لم تصح عند أخرى؟!

إن القاعدة القرآنية المنطقية، التي تقوم عليها هداية الإنسان إلى صراط الله المستقيم، أن يعلم الإنسان معنى قوله تعالى: « الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ »، فالله تعالى وحده الذي يهدي إلى صراطه المستقيم، وكما خلقنا بفطرة إيمانية، وبآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر، «آليات عمل القلب»، علينا أن نتعرف دلائل وحدانيته، بتفعيل هذه الفطرة، وهذه الآليات، للوقوف على الطريق الهادي إلى صراطه المستقيم.

لقد ولد الإنسان وسط عالم تعددت فيه الشرائع المنسوبة إلى الله تعالى، وكل فريق يدّعي أن فرقته الناجية، وأن شريعته أصح الشرائع، فهل يمكن أن يترك الله تعالى الناس دون أن يُبيّن لهم كيف الوصول إلى صراطه المستقيم، وما يجب عليهم فعله مع ما وجدوا عليه آباءهم من تدين مذهبي؟!

إن الهداية هي الدلالة إلى طرق العلم الموصل إلى الحق، ويبدأ العلم الحق بإقامة البراهين الدالة على الوحدانية، وعلى صدق النبوة، وصدق ما أرسله الله من كتب إلى الناس، وقد كانت البراهين الدالة على صدق النبوة حسية، تشاهدها الأعين، وتنتهي بموت الرسل، ثم جاء النبي الخاتم بكتاب يحمل برهان صدق نبوته في ذاته، هذا البرهان الذي تراه القلوب بآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر، وتستمر فاعليته بين الناس إلى يوم الدين.

إنني في القرن الخامس عشر الهجري، أشهد أن «لا إله إلا الله»، وأن هذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو كلام الله يقينا، وأن رسول الله محمدا، الذي ورد ذكره في هذا القرآن، حق، و«آيته القرآنية» الدالة على صدق نبوته حق، بعيدا عن مذاهب أئمة السلف المختلفة، ومرجعياتهم الدينية المتخاصمة!

لقد جَمَعَت نصوص «الآية القرآنية» أنواع الهدى التي تحتاج إليها البشرية على مر العصور، فجمعت دلائل الوحدانية، وصدق النبوة، وأصول الإيمان، وأحكام الشريعة، وأخبار الأمم السابقة، وآليات تنوير القلوب وإرشادها إلى طرق الاستدلال والاستنباط، والنظر والتفكير الهادي إلى صراط الله المستقيم.

ولقد ربطت كثير من نصوص «الآية القرآنية»، بين حجية كتاب الله، وأحكام الشريعة التي حملها هذا الكتاب، لبيان أنها منظومة إيمانية مترابطة متكاملة، نزل بها الوحي الإلهي على الرسل، فقال تعالى:

« كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ».

لقد قال الله تعالى: « وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ »، ولم يقل «وأنزل عليهم الكتاب»، لبيان أن «الوحي»، و«الكتاب»، و«النبوة»، و«المنزل»، وحدة مترابطة متكاملة يستحيل أن يأتيها الباطل، وجاء بيان ذلك بصورة بلاغية تُصور «الأنبياء» وكأنهم نزلوا مع «الكتب»: « وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ».

فكيف يقبل أئمة السلف والخلف، أن تختلف طبيعة وحي «الكتاب»، عن وحي «النبوة» فيكون الوحي الأول قطعي الثبوت عن الله، ويكون الثاني، الذي وسموه باسم «السُنة النبوية»، ظني الثبوت عن الرواة الذين نقلوه، وليس حتى عن النبي الذي يدّعون اتباع سُنته؟!

وتدبر قوله تعالى: « لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ »، فإذا كان الوحي الإلهي وحْيَين، فلماذا لم يذكر الله تعالى اسم «الكتاب» الذي ستدوّن فيه «مرويات» الوحي الثاني، «السُنة النبوية»، المكمل لـ «أحكام القرآن» وآليات حفظه، وذكر فقط اسم «الكتاب» الذي أنزله على رسوله محمد، وخصائصه، وأن هذا الكتاب هو الذي سيرثه المسلمون بعد وفاة النبي، فقال تعالى: « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا »؟!

