

(1463) 18/6/2020 «مقال الخميس» «وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»
يناير 29
6 min read
0
0
0
فمن هم «المخاطبون» بهذه الآية؟!
«المخاطبون» في المقام الأول هم قوم النبي محمد، ثم يتوجه الخطاب إلى الناس جميعًا.
فكيف تُحمل «الذرية» في الفلك المشحون وهي لم تولد بعد؟!
إذن تعالوا نبدأ فهم سياق سورة «يس» من أوله:
# أولًا:
الجزء الأول من السورة «يس / ١-١٢»:
تبدأ السورة بإثبات حجية «نبوة» رسول الله محمد، عليه السلام، التي حملت رسالة الله الخاتمة، وهي «القرآن الحكيم»:
* «يس – وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ»
وتأكيد الخبر بـ «لام التوكيد» و«لام الابتداء»:
* «إِنَّكَ لَـ مِنَ الْـ مُرْسَلِينَ»
فلا يكفي إيمانك بصدق «نبوة» رسول الله محمد، وإنما عليكم أن تعلم أن إيمانك هذا يعني أنك:
* «عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»
وبرهان ذلك أن هذا القرآن:
* «تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ»
فهل أنت أيها «المسلم الوراثي» على صراط الله المستقيم؟!
إن علة إنزال القرآن الحكيم، التي تخفى على كثير من المسلمين، هي «الإنذار» وبيان «المنكرات» التي يعيش فيها الناس جميعًا وهم «غافلون».
لذلك بدأ الجملة التالية بـ «لام التعليل»:
* «لِـ تُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ»
وكانت ثمرة عدم إنذار الآباء، أن أَلِفَ الأبناء المنكرات، وهم «غافلون»، كما ألف المسلمون منكرات «التفرق في الدين».
لذلك بدأ الجملة التي بعدها أيضا بـ «فاء التعليل»، فقال تعالى:
* «فَهُمْ غَافِلُونَ»
لبيان أن «الغفلة» أصبحت صفة ملازمة للناس «غَافِلُونَ – نائمون»، كناية عن استمرارها، حتى بعث الله رسوله محمدًا، فانقسم الناس أمام دعوته قسمين:
١- قسم انتفعوا بالنذارة، فآمنوا بالرسول واتبعوا «الذكر».
٢- قسم لم ينتفع بالنذارة وكفر بالرسول ولم يتبع «الذكر»:
* «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ – فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ»
فكان جزاء الكافرين:
* «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً – فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ – فَهُم مُّقْمَحُونَ»
* «وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً – وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً – فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ»
ثم يبين السياق مصيبة أن تألف القلوب «الغفلة» التي لا تجدي معها بعد ذلك موعظة، ولا يجدي معها إنذار:
* «وَسَوَاء عَلَيْهِمْ – أَأَنذَرْتَهُمْ – أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ – لاَ يُؤْمِنُونَ»
ذلك أن القلوب التي ينفع معها «الإنذار» هي:
* «إِنَّمَا تُنذِرُ – مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ – وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ»
إنها القلوب التي لم تتأصل فيها «مرض الغفلة»، فكانت مستعدة لقبول «الإنذار»، ولم تغضب وتهرب منه، الأمر الذي اقتضى أن يأتي «الاتباع» و«الخشية» بصيغة الماضي لبيان أنه أمر مؤكد ومستمر باستمرار الحياة، والجزاء:
* «فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ»
ويختم الله تعالى الجزء الأول من السورة ببيان فعالية أسماء الله الحسنى، وأن كل شيء يحدث في هذا الوجود، «أسباب ومسبّبات» موجود في إمام مبين:
* «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»
# ثانيًا:
الجزء الثاني من السورة «يس ١٣- ٢٩»:
ويتعلق بضرب المثل، الذي يُبيّن ما يحدث على أرض الواقع، وموقف الناس من «اتباع» الرسل، ومن «الإنذار»:
فيقول الله تعالى:
* «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ – إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ»
* «إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ – فَكَذَّبُوهُمَا – فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ – فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ»
* «قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا – وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ – إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ»
إلى آخر القصة التي بيّنت جزاء من آمن بالرسل واتبعهم:
* «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ»
* «بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ»
وبيان جزاء من كفروا ولم يتبعوا الرسل «يس / ٢٩»:
* «إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ»
# ثالثًا:
الجزء الثالث من السورة «يس ٣٠- ٥٠»:
وهذا الجزء لا علاقة له بالمثل السابق وقصة أصحاب القرية التي انتهت بهلاكهم، وإنما يتعلق بمقصد رئيس من مقاصد القرآن وهو أن يشمل السياق المتعلق بأحوال المكذبين، خطابًا عامًا للناس جميعًا يُبيّن دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس.
لذلك بدأ هذا الجزء من السورة بقول الله تعالى:
* «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ»: خطاب للناس جميعًا.
– «مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون»: خطاب للناس جميعًا «العباد».
– «أَلَمْ يَرَوْا»: خطاب للناس جميعًا «العباد».
– «كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ»: خطاب للناس جميعًا «العباد».
– «وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ»: خطاب للناس جميعًا «العباد».
ثم يبدأ السياق في بيان دلائل الوحدانية، القائمة بين الناس جميع ًا، «العباد» إلى يوم الدين:
* «وَآيَةٌ لَّهُمُ»:
خطاب للناس جميعًا «العباد» إلى يوم الدين.
– «الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ»
* «وَآيَةٌ لَّهُمْ»:
خطاب للناس جميعًا «العباد» إلى يوم الدين.
