

(1311) 14/11/2019 «مقال الخميس» «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ – وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «هل المسلمون يعيشون جاهلية معاصرة»؟!
يناير 29
6 min read
0
1
0
لقد كان «أبو الحسن الندوي» أول من استخدم كلمة «الجاهلية» في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، والذي كتب مقدمته «سيد قطب»، ثم استخدم «سيد قطب» هذه الكلمة في مؤلفاته، وكتب أخوه «محمد قطب» كتابه «جاهلية القرن العشرين».
والحقيقة أن «الجاهلية» كلمة قرآنية، وليس معنى استخدام التوجهات الدينية المختلفة لها، كلٌ حسب «هواه العقدي» أن يتوقف الناس عن استخدامها خشية اتهامهم بالتطرف والإرهاب، وإنما يُنظر إلى الموضوع، وإلى السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة، وإلى القاعدة المنهجية التي ينطلق منها الكاتب.
و«القاعدة المنهجية» التي ينطلق منها توجهي «نحو إسلام الرسول» لا يشترك معي فيها أحد إلى يومنا هذا، وذلك حسب علمي.
وليس معنى استخدامي للكلمات القرآنية مثل: الكفر والشرك والنفاق والإلحاد، وإسقاطها على الواقع المعاصر، كما أسقطها القرآن، أن يكون توجهي الديني مشتركًا مع الجماعات الجهادية والتنظيمات الإرهابية، ذلك أن «القاعدة المنهجية» مختلفة.
أولًا:
إن الجماعات الإرهابية الجهادية، بدون استثناء، تنطلق نحو «عودة الخلافة» من قاعدة إشراك مع كتاب الله مصدر تشريعي مفترى على الله ورسوله، ولذلك يستحيل أن يُمَكّن الله لها في الأرض لأنه سبحانه اشترط لهذا التمكين عدم الشرك بالله، فتدبر:
«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ:
* لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
* وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
* وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
ولكن بشرط:
* يَعْبُدُونَنِ ي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وماذا يعني قوله تعالى بعدها:
«وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»؟!
يعني أن «الإيمان والعمل الصالح» لن يُدخل صاحبه الجنة إذا أصابه ذرة شرك، فتدبر: «لاَ يُشْرِكُونَ بِي» «شَيْئاً».
فمتى سينهض المسلمون من سباتهم لتغيير أنفسهم نحو إخلاص العبودية لله تعالي وحده لا شريك له، وتربية أولادهم على هذا الفهم الواعي حتى لا يقعوا فريسة التطرف «السلفي»، أو التطرف «التنويري المعاصر»، فهما على حد سواء.
ثانيًا:
مفهوم «الجاهلية» في اللسان العربي:
ووردت مشتقات كلمة «جهل» في السياق القرآني على النحو التالي:
١- الفعل المضارع المسند إلى واو الجماعة: تجهلون ويجهلون.
٢- اسم الفاعل المفرد: جاهل.
٣- جمع المذكر السالم: جاهلون.
٤- صيغة المبالغة: جهول.
٥- المصدر القياسي: جهالة.
٦- المصدر الصناعي: جاهلية.
والأخير هو الذي يهمنا، ومعنى المصدر الصناعي:
هو مصدر يُصاغ بزيادة ياء مشددة «يـّ»، وتاء تأنيث «ة» ساكنة، في آخر اللفظ «جاهل».
فـ «الجاهلية» مصدر من الجذر الثلاثي «جَهِلَ»، وهو بخلاف «عَلِمَ»، فـ «الجاهل» غير «العالم»، و«الجاهلية» نظام حياة غير منضبط، وغير متزن، يقوم على اتباع الهوى والتقليد الأعمى، يرفض الاستجابة لدعوة الرسل واتباع ما أنزل الله، وهذا ما أفاده قوله تعالى مخاطبًا رسوله محمدًا «المائدة / ٤٩»:
«وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ – وَلاَ تَتَ ّبِعْ أَهْوَاءهُمْ – وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ – فَإِن تَوَلَّوْاْ – فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ – وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ»
ثم قال الله تعالى بعدها «المائدة / ٥٠»:
«أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ»
وتعالوا نتوقف عند معنى قول الله تعالى:
«وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ»
إن «دين الإسلام» إما أن يُحمل كله، وإما أن يترك كله، ولا فائدة من نطق بالشهادتين، ومن صلاة وزكاة وصيام وحج، أي من الشعائر التي يسهل على النفس فعلها، وبيوت المسلمين خربة خاوية من تفعيل الإيمان والعمل الصالح سلوكًا عمليًا في حياتها.