كيف تكون مرويات «السُنة النبوية» من « الوحي الإلهي »، الهادي إلى صراط الله المستقيم، وقد بيّن الله تعالى أنه عند الاختلاف في مسائل الدين، علينا أن نتخذ «كتاب الله» مرجعا لإزالة هذا الاختلاف، فقال تعالى: « وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ »، ثم قال بعدها: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ»؟!

إن الذين «أوتوا الكتاب» ما كان لهم أن يختلفوا فيه، ولكن البغي أفسد قلوبهم فاختلفوا: «مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ»، وقد اختلف أتباع رسول الله محمد وتفرقوا في الدين، وذهبوا يصنعون مصادر تشريعية ما أنزل الله بها من سلطان، كانت سببًا في تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم، والله تعالى يقول بعدها: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»، فهل اهتدى أتباع الفرق الإسلامية إلى صراط الله المستقيم؟!

إن «الذين آمنوا»، في قوله تعالى: »فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» هم أتباع النبي الخاتم محمد، الذين جعل الله كتابهم مهيمنا على الكتب السابقة، فقال تعالى في موضع آخر: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ»، وجعله مبينًا لما اختلف فيه أصحاب هذه الكتب، فقال تعالى: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

لقد جاء النبي الخاتم محمد، عليه السلام، لإبطال التفرق في الدين، الذي يحدث دائما بعد وفاة الرسل، «مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ»، وأمره الله أن يحذر أمته من هذا التفرق: «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»، فهل استجاب المسلمون وأطاعوا الله ورسوله، ولم يتفرقوا في الدين؟!

وهل هدى المسلمون الناس إلى صراط ربهم المستقيم، وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، أم كانوا سببا في صدّهم عن هذا الصراط، وأخرجوهم من النور إلى الظلمات، بهجرهم كتاب ربهم، واتباعهم دينا غير الدين الذي أمر الله اتباعه؟!

إن الاختلاف والتفرق في الدين يبدأ بهجر كتاب الله، فيذهب كل فريق في تحريف أصول الدين الإلهي وتأويلها لخدمة مذهبه العقدي والتشريعي، استنادا إلى مرويات وفتاوى أئمة المذهب، بدعوى أنها «السُنة النبوية» المبينة للقرآن، والمكملة لأحكامه، في الوقت الذي يُبيّن الله تعالى للناس، أن مهمة رسوله الرئيسية هي: «الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»!!

ولو أن أئمة السلف والخلف علموا أن الهداية إلى « صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ » لا تكون إلا « بِإِذْنِ رَبِّهِمْ »، ما ادّعوا أن «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة « وحي يوحى »، وهم يشهدون ويعلمون أن الباطل آتاها من بين يديها ومن خلفها، فأين «إذن الله» الذي سمح لهم بافتراء الكذب عليه؟!

إن علة إنزال الكتاب هي إخراج الناس « مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ »، ولقد جمع الله «الظُّلُمَاتِ» لأنها تعبر عن السبل المتفرقة، وأفرد «النُّور» لأنه يعبر عن صراطه المستقيم، « صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »، فكيف يحمد المسلمون ربهم، ويقولون ليل نهار: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»، وهم في نفس الوقت يصرون على تفرقهم في الدين، وتخاصمهم وتقاتلهم؟!

لقد خاطب الله الكافرين بنبوة محمد، عليه السلام، المعاصرين له، بقوله تعالى: « وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّه »، ثم جاء بعدها بالظرفية فقال تعالى: « وَفِيكُمْ رَسُولُهُ»، لبيان أن الرسول قد جاء بكتاب، حمل البرهان على صدق نبوته في ذاته، لذلك قال بعدها: «وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

إن الله تعالى لم يقل: ومن يعتصم بالله ورسوله، لأن الاعتصام غير الطاعة، فالاعتصام لا يكون إلا للنص المنزل، الذي أمر الله التمسك به واتباعه، ولم يأمر الله الناس بالتمسك بكل ما خرج على لسان رسوله، وإنما أمرهم بطاعة الرسول في الكتاب الذي أنزله عليه، وأقاموا البرهان على حجيته، فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا».

