

(1278) 24/4/2019 عندما يكون «الاختلاف» محمودًا و«الخلاف» مذمومًا
يناير 29
4 min read
0
3
0
إن «الحق» الذي أنزله الله تعالى:
* «وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ»
يستحيل أن يأتيه «الباطل» لأنه:
«تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ»
ولقد ترك الله للناس حرية الاختيار بين الحق والباطل، فكانت النتيجة «٣ / محمد»:
* «ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ»
* «وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ»
والسؤال:
هل يمكن أن ينشأ «خلاف» بين «الَّذِينَ آمَنُوا» حول معاني كلمات القرآن وهي «الحق» الذي أنزله الله؟!
والجواب:
لو أن خلافًا حدث حول معاني كلمات القرآن ما كانت «حقًا».
فما فائدة أن يقول الله إن القرآن نزل بـ «الحق»، فإذا بالمؤمنين به يحوّلونه إلى «باطل» نتيجة اختلافهم في معاني كلماته؟!
إن أهل اللسان العربي الذين دخلوا في «دين الإسلام» لم يدخلوه إلا بعد أن آمنوا بأن القرآن يحمل الآية العقلية الدالة على أنه كلام الله تعالى.
ولقد تعهد الله بحفظ معاني كلماته «أي مُسَمَّياتها» من قبل بعثة رسول الله محمد، وإلا ما فهم قوم النبي كلمة واحدة من القرآن.
وتدبر توجيه الضمائر في قوله تعالى:
* «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»
ولماذا استخدم السياق كلمة «الذكر» ولم يستخدم كلمة «الكتاب» أو «القرآن»؟!
بمعنى لماذا لم يتعهد الله بحفظ الكتاب «المكتوب» فقط، أو بحفظ القرآن «المقروء» فقط، وإنما تعهد بحفظ الذكر «المذكور»؟!
إن «المذكور» هو الشيء الذي له «شأن وقيمة» عند الناس، و«المعروف» لهم مسبقًا.
فعندما نكتب في عقد الشراء أو البيع عبارة:
«إن الشخص المذكور سلفًا هو الذي له الحق في كذا وكذا»
لابد أن يكون لهذا «الاسم» المذكور «مُسَمَّى» يعرفه أطراف العقد بحيث يمكن الرجوع إليه عند الإخلال بشروطه، أي لا يكون اسمًا بلا «مُسَمَّى» على أرض الواقع.
وهو ما أسميه في توجهي الديني «نحو إسلام الرسول» بـ «المقابل الكوني» لكلمات القرآن، أي بـ «المذكور» الذي يعلمه المخاطب سلفًا، والموجود في ذاكرته المعرفية.
ولو أن خلافًا نشأ بين أهل اللسان العربي حول معنى كلمة من كلمات القرآن، ما دخل أحد منهم في «دين الإسلام».
أولًا:
إن الذين آمنوا بـ «قومية» القرآن آمنوا على أساس أن الآية الدالة على أنه «كلام الله» آية حسية ينتهي مفعولها بموت النبي، وهؤلاء ليس لهم الحق في الحديث عن القرآن، مدحًا أو ذمًا.
أما الذين آمنوا بـ «عالمية» القرآن فآمنوا على أساس أن الآية الدالة على أنه كلام الله «آية عقلية» قائمة بين الناس إلى يوم الدين، وهؤلاء هم الذين لهم الحق في الحديث عن عطاءات القرآن كلٌ في عصره.
١- إن حفظ «الذكر» معناه حفظ «مُسَمَّيات» كلمات القرآن «اسمًا وفعلًا وحرفًا» من قبل نزول القرآن، فلما نزل القرآن خاطبهم بكلمات يعرفون معناها «مُسَمَّاها».
لقد حفظ الله معاني «مُسَمَّيات» كلمات القرآن بداخل مراجع اللغة العربية، وهي المعاني التي تتناغم مع سياق الكلمة ولها واقع على الأرض منذ عصر التنزيل حملته «منظومة التواصل المعرفي» ولا يختلف عليه اثنان.
وهذا الموضوع «منظومة التواصل المعرفي» مفصل على موقعي وفي ع شرات المنشورات.
٢- إن «مُسَمَّيات» كلمات القرآن «حق» يستحيل أن يأتيه «الباطل» إلى يوم الدين، والذين ألحدوا في هذه «المُسَمَّيات» التي عرفها أهل اللسان العربي من قبل نزول القرآن، بدعوى «المنهج اللفظي الترتيلي»، أو بدعوى «القراءات القرآنية المعاصرة»..، إلى آخر منظومة الفكر الإلحادي.