لا فائدة من إقامة شعائر تعبدية والأمهات تلد أولادًا لا علاقة لهم بـ «دين الإسلام»، فلم يتربوا عليه وهم في بطونهن، لأن الأم لم تترب عليه أصلًا!!
ثالثًا:
مفهوم «الجاهلية» في السياق القرآني:
لقد ورد مصطلح «الجاهلية» في السياق القرآني بمعنى «البيئة المعيشية» التي تقوم عليها «حياة الناس» بمعزل عن «دين الإسلام» الذي جاء به جميع الرسل.
ولقد أشار القرآن إلى هذه «الجاهلية» في مواضع أربعة:
١- يقول الله تعالى في سياق بيان دور المنافقين في تشكيك المؤمنين في وعد الله بنصر رسوله والذين آمنوا معه «آل عمران / ١٥٤»:
«ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً – يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ – وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ – يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ – ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ … يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ – يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ – مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا»
* «ظن الجاهلية»:
يبين مخالفة «البيئة الجاهلية» للمنهج العقدي الإسلامي، وللفهم الواعي لفعالية أسماء الله الحسنى.
والسؤال:
هل تفرق المسلمين في «دين الإسلام» يَخْرُج عن دائرة «ظن الجاهلية»؟!
٢- ويقول الله تعالى في سياق بيان وجوب الحكم بما أنزل الله «المائدة / ٥٠»:
«أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ – وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً – لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ»
* «حكم الجاهلية»:
يبين مخالفة «البيئة الجاهلية» للمنهج التشريعي، ولوجوب الحكم بما أنزل الله.
فكل حكم غير حكم الله باطل، وكل شرع يتعارض مع شرع الله منكر يجب النهي عنه بـ «العلم»، و«الحجة والبرهان»، والمؤمنون الذين أسلموا وجوههم لله لا يُربّون أولادهم على ما يخالف حكم الله، فإن فعلوا فقد صدق قول الله تعالى فيهم:
«أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ – وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ»
٣- ويقول الله تعالى في سياق بيان ما يجب على نساء النبي الالتزام به «الأحزاب / ٣٣»:
«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ – وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى – وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ – إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ – وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»
* «تبرج الجاهلية»:
يبين مخالفة «البيئة الجاهلية» للمنهج الأخلاقي الذي يحفظ الجنسين «الذكر والأنثى» من إثارة الشهوات المحرمة التي تجعل النفس سلعة يتوقف تسويقها على مدى جمالها وإظهار مفاتنها.
إن المرأة المسلمة التي تلفت نظر الناس إليها، سواء كان ذلك بلباسها الذي يُظهر مفاتنها، أو بما تتزين به، هذه امرأة لا علاقة لها بـ «دين الإسلام»، ولن يقبل الله تعالى من امرأة مسلمة غير اللباس الذي أمرها به وبينته آيات الذكر الحكيم.
٤- ويقول الله تعالى في سياق بيان دور «حمية الجاهلية» في نقض العهود التي كانت بين رسول الله والكافرين، وتثبيت الله للرسول والذين آمنوا معه في مواجهة مثل هذه التحديات «الفتح / ٢٦»:
«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ – حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ – فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ – وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى – وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا – وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»
* «حمية الجاهلية»:
تبين مخالفة «البيئة الجاهلية» للأصول والقواعد التي يجب أن تقوم عليها العلاقات الاجتماعية، والعهود والمواثيق بين أفراد ال مجتمع، بصرف النظر عن إسلامهم أو عدم إسلامهم.
والمتدبر لهذه الآيات الأربع، يعلم:
أ: أنها تُشكّل منهج ونظام حياة جاهلي، يخالف تماما منهج ونظام حياة المؤمنين الذين أسلموا وجوههم لله تعالي.
ب: وهل عندما ذكر السياق كلمة «الْأُولَى» في قوله تعالى «تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى»، كانت هناك جاهليات متقدمة وأخرى متأخرة؟!
والجواب:
لقد وردت كلمة «الْأُولَى» في سياق يتعلق بسلوكيات نساء النبي، ولا شك أن الله تعالى يستحيل أن ينهاهن عن فعل شيء لا يعلمونه ولم يشاهدونه من قبل في حياتهن.