لقد ربط الله تعالى بين «المنزل»: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا»، والبرهان الدال على صدق «نبوة» الرسول المبلغ له: « قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ ».

ولقد كان البرهان الدال على صدق النبي الخاتم برهانا عقليا، حمله الكتاب «المنزل» إلى الناس جميعا، وعلى هذا الأساس، وصف الله الكتاب بـ «النور»: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا»، فهل يمكن أن تكون مرويات «السُنة النبوية»، من هذا «النور» المنزل؟!

لقد جاء الجواب بعدها: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا»، فالضمير في جملة «وَاعْتَصَمُوا بِهِ»، يعود إلى النور، الذي هو «الكتاب الإلهي»، وهذا ما بيّنه الله في أكثر من آية، منها قوله تعالى:

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

تدبر قوله تعالى في الآية الأولى: « فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ »، « وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا »، وقوله تعالى في الآية الثانية: «وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ»، « وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ».

فهل يعقل أن تكون مرويات «السنة النبوية»، التي حملت منظومة من «المحرمات»، ما أنزل الله بها من سلطان، من النور الهادي إلى صراط الله المستقيم، وقد أساءت إلى الإسلام، وإلى المسلمين، في الوقت الذي يحذر القرآن فيه الناس من افتراء الكذب على الله، ويحذر الرسول والذين آمنوا معه من اتباع أهواء الذين يفترون على الله الكذب، فيقول تعالى:

« قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا، فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ».

إن الذي يملك التحريم هو الله وحده، لذلك فإن المحرمات لا تخرج عن حدود كتاب الله، ومن هذه المحرمات ما ذكره الله بعد الآية السابقة مباشرة، فقال تعالى: « قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً »، إلى أن قال: « ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ »، ثم قال بعدها: « وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ »، وقال بعدها: «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»، ثم قال: « ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »، ثم تدبر قوله تعالى بعد ذلك: «وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

فأين نجد مرويات «السنة النبوية»، التي انحرفت بالمسلمين عن صراط الله المستقيم، والقرآن يقول لهم ليل نهار: «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»؟! أليس تفرق المسلمين إلى فرق ومذاهب عقدية وتشريعية من السبل التي حرم الله تعالى اتباعها؟!

ثم هل يمكن أن يهدي رسول الله المؤمنين إلى سبيل غير الذي أمره الله باتباعه، وقد قال الله له:« وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ »؟!

ألم يقل الله لرسوله: « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ »؟! ثم قال له: « قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »؟!

إن الدين الذي أنزله الله على رسوله، هو الدين الإسلامي، الذي ارتضاه الله للناس جميعا، لا الذي ارتضته لهم مذاهبهم العقدية والتشريعية المختلفة، هذا الدين الذي وصفه الله بقوله: «دِينًا قِيَمًا»، هذا الدين الذي لا يأتيه الباطل، لأنه قام على: « مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا »، فهل يمكن أن يقبل أهل هذه الملة شريكا مع الله، والله يقول عن إبراهيم: «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»؟!

ولقد خاطب الله رسوله محمدا، عليه السلام، بقوله: « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ »، وفي هذا تعريض بأقوام الرسل، وليس المراد الرسل أنفسهم، وذلك لانتفاء الشرك عنهم أصلا، شرعًا ومنطقًا، فهل استجاب المؤمنون الذين يدّعون محبة الله ورسوله إلى هذا التحذير، وتبرؤوا من مصادرهم العقدية والتشريعية التي صدتهم عن صراط ربهم المستقيم؟!

إنهم لم يفعلوا، واستجابوا لدعوة الشيطان، الذي أعطاه الله حرية إغواء من اتبعه: « قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ »، و « قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ».