هؤلاء يتعاملون مع القرآن تعامل اليهود والنصارى مع التوراة والإنجيل، لم يعلموا، وتقريبا لن يعلموا، أن هذا القرآن لا قيمة إيمانية له بدون «الآية العقلية» التي حملها في ذاته.
وهنا يحق لنا أن نقول:
إن هؤلاء على «خلاف» جوهري مع القرآن.
ثانيًا:
١- إن «الخلاف» مصدر «خالف»، ويعني المضادة والمعارضة، وبرهان ذلك:
* ٨٨ / هود: «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ»
* ٦٣ / النور: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه»
إن «الخلاف» أمر «مذموم» لأنه لا يقوم على أدلة وبراهين علمية، ولذلك يحدث عند اختلاف الأهداف وطرق الوصول إليها.
٢- أما «الاختلاف» فهو مصدر «اختلف»، وهو أمر محمود لأنه يقوم على «العلم» ويحدث عندما يكون الهدف واحد مع تعدد طرق الوصول إليه من أجل التكامل والتناغم.
يقول الله تعالى في سياق بيان فعاليات آيات الآفاق «٢٧ / فاطر»:
* «فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا – وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا»
٣- إن الفرق بين «الخلاف» و«الاختلاف» فرق دقيق جدًا لذلك دائما ما يحدث خلط بينهما في سياق بيان «المشترك اللفظي».
إن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين.
مثال:
– اللونان الأسود والأبيض مختلفان وضدان.
– اللونان الأحمر والأخضر مختلفان وليسا ضدين.
٤- إذن فالسياق هو الذي يحدد المعنى المقصود.
فعندما يقول الله تعالى:
* «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ – وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ – لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»
نفهم أن المقصود بـ «الاختلاف» هنا الاضطراب والتضاد.
وعندما يقول الله تعالى على لسان شعيب:
* «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ»
نفهم أن المخالفة من طرف واحد هو «شعيب»، لذلك استخدم فعل «أخالف» لبيان استحالة أن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو سرًا.
وعندما يقول الله تعالى:
* «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ»
نجد أن السياق يتحدث عن أكثر من طرف، لذلك استخدم فعل «اختلف».
وعليه نعلم أن «الخلاف والاختلاف» وإن اشتركا في كون كل طرف يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، إلا أنهما يفترقان عند إقامة كل طرف الدليل والبرهان «العلمي» على أسباب المخالفة، وغالبا لا يقوم «الخلاف» على أي أساس علمي.
ثالثًا:
لمواجهة الإشكاليات العقدية المتعلقة بمصيبة التفرق في «دين الإسلام»، وضع الرواة «رواية» نسبوها إلى الرسول تقول: «اختلاف أمتي رحمة»ثم جاء «الجُهّال» وظنّوا أن هذه الرواية «الموضوعة» لها علاقة بقوله تعالى:
* «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»
* «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»
فظل المسلمون على تخاصمهم وتقاتلهم وتفرقهم في «دين الإسلام» وسعدوا بذلك إلى يومنا هذا، بدعوى أنها «مشيئة الله» التي يجب التسليم لها «وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»!!
١- إن الله تعالى لم يخلق الناس مختلفين في الدين، وإنما خلقهم أحرارًا يختارون دينهم بإرادتهم، فمن اختار الحق نالته رحمة الله، «وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»، أي من أجل أن يختار كل إنسان دينه بإراته.
٢- إن من اختار طريق «الحق» بإرادته لم يخرج عن مشيئة الله، ومن اختار طريق «الضلال» لم يخرج عن مشيئة الله، وذلك لقوله تعالى:
«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا – فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا – قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا – وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»
إن مشيئة الله مطلقة، فلو شاء لهدى الناس جميعًا، ولكنه سبحانه شاء أن يختار الإنسان دينه بإراته «وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ».
٣- إن الذي يهرب من تفعيل نصوص «الآية القرآنية» في حياته، وتغيير ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، بدعوى أن المسلمين مختلفون في معاني كلمات القرآن، وكذلك كتب التفسير، وكذلك مراجع اللغة العربية.
إن هذا الإنسان من زمرة المساكين الذين يكرهون «العلم»، ولا يفرقون بين «الخلاف» و«الاختلاف»، لهوى النفاق الذي تشربته قلوبهم، وعليهم أن يسارعوا إلى «التوبة» ويعلموا أن الاختلاف محمود، والخلاف مذموم.
وأن الله تعالى تعهد بحفظ معاني كلماته في سياق «الاختلاف» المحمود، الذي تتواصل فيه عطاءات الكلمة وتتكامل وتتناغم.
محمد السعيد مشتهري