وعليه يُفهم أن هناك جاهليات سبقت بعثة رسول الله محمد، عليه السلام، وكان المقصود الجاهلية الأقرب من عصر التنزيل التي كان العرب يعلمون كل شيء عنها، فسمّيت «الْأُولَى» من جهة عصر الرسالة الخاتمة.
وإلا كيف ينهى الله المسلمين عن «ظن الجاهلية، وعن «حكم الجاهلية»، وعن «تبرج الجاهلية»، وعن «حمية الجاهلية»، وهم لا يعملون شيئًا عن كل هذه الجاهليات؟!
ج: ويُفهم من الآيات الأربع أن «الجاهلية» لا تعني «الجهل العلمي»، وإنما الكفر بما أنزله الله على رسله، وليس معنى «الكفر» إنكار وجود الله، وإنما عدم اتباع ما أنزله الله.
فالعالم المتقدم كافر بما أنزله الله على رسوله محمد، ومع ذلك تركه الله يتقدم حضاريًا وتكنولوجيا، ووصل إلى القمر، وإلى المريخ، لأن هناك «سننًا إلهية» من عمل بها أعطته ثمارها، ومن هذه السنن قول الله تعالى «البقرة / ٢٥٦»:
«لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ – قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ – فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ – فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا – وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
والسُنّة الإلهية: «قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»
ومن ثمارها: «فَمَنْ ي َكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ – فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ»
رابعًا:
لقد كان المسلمون الْأُوَلْ مصابيح هداية تمشي بين الناس، وفي قلوب الناس، لقد كانت لهم قيمة إيمانية حيّة:
«أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً – فَأَحْيَيْنَاهُ – وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً – يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ – كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ – لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا – كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ»
لقد كان المسلمون الْأُوَلْ يخضعون لحكم الله مهما كان قاسيًا على نفوسهم، مؤلمًا لقلوبهم، لأنهم كانوا على الفهم الواعي لمعنى «الإيمان»، فتدبر:
«فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً»
أما المس لمون اليوم فيخضعون للتطور العصري، يظنون أن الالتزام بأحكام القرآن يعوقهم عن هذا التطور:
والسؤال:
ما الذي يمنع القلب المؤمن المصلي، الساجد لله تعالى إيمانًا وعملًا صالحًا، الملتزم العمل بأحكام القرآن، من أن يتفوق في دراسته ويحصل على أعلى الدرجات العلمية، وجوائز نوبل العالمية؟!
لماذا جعل المسلمون الدنيا هي الحاكمة على إسلامهم، غفلةً وتسيبًا وتحلّلا وتبرجًا وسفورا، فلا هم نفعوا «دين الإسلام» بدنياهم، ولا هم تمسكوا بـ «دين الإسلام» فنفعوا آخرتهم؟!
لقد كانت «المؤسسات الدينية» هي صاحبة الحق الأول والأخير في الحديث عن «دين الإسلام»، وكان المسلمون يعيشون أسرى فتاوى علماء هذه «المؤسسات الدينية»:
وعندما ظهرت التوجهات الدينية التنويرية والقراءات المعاصرة للقرآن، خلع المسلمون ثوب «المؤسسات الدينية» ولبسوا ثوب «الحداثة والتجديد»، لماذا؟!
لأن المسلمين أصلا ورثوا تدينهم المذهبي عن آبائهم، لا يعلمون شيئا عن الفهم الواعي لأصول الإيمان ولا عن أحكام القرآن، فهم يعيشون في «مهب الريح»، يتدينون بما يوافق ريح هواهم، والضحية هي الذرية المسكينة التي خرجت إلى الدنيا فوجدت هذا هو مصيرها، والحل:
أن نشغل أولادنا بـ «أفلام الأطفال» و«أفلام الكرتون»، التي تقدم لهم السموم «الخفية» القاتلة لفطرتهم الإيمانية، والمشجعة لهم على التطرف والإرهاب، ليعيشوا «الجاهلية المعاصرة» ونحسب أننا نحسن صنعا!!
إن «الجاهلية المعاصرة» أشد خطرا «من الجاهلية الأولى»، وانظروا إلى ما يُعرض على وسائل الإعلام المختلفة، وما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، فما الذي تجدونه يحمل لكم ولأولادكم مستقبلًا إيمانيًا إسلاميًا، تسعدون به في الدنيا والآخرة، ولا تضعوا رؤوسكم في «الرمال» كي لا تشاهدون «المأساة»؟!
محمد السعيد مشتهري