لقد جعل الله تعالى هذا الإغواء فتنة وامتحانا لهم، فقال تعالى: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ »

ومن آليات هذه الفتنة أن يترك الله تعالى الشيطان وأتباعه يكتبون الكتب التي تحمل الباطل، وتصد الناس عن صراط ربهم المستقيم، فقال تعالى مخاطبا رسوله محمدا: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إن أمنية أي رسول أو نبي، أن يهتدي الناس جميعا إلى صراط ربهم المستقيم، ويتبعوه، فيأتي الشيطان ويقف أمام تحقيق هذه الأمنية، ويجعل أتباع الرسل ينحرفون عن صراط ربهم المستقيم، وذلك بافتراء تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان، فيتركها الله تعالى تنتشر بين الناس، فتنة وامتحانا لهم: « وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ »، ويحفظ كتابه وآياته من افتراءات ومرويات شياطين الإنس والجن.

وينقسم الناس أمام فتنة الشيطان إلى فريقين:

الأول: مرضى القلوب: « لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ».

الثاني: الذين أوتوا العلم: « وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

وهؤلاء الذين «أُوتُوا الْعِلْمَ»، هم العلماء الذين يخشون ربهم: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»، هم علماء الدين الإلهي، الذين يعلمون أن الذي أنزله الله عليهم هو الحق الذي يستحيل أن يأتيه الباطل، وليسوا هم علماء المذهب الديني، الذين يعلمون أن مذهبهم هو أصح المذاهب، وأن فرقتهم هي الفرقة الناجية!

إن الذين «أُوتُوا الْعِلْمَ»، هم العلماء الذين يعلمون علم اليقين أن الذي أنزله الله عليهم هو الحق الهادي إلى « صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »، فتدبر: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

انظر وتدبر لماذا اختار الله تعالى فعل الرؤية «يَرَى»، في سياق بيان علم الكتاب؟!

والجواب: لبيان أن أصول الإيمان يجب أن تقوم على عين اليقين، لا شبهة في أنها الهادية إلى «صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

لقد بعث الله تعالى رسوله محمدا، عليه السلام، لهداية الناس إلى « صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »، وحذرهم من افتراء الكذب على الله ورسله، وأن ينسبوا إلى الله مصادر تشريعية ما أنزل الله بها من سلطان.

وإذا كان المسلمون، أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، قد تفرقوا في الدين، ونسبوا إلى الله ورسوله مصادر تشريعية ما أنزل الله بها من سلطان، وها هو واقعهم يشهد عليهم، فماذا يقصدون بدعائهم ليل نهار:

« اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ »، « صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ »، « غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ »؟!

محمد السعيد مشتهري


(432) 21/3/2016 (ومازالت الشبهة قائمة)

 عدد المشاهدات : 238

يصر كثيرٌ من أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، على خداع التابعين بغير علم، وقولهم:

إن مشاريعهم الفكرية تقوم على التعامل مع «النص القرآني» مباشرة، ومنه يستنبطون أحكامه، ثم إذا بهم يهدمون بنية «النص القرآني»، ويُحرّفون أحكامه، ويتبعون أهواءهم بغير علم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!

واللافت للنظر، هو مئات المعجبين، السعداء بهذه القراءات، لا لأنها تقوم على منهجية علمية في تدبر القرآن، ولكن لأنها وضعت عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، ومنها:

لا صلوات خمس، ولا صوم في شهر الصوم، ولا حج في أشهر الحج، ولا لباس خاص بالمرأة المسلمة، ولا ميراث تأخذ فيه المرأة نصف ما يأخذه الرجل، وأن الملل التي لا تتبع النبي الخاتم محمدا في الجنة…، إلى آخر ما حوته مشاريعهم الفكرية من مخالفات صريحة لأحكام القرآن!!

إن أي مفكر يدعي أنه يقرأ القرآن قراءة معاصرة، علينا أن نسأله:

أولا: عن «المنهجية العلمية» التي أقام عليها هذه القراءة.