– «اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ»
* «وَآيَةٌ لَّهُمْ»:
خطاب للناس جميعًا «العباد» إلى يوم الدين.
– «أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»
– «وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ»
وهنا لابد من وقفة لنعلم:
١- أن هذا التعبير «وَآيَةٌ لَّهُمْ» لم يرد في القرآن كله إلا في هذه المواضع الثلاثة التي يخاطب الله فيها الناس جميعًا «العباد» إلى يوم الدين.
٢- لقد جاء ذكر «الْفُلْكِ الْمَشْحُون»، في سياق آيات سورة يس، بلام التعريف، لإرجاع الأمر إلى أصله المعروف للناس جميعا بمختلف مللهم ونحلهم، وهو «نعمة الفلك» التي لم يكن لها وجود قبل عصر نوح عليه السلام.
٣- ثم يخاطب الله بهذه النعمة الذين يشاهدون «آية الفلك» على مر العصور، مرورًا بأهل الجزيرة العربية وما فيها من مواني، كميناء جدة وينبع، أي حملنا ونحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم إلى يوم الدين.
٤- لم يصف القرآن غير «فلك» نوح بوصف «المشحون»، فقال تعالى في سورة الشعراء:
* «فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون»
(أ): وهذه كناية عن ثقل الحمل الذي كان الفلك يحمله:
* «حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا – وَفَارَ التَّنُّورُ – قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ …».
(ب): وفي نفس الوقت بيان أنها كانت آية «معجزة» لنوح، عليه السلام، وكان تصنيعها بوحي من الله، وظلت آية لـ «الناس جميعًا» إلى يوم الدين، كوسيلة لـ «لنقل البحري»، بقرينة قول الله تعالى:
* «وَخَلَقْنَا لَهُم – مِّن مِّثْلِهِ – مَا يَرْكَبُونَ»
والمقصود كل وسائل النقل التي يستخدمها «الناس جميعا» إلى يوم الدين، فتدبر «الزخرف / ١٢»:
* «وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا – وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ – وَالأنْعَامِ – مَا تَرْكَبُونَ»
فذكر «الأنعام» هنا جاء بيانًا لقول الله تعالى:
«وَخَلَقْنَا لَهُم – مِّن م ِّثْلِهِ – مَا يَرْكَبُونَ»
فـ «المثلية» هنا تعني تعدد وسائل النقل في البر والجو «مَا يَرْكَبُونَ»، أي ما يُركب مثل «الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» في البحر.
(ج): عمل مقابلة بين نجاة المؤمنين مع نوح، عليه السلام، في «الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»، وغرق الكافرين، كما ورد في سورة الشعراء:
* «ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ»
وبين غرق الكافرين المكذبين الذين أشار إليهم سياق سورة «يس»:
* «وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ – فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ – وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ»
٥- كلمة «الذرية»:
«الذرية»: هي نسل الإِنسان، وتستخدم للتعبير عن شجرة التناسل وتعاقب الأجيال «أبناء – آباء – أجداد» بصرف النظر عن من أين نبدأ:
فالأبناء يصبحون آباءً وأجدادًا، والأجداد والآباء كانوا أبناءً … بقرينة قول الله تعالى:
* «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ – ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ – وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
* «أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ – وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ – أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»
* «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ – إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ – كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ»
فكلمة «ذرية» تشمل «الناس جميعًا» إلى يوم الدين، في أي نقطة من شجرة التناسل.
ولذلك لم يقل الله تعالى «حملناهم» وإنما قال «حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ»:
لأن السياق في بيان «دلائل الوحدانية» وما أنعم الله به على البشرية، فلم تكن «نعمة الفلك» مقتصرة عليكم، وإنما ممتدة الجذور والأصول والفروع إلى يوم الدين.
وعليه نفهم قول الله تعالى:
* «وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»
أي وَآيَةٌ لـ «العباد»: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ»
أَنَّا حَمَلْنَا ذريات «العباد»: «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»: إلى يوم الدين.
وقد سبق بيان لماذا استخدم السياق جملة «الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ».
# رابعًا:
ثم يُبيّن الله أن مع حجية هذه الآيات على العالمين، إلا أن هناك من سيعرضون عنها «يس / ٤٦»:
* «وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ»
* وقول الله تعالى «يس / ٤٨»
* «وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»
* «مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ»
وهنا وقفة أخرى:
وهي الربط بين هذه الآية:
* «مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ»
وقول الله تعالى في ختام «الجزء الثاني» من السورة «يس / ٢٩»:
* «إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ»
لنعلم أهمية الاستعانة بأدوات فهم القرآن الخمس، وخاصة «علم السياق»، في فهم دلالات الآيات واستنباط أحكامها.
* وتذكر:
١- أن الله تعالى لن يقبل إيمانًا ولا إسلامًا من امرئ لم يدخل في «دين الإسلام» من الباب الذي دخل منه الناس في عصر التنزيل، باب الإقرار العلمي بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، القائمة بين الناس إلى يوم الدين.
٢- أنه بدون منهجية علمية تحمل أدوات مستنبطة من القرآن، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني، لا أمل أن يفهم القرآن الذين يجهلون هذه المنهجية، ولذلك يكونون الصيد الثمين بين أنياب الملحدين.
٣- أن مقالات هذه الصفحة تتحدث عن «ما يجب أن تكون» عليه حياة المسلمين، فإذا وجدت في هذه المقالات غير الذي أمر الله به في القرآن، فأفدنا بعلمك.
٤- أما «ما هو كائن» في حياة المسلمين اليوم، فيتعلق بمسؤولية كل فرد الدينية، لقول الله تعالى:
* «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري



