

(1304) 26/9/2019 «مقال الخميس» «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» «لقد مات المهديّون ولم يقيموا دين الله في الأرض»
يناير 29
6 min read
0
3
0
سألني:
لماذا سُمّيت «سورة محمد» بـ «سورة القتال»، وقد ورد فيها ضرب الرقاب، «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ»، ألا يعني هذا أن «القرآن» مصدر الإرهاب والتطرف الديني؟!
قلت:
وماذا تعلم عن «سورة محمد»، هل قرأت آياتها وتعلم موضوعاتها ومقاصدها؟!
قال: الحقيقة لا.
وهذه هي الجريمة الفكرية العقدية التي يعيش بداخلها المسلمون الذين ينتظرون مجيء «المهدي» ليقيم لهم دين الله في الأرض، وقد جاءهم «مهديّون» وماتوا، ولم يقيموا دين الله في الأرض.
أولًا:
إن «سنة الله» في التغيير لا تنطلق م ن «خارج النفس»، وإنما من داخلها:
* «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»
وتغيير ما بـ «النفس» لا يكون بمعزل عن «القلب»، ولا بمعزل عن الملة التي يحملها، ولذلك بدأت «سورة محمد» بداية قد يكون إيقاعها غريبًا على أذهان الكثير «الآية ١»:
* «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ»
١- لقد بدأت السورة ببيان أن الناس فريقان:
الفريق الأول: «الَّذِينَ كَفَرُوا»: أضلَّ اللهُ أَعْمَالَهُمْ.
الفريق الثاني «الآية ٢»:
* «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ – وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ – وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ – كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ – وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ»
إن الذين «آمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» هم:
أ: الذين كفروا بتدينهم الوراثي.
ب: ودخلوا «دين الإسلام» من باب الإقرار بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد.
ج: وأقاموا «دين الإسلام» في قلوبهم وبين من هم تحت ولايتهم، فكان النتيجة كَفَّرَ الله تعالى «عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ».
ثانيًا:
هل تعلمون معنى «إصلاح البال»؟!
إنه «السلام النفسي»، حيث الطمأنينة والراحة والرضى، ومتى صلح بال المرء، اطمأن قلبه وهدأت أعصابه واستبشر بنصر الله.
ثم يُبيّن الله تعالى أن الصراع في هذه الدنيا بين شيئين لا ثالث لهما «محمد / ٣»:
* «ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَر ُوا – اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ»
* «وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا – اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ»
والسؤال:
هل أنت من الذين «اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ»، وتشهد حياتك العائلية والمهنية بذلك؟!
إذن، فقف على الميزان الديجيتال «الصيني» واسأله «من أنا»، وستجد الإجابة على الشاشة، وعندها ستعلم مع أي الفريقين ستحشر يوم القيامة.
مع ملاحظة أنك قد تموت خلال فترة دعوتك الآخرين إلى التغيير، وجهادك لتكون كلمة الله هي العليا، فماذا ستقول لربك؟!
ولذلك جادت كلمة «فَإِذا» في قوله تعالى «محمد / ٤»:
«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ – حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ – فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ – وَإِمَّا فِدَاء – حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا …»
حتى لا يفهم الناس أن الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا يكون بالسيف، فالله تعالى لم يأمر المسلمين بالاعتداء على غيرهم وسفك دمائهم بغير حق، وإنما أمرهم بمواجهة الاعتداء باعتداء مثله «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا»، وهو القائل عز وجل:
«فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»
بل وأعطى المشركين فرصة لمراجعة نقضهم للعهود، واعتداءاتهم المتكررة على المسلمين، فقال تعالى للمسلمين «التوبة / ٥»:
«فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ»
وقد جاء سياق سورة التوبة من أوله ببيان الأسباب التي فرضت هذا الأمر «فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ»، وقد زادها الله بيانا بقوله تعالى «التوبة / ١٣»:
«أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً – نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ – وَهَ مُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ – وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ – أَتَخْشَوْنَهُمْ – فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ»
ثالثًا:
إن كل آية حملت أمرًا بالقتل والقتال في سبيل الله، إما أن نجد لها سببًا في نفس السورة، أو في سور أخرى، ولم يحدث أن أمر الله المسلمين أن ينشروا «دين الإسلام» بالسيف، كما يدعي المفسدون في الأرض.