ثانيا: حجية المصادر المعرفية التي يستقى منها أفكاره، ويستنبط منها أحكامه، وهل هي مرجعية إلهية أم بشرية.

مثال: عندما يستند أحد نجوم القراءات المعاصرة إلى عالم «المرويات»، المنسوبة إلى النبي، ويقول: «وبذا نفهم لماذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، الحديثين التاليين، إن صحا: ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه، وأوتيت القرآن ومثله معه»، ليثبت وجهة نظرة في التفريق بين الكتاب والقرآن، علينا أن نسأله:

هل قوله عن الروايتين: «إن صحا»، من المنهجية العلمية التي يجب أن تقوم عليها القراءات المعاصرة للقرآن؟!

ثم ما علاقة الدين الإلهي بهذه «المرويات» صحت أم لم تصح؟!

ثم عندما يقول بعدها: «فعندما قال عن الكتاب: ومثله معه قد عنى السُنة»، فأي «سُنة» يقصدها؟! وعلى أي أساس علمي وشرعي اعتمد على «مرويات» فرقة «أهل السُنة والجماعة» بالذات؟! هل لأنه وُلد فيها؟!

وهناك من أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، من يكتفي بالقرآن وحده، لا شريك له، ثم إذا به يُشرك هواه في فهم نصوصه، واستنباط أحكامه!!

لقد وردت قصة نبي الله يونس، عليه السلام، في الآيات التالية:

١- في سورة يونس، قال تعالى في الآية «٩٨»:

«فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ».

٢- في سورة الصافات، الآيات «١٣٩-١٤٨»:

« وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ».

٣- في سورة القلم، الآيات «٤٨-٥٠»:

« فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

والسؤال:

أولا: كيف عرف من يروْن الاكتفاء بالقرآن، أن نبي الله «يونس»، الذي ورد ذكره في الآيات السابقة، هو «ذا النون»، الذي ذكره الله في سورة الأنبياء، في سياق الحديث عن قصص الأنبياء، فقال تعالى:

«وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ»؟!

فهل يمكن، بعيدا عن الخلفية المعرفية الموروثة، واستنادا إلى الآيتين السابقتين فقط، معرفة من هو «ذا النون»، الذي «ذَهَبَ مُغَاضِباً»؟!

ثانيا: هل يمكن من خلال تدبر الآيات السابقة، معرفة معنى قوله تعالى:

« فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ»، وما هو «اليقطين»، الذي ورد في قوله تعالى: «وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ»؟!

إنه يستحيل فهم دلالات «النص القرآني»، واستنباط أحكامه، بمعزل عن مصدر معرفي تربت شعوب العالم على مائدته المعرفية، وهو ما أسميه، حسب مشروعي الفكرى، بـ «منظومة التواصل المعرفي»؟!

إن «منظومة التواصل المعرفي»، منها ما يتعلق بشعوب العالم، ومنها ما يتعلق بكل أمة من الأمم، وليست منظومة معرفية «مذهبية» تتعلق بفرقة من الفرق، أو بمذهب من المذاهب، لذلك لا علاقة لها بما اصطلح أئمة السلف على تسميته بـ «التواتر العملي»، أو بـ «البيان النبوي»، وقد سبق أن فصلت ذلك في أكثر من منشور، وأكثر من مقال.

ودائما أذكركم بقوله تعالى: « قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»

محمد السعيد مشتهري



(433) 24/3/2016 (من سيقيم الدين بعد هدم التراث الديني؟)

 عدد المشاهدات : 237

من الذين خاطبهم الله تعالى بقوله: « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ »

من هم المخاطبون بقوله تعالى: « شَرَعَ لَكُم »، « أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ »، « وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ »؟!

إنهم أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، الذين أمرهم الله بوجوب إقامة الدّين الذي أنزله عليه، وعدم التفرّق فيه، فماذا يعني هذا الأمر، الذي هو سُنة جميع الرسل؟!

يعني أن على أتباع النبي الخاتم محمد، أن يجعلوا «بوصلة» حياتهم نحو إقامة هذا الدين، بأموالهم وأنفسهم، لأنه يستحيل أن يقيم الفرد وحده هذا الدين دون عمل جماعي، ينطلق من مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، واعتبار أن هذا العمل فريضة شرعية.

فإذا كانت الجماعات الدينية السلفية، والمنظمات الجهادية الإرهابية، قد عرفت أنه يستحيل إقامة مذهبها الديني في الأرض دون عمل جماعي، واعتبروا ذلك فريضة شرعية، وساقهم منهجهم وتدينهم هذا إلى الإفساد في الأرض، إذن فمن الذي سيقيم الدين الحق في الأرض، إذا ظل الذين عرفوا طريقهم إليه متفرقين، يعيش كل واحد منهم حياته الفكرية بمعزل عن الآخرين؟!

إن «التفرق في الدين» يعني «تباعد ذوات» المؤمنين به، الأمر الذي يُفضي إلى مخالفة أمر الله لهم بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، فأين هذا المجتمع، الذي يتعاون كل فرد فيه مع الآخر، لإقامة دين الله في قلوب الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؟!

إن الذين يقرؤون القرآن قراءة معاصرة، يعيش كل واحد منهم داخل جزيرة الفرقة التي نشأ فيها، وتربى على مائدتها الفكرية والثقافية، بمعزل عن الجزر الأخرى، أي يعيش داخل دائرة «التفرق في الدين» الذي حذر الله منه، سواء قبلوا مرجعيات الفرقة التي ينتمون إليها، واستندوا إلى تراثها الديني في إقامة مشاريعهم الفكري، أو انتقدوها وطالبوا بتنقيتها من الباطل الذي أصابها!!

فهل من أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، من أقام مشروعه الفكري على منهجية علمية، تأخذ بأيدي الناس إلى إقامة مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، الذي أقامه رسول الله، قبل ظهور الفرق والمذاهب المختلفة، بعيدا عن تراثهم الديني؟!

إن الأزمة الكبرى التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، في انشغال أصحابه ونجومه بهدم تراث الفرقة التي ينتمون إليها، ثم يأتي التابعون المعجبون بهذه المنهجية، ويعتبرون هؤلاء المتبوعين الجدد، هم أول من ثاروا على التراث الديني، وانتصروا للفكر الإسلامي، فهل يمكن أن يأتي نصوص الدين الإلهي الباطل، لنحتاج إلى ثورة عليها؟!

ثم من قال إن التراث الديني للفرق والمذاهب الإسلامية، من الدين الإلهي الذي أمر الله تعالى الناس بإقامته، ليقضي هؤلاء المفكرون الإسلاميون حياتهم في تنقيته وتجديده؟!

محمد السعيد مشتهري



(434) 27/3/2016 ( حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )

 عدد المشاهدات : 231

لقد أصبح للفكر الإسلامي، المنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وله آلاف المعجبين مدرستان:

الأولى: مدرسة «سلفية»، تفهم القرآن وتستنبط أحكامه، من خلال التراث الديني للمذهب العقدي والتشريعي الذي تنتمي إليه، وما حمله من مرويات منسوبة إلى النبي وصحابته والتابعين.

الثانية: مدرسة «قرآنية»، تفهم القرآن وتستنبط أحكامه، من خلال النص القرآني ذاته، دون الاستعانة بأي مصدر معرفي من خارج القرآن.

أما المدرسة «السلفية»، فكانت منطقية مع نفسها، فقد أوهمت التابعين المقلدين لها بغير علم، أن تراثها الديني ومروياته، هو ما كان عليه النبي وصحبه، فصدّق التابعون المتبوعين من أئمة السلف والخلف، واتبعوهم.

ولقد استند هذا التصديق وهذا الاتباع، إلى ما رآه التابعون بأعينهم، من منظومة علمية تراثية تُسمى بـ «أمهات الكتب»، حملتها المكتبة الإسلامية عبر آلاف السنين، وكانت سببا في انتشار هذه المذاهب السلفية بين الناس في العالم أجمع.

أما المدرسة «القرآنية»، فلم تكن منطقية مع نفسها، ولا مع التابعين المقلدين لها بغير علم، لأنها نشأت كرد فعل لانتشار المذاهب السلفية، فجعلت جل همها هدم التراث الديني السلفي أو المطالبة بتنقيته وتجديده.

لم تكن للمدرسة «القرآنية» منهجية علمية تقوم عليها منظومة «تدبر القرآن»، حملتها المكتبة الإسلامية من آلاف السنين، جيلا بعد جيل، إلا ما ندر من كتب خلط فيها أئمة السلف الحق بالباطل!!

لقد ظن أصحاب المدرسة «القرآنية»، أن القرآن يمكن أن يُفهم وتستنبط أحكامه بالتعامل مع ذات النص مباشرة، دون الاستعانة بأي منهجية علمية، ولا بأي مصدر معرفي من خارجه، بدعوى أن الله يسر القرآن للذكر، فلسنا في حاجة إلى منهجية علمية، ولا إلى منظومة معرفية، لمعرفة دلالات كلماته، واستنباط أحكامه.

وبسبب هذه العشوائية الفكرية، خرج علينا أصحاب المدرسة «القرآنية» بأحكام وفتاوى يستحيل استنباطها من القرآن، بل ولم تجرؤ المدرسة «السلفية» في يوم من الأيام أن تستنبط ما استنبطه «أهل القرآن» من أحكام وفتاوى خارج حدود المنظومة المعرفية القرآنية، وقد ضربنا عشرات الأمثلة على ذلك، في مقالات ومنشورات موجودة على هذه الصفحة.

وأزيد الأمر بيانا فأقول:

يعتقد كثير من المسلمين، أن عصاة المسلمين وأصحاب الكبائر، الذين ماتوا مصرّين على معصية ربهم ولم يتوبوا، سيدخلون الجنة بشهادة الوحدانية التي ورثوها عن آبائهم، بعد أن ينالوا جزاءهم في جهنم، استنادا إلى أن الخلود الأبدي في جهنم، «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا» لا يكون إلا للكافرين.

أما المسلمون الموحدون فخلودهم في جهنم ليس على التأبيد، لقوله تعالى في سورة النساء مخاطبا عصاة المؤمنين: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا»، ولم يقل «أَبَدًا».

ولغياب المنهجية العلمية عن هؤلاء في تدبر القرآن، وعدم درايتهم بعلم السياق، ولا بعلم البيان، بدعوى أن الله يسر القرآن للذكر بدون كل هذه العلوم، غاب عنهم القانون العام الحاكم للجزاء في الآخرة، وهو قوله تعالى في سورة الجن:

«وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»

هنا نلاحظ أن المعصية في الآيتين واحدة: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، فلماذا أضاف في آية سورة الجن التأبيد إلى الخلود: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»، ولم يضفه في آية سورة النساء: «خَالِدًا فِيهَا»؟!

قالت المدرسة «السلفية»، وتابعها في ذلك بعض أصحاب المدرسة «القرآنية»، إن آية سورة النساء جاءت تخاطب عصاة المؤمنين، الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة، ومن هذه الأحكام «المواريث» لذلك جاء خلودهم في جهنم من غير ذكر التأبيد: «خَالِدًا فِيهَا»!!

أما آية سورة الجن، فجاءت في سياق يخاطب الناس جميعا يأمرهم بالوحدانية:

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلاَّ بَلاغاً مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً.

وعلى هذا الأساس اعتبروا أن المعصية في هذا السياق تتعلق بـ «ملة الوحدانية»، لذلك جاء ذكر الخلود مع التأبيد: « جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً »

أما جزاء المعصية المتعلقة بـ «أحكام الشريعة»، فخلود فقط لا تأبيد فيه: «خَالِدًا فِيهَا»، وعلى هذا الأساس قالوا: إن عصاة المؤمنين وأهل الكبائر، سيخرجون حتما من النار، بعد أن يمكثوا فيها فترة، ثم يدخلون الجنة!!