بل إن هذه الآية نفسها «محمد / ٤» هي التي أغلقت الباب الرئيس الذي كان يدخل منه الرق وملك اليمين، ولم يعد لأزمة «الأسرى» حل إلا:
المن: «فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ»: وإطلاقهم سراحهم بلا مال ولا فداء.
الفداء: «وَإِمَّا فِدَاء»: دفع فدية لإطلاق سراحهم، أو يحدث تبادل للأسرى.
إن الخطاب في الآية السابقة «التوبة / ١٣»:
«أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَي ْمَانَهُمْ»
هو خطاب لمؤمنين رفعوا راية الإيمان، وعندما جاءهم الأمر بقتال المعتدين اعتذروا عن الخروج للقتال لمرض في قلوبهم، وهؤلاء خاطبهم الله في سورة محمد بقول تعالى «الآية ٢٠-٢١»:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا – لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ – فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ – رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ – فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ – فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ – فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ»
وهذه صورة لمجتمع «الَّذِينَ آمَنُوا» في عصر التنزيل، تبين أن «الإيمان» ليس كلمة تُقال، ولا راية ترفع، وإنما سلوك عملي ينطلق من قلب أخلص دينه لله تعالى «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ» ولو كان ثمن ذلك أن يُقتل صاحبه في سبيل الله.
رابعًا:
إن «دين الإسلام» منظومة حياتية مترابطة متكاملة، تقوم على إخلاص العبودية لله تعالى، وعلى مجتمع الإيمان والعمل الصالح، وعلى السلام النفسي والاجتماعي بين أفرادها.
ثم تأتي أزمة التخاصم الديني أو السياسي فتشعل المعارك بين المسلمين، ولكن أخطر ما في هذه المعارك هو «تقطيع الأرحام».
لذلك قال الله تعالى بعدها «محمد / ٢٢»:
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ»
إن الأمن والأمان لن يتحقق إلا مع الذين «اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ»، أما الذين تولّوا و«اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ» فهؤلاء هم «المفسدون في الأرض»، الذين لا يراعون حرمة رحم ولا نسب، ولذلك جاء إفسادهم مساويًا لتقطيع الأرحام:
«أَن تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ – وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ».
١- إن اهتمام القرآن بـ «صلة الأرحام» واعتبار قطعها إفسادا في الأرض ، مسألة غابت عن حياة المسلمين «العائلية والاجتماعية» منذ قرون مضت، وأصبح من السهل التفريط فيها بدعوى «المصلحة»، حتى ولو كانت هذه المصلحة في هجر الوالدين، أو أحدهما، لأشهر أو لسنوات!!
٢- إن المتدبر لـ «المحرمات من النساء» التي وردت في الآيات «النساء / ٢٢-٢٤»، يجد أن علة التحريم في كل ما حرمه الله علة واحدة هي:
«المحافظة على صلة الرحم، حتى لا تتقطع أوصالها بسبب المشاكل والأزمات التي لا يخلو منها بيت منذ آدم، عليه السلام، وإلى قيام الساعة».
ونبدأ فهم هذه «العلة» من قوله تعالى بعد أن ذكر المحرمات نصًا: «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ».
وهنا يجب أن أذكر مسألة تتعلق بـ «ألفاظ العموم»، مثل كلمة «مَّا» التي وردت في الجملة السابقة، والتي على أساسها أصبح يحل للمسلم أن ينكح أي امرأة لم يرد ذكرها في الآيات «النساء / ٢٢-٢٤».
خامسًا:
إن «الجدة» لم يرد ذكرها صرا حة في هذه الآيات، فهل يحل نكاحها استنادا إلى نص قطعي الدلالة، وهو:
«وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ»؟!
هنا سيخرج علينا من يقول إن حكم تحريم نكاح «الجدة» يُقاس على حكم تحريم نكاح «الأم»، مخالفا بذلك نصًا قطعي الدلالة يبيح نكاح «الجدة»، بدعوى «القياس» على الأم.
وعليه، فإذا خرجنا عن التحريم بـ «النص الصريح» إلى التحريم بـ «القياس» فتحنا بابًا من القياسات تختلف فيها وجهات النظر، كأن يُقاس مثلا تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها على تحريم الجمع بين الأختين.
١- الأمر الذي يفرض علينا أن نعود إلى مسألة «ألفاظ العموم» لنعلم هل يمكن تخصيصها بقرائن ليست محل خلاف بين العقلاء؟!
نضرب مثالا على وجوب التخصيص:
يقول الله تعالى «الرعد / ١٦»:
«قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»
إن كلمة «كُلّ» من ألفاظ العموم، فيكون المعنى أن الله خالق كل ما يطلق عليه «شيء» في هذا الوجود.
ولكن، هناك آيات تطلق لفظة «شيء» على الله تعالى أو على صفة من صفاته، ولا يقال إن «الشيء» اسم من أسمائه تعالى، كقوله تعالى «الأنعام / ١٩»:
«قُلْ أَيُّ شَيْءٍ – أَكْبَرُ شَهَادةً – قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»
وقوله تعالى «القصص / ٨٨»:
«كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ»
٢- والسؤال:
فهل معنى ذلك أن الله هو الذي خلق نفسه، لقوله تعالى:
«قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»؟!
إذن فهناك قرائن يجب الاعتماد عليها لتخصيص ألفاظ العموم، ومنها بالنسبة لتخصيص لفظ «كُلّ» في قوله تعالي «قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»:
الأولى: «قرآنية»:
«الشورى / ١١»: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»
الثانية: «منطقية»:
لاستحالة أن يخلق الشيء نفسه.
٣- فإذا جئنا إلى تخصيص لفظ العموم «مَّا»، الذي ورد في جملة «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ» نجد أنه يُخصص بقرينتين:
الأولى: «قرآنية»:
وهي «دلالة السياق» على تحريم نكاح كل فرع من فروع شجرة المحرمات المذكورة، «وإن علا وإن سفل».
ومعنى «إن علا» أن الأم مثلا يليها أمها ثم جدتها ثم أم جدتها.
ومعنى «وإن سفل» أن البنت مثلا يليها بنتها ثم بنت بنتها وهكذا.
الثانية: «منطقية»:
وهي علة تحريم الجمع بين الأختين ضمن المحرمات من النساء، واستحالة أن يذكر الله تعالى كل المحرمات من الفروع «وإن علا وإن سفل».
سادسًا:
إن قلوب المسلمين لم تترب على «تدبر أحكام القرآن» وإنما على أزمة التخاصم والتكفير وسفك الدماء بغير حق، بدعوى إقامة «دين الله» في الأرض، فإذا نظرنا إلى أصحاب الدعوى لا نجد لهم ملة ولا دين.
فأي «دين إلهي» يريدون إقامته في الأرض، هل هو على المذهب العقدي السني أم الشيعي أم المعتزلي أم الأباضي، ثم أين الفرقة الإسلامية التي ستسمح لأصحاب هذه الدعوات إقامة هذا «الدين الإلهي» على أرضها؟!
١- عندما فَتَنَ الشيطان المسلمين الأُوَلْ:
تفرق المسلمون في «دين الإسلام» وسفكوا دماء بعضهم بعضا، وأصبح لكل فرقة مذهبها العقدي والفقهي الذي تؤمن على أساسه بالوحدانية، بين التجسيم والتنزيه والتأويل والتشبيه لأسماء الله الحسنى.
٢- عندما فَتَنَ الشيطان المسلمين الأُوَلْ:
اتخذ المسلمون القرآن مهجورا، واتبع الأبناء ما وجدوا عليه الآباء من مذاهب عقدية وفقهية، وولدت الأرحام الأُمراء والحُكّام والمؤسسات والمراجع الدينية، كلٌ على مذهبه العقدي.
٣- عندما فَتَنَ الشيطان المسلمين الأُوَلْ:
ذهب الدين الإلهي «دين الإسلام» ولم يعد، ونجح الشيطان في إغواء المسلمين وتزيين الدنيا في قلوبهم:
* «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»
وألفت قلوب المسلمين معيشة المنكرات، ولم تعد جريمة «هجر القرآن وأحكامه» تحرك نقطة في دمائهم، وعاشوا حياتهم مقلدين تابعين لمن يريح قلوبهم ويُسعدها بما يوافق هواها.
٤- عندما فَتَنَ الشيطان المسلمين الأُوَلْ:
أصبحنا نرى في البيوت وخارجها مؤمنين بلا إيمان، ومسلمين بلا إسلام، لا يعلمون شيئًا عن «القرآن» غير اسمه، وغير ما يستغفل به الجهلاء قلوبهم فيتعاطفون مع كل ناعق يدعو لإقامة دين الله في الأرض، وهو «خداع» وخديعة لا تقبلها غير القلوب المريضة.
«لقد مات المهديّون ولم يقيموا دين الله في الأرض»
محمد السعيد مشتهري