فإذا اتبعنا المنهج العلمي في تدبر القرآن، من خلال علم السياق، وعلم البيان، نجد أن الله تعالى يقول في سورة الأعراف، الآيات «٣٥-٣٦»:

«يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

لقد بيّن سياق الآيات القانون العام للجزاء في الآخرة، فقال: «يَا بَنِي آدَمَ»، كما بيّن أن موضوع المعصية هو التكذيب بـ «آيات الله»، بوجه عام، سواء كان يتعلق بـ «الوحدانية»، أم بـ «أحكام الشريعة»، ثم جاء بالجزاء دون ذكر التأبيد، مع أن التكذيب يشمل ملة الوحدانية، فقال: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

ولبيان أن مفهوم الخلود في جهنم يعني الإقامة فيها على وجه التأبيد، سواء أضيفت إليه كلمة «أَبَدًا» أو لم تضف، قال تعالى في الآية «٤٠»، مبينا ما سبق ذكره في الآية «٣٦»:

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.

لقد استخدم السياق أسلوبا بديعا من أساليب البيان، يُفصّل مفهوم الخلود في قوله تعالى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» فقال: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.

إنه لا مانع من دخول عصاة المشركين وعصاة الموحدين الجنة، ولكن في حالة واحدة: أن يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياط، وهو أمر يستحيل حدوثه، إذن فهؤلاء العصاة خالدون في جهنم خلودا أبديا لا نهاية له: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، وورود كلمة «أَبَدًا» جاء للتأكيد على استحالة الخروج من جهنم، وليس للتفرقة بين عصاة المشركين وعصاة الموحدين!!

إن جزاء عصاة الموحدين في قوله تعالى في سورة النساء:

وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا

هو نفس جزاء عصاة المشركين في قوله تعالى في سورة الجن:

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً

في حالة واحدة: إذا أصر الموحدون المؤمنون على معصية الله، ولم يتوبوا منها قبل موتهم!!

ولن تنفع الموحدين شهادة الوحدانية التي ورثوها عن آبائهم، لأن هناك قانونا عاما يحكم ميزان الحساب في الآخرة، وهو قوله تعالى:

بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

وهناك قانون عام يحكم الإصرار على المعصية، وهو قوله تعالى:

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ

إن الذين يقولون إن فهم القرآن واستنباط أحكامه لا يحتاج إلى منهجية علمية، ولا إلى منظومة معرفية، عليهم أن يتفضلوا ويشرحوا للناس معنى قوله تعالى:

«حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ»

استنادا إلى النص القرآني وحده، دون الاستعانة بأي مصدر معرفي خارجي

وإنا منتظرون!!

* الإجابة على السؤال للذين يريدون التعلم:

الجَمَل: اسم البعير الذي يعرفه الناس، من خلال «منظومة التواصل المعرفي»، ولا توجد له صورة ولا وصف في القرآن.

السَم: الثقب، ولا توجد له صورة ولا وصف في القرآن.

الخِياط: اسم آلة الخياطة التي يعرفها الناس باسم الإبْرَة، ولا توجد لها صورة ولا وصف في القرآن.

لذلك أقول:

كما أن الجَمَل يستحيل أن يدخل من ثقب الإبرة، فكذلك يستحيل أن نفهم القرآن بمعزل عن المنهجية العلمية القائم عليها علم التدبر والبيان، ولا بمعزل عن أدوات فهم القرآن، التي هدانا إليها ذات النص القرآني.

وكل ذلك مُفصل في حلقات «نحو إسلام الرسول»، الموجودة على الصفحة.

محمد السعيد مشتهري




فبراير 1

77 min read

0

0

0

Comments

مشاركة أفكارككن أول من يعلِّق.

جميع الحقوق محفوظه © 2025 نحو إسلام الرسول 

  • Facebook
  • Twitter
  • YouTube
bottom of page