

(1474) 1/7/2020 الخطاب القرآني وتحديات عصر التنزيل ومرحلية التشريع
يناير 29
٨ min read
0
0
0
لم ينزل القرآن الكريم «جُمْلَةً وَاحِدَةً»، وإنما نزل على فترات لتثبيت المؤمنين، ومواجهة تحديات عصر التنزيل، وكذلك الحال بالنسبة لأحكام القرآن.
وسأضرب مثالا واحدا من عشرات الأمثلة، وهو عن «أحكام الصيام»، لبيان المقصود بـ «مرحلية التشريع».
لقد كان «الصيام» في البداية «أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ»:
يقول الله تعالى «البقرة /١٨٣-١٨٤»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ – أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ …»
إن التعبير بـ «الأيام المعدودات»، ليس كما يقولون من باب الترغيب في الصيام، وكناية عن سرعة انتهاء شهر الصوم، وإنما هو تعبير عن قلة عدد أيام الصيام الذي يستحيل أن يصل شهرًا، فتدبر قول الله تعالى «البقرة / ٢٠٣»:
* «وَاذْكُرُواْ اللّهَ – فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ – فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ – وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ»
فقد كان يحرم على الرجال، في هذه الأيام المعدودات، إتيان النساء ليلًا، وهذا ما بينته «الآية الأم» في أحكام الصيام، حيث يقول الله تعالى «البقرة / ١٨٥»:
* «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ …»
ومعلوم أن «الشهر» ليس «أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ»، فماذا يعني أن يُحل الله للرجال الرفث إلى النساء ليلة الصيام، فقال تعالى «البقرة / ١٨٧»:
* «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ – هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ»؟!
يعني أن «الرفث إلى النساء» كا ن محرمًا قبل ذلك، خلال هذه الأيام المعدودات، ولم يتحمل الصائمون ذلك، فكانت أنفسهم تراودهم على مباشرة نسائهم ليلًا، فقال الله تعالى:
– «عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ»
ولم يقل «تخونون أنفسكم» لأن الخيانة لم تحدث، وإنما الذي حدث «الاختيان» الذي هو تحرك الشهوة الملحة دون إتمام الفعل.
– «فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ»
– «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ»
– «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ – ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ»
ـ «وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ»
– «تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا»
– «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»
ونتدبر جيدًا: «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ»
لأن مثل هذه الآيات المتعلقة بـ «البيان والتفصيل في القرآن»، هي التي يُلحد «القرآنيّون» في معناه، ظنا منهم أن القرآن يحمل «مُسَمَّيات» كلماته الموجودة أصلا خارجه، وعليه يكفرون بلغة القرآن العربية لأن معاجمها خارج القرآن، ويفكرون بـ «الصلوات الخمس» التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي» للمسلمين جميعًا.
# أولًا:
فريضة «الولاء الإيماني» في دين الإسلام:
هي أقوى روابط العلاقات الزوجية التي تشهدها شعوب العالم أجمع، لذلك كانت هي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر:
يقول الله تعالى «الممتحنة / ١٠»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»
– «إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ»
– «فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ»
– «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»
– «فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ»
– «لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا»
– «وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»
ثم تدبر جيدا قول الله تعالى بعد ذلك:
– «وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ» … إلى آخر الآية.
حتى وصل الأمر إلى مساواة المؤمن المُصر على «الزنى» بـ «المشرك بالله»، فقال تعالى «النو ر / ٣»:
* «الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً»
* «وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ»
* «وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ»
١- «عقد الولاء الإيماني»:
يقول الله تعالى «التوبة / ٧١»:
* «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ»
– «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ»
– «وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ»
– «أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ – إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
٢- « عقد الولاء الشركي»:
يقول الله تعالى «المائدة / ٥١»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ»
– «لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء»
– «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ»
– «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ»
– «إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
والسؤال:
كيف يُبيح الله تعالى عقد نكاح قائم على «الولاء الشركي» بين مؤمن ويهودية أو نصرانية، وهو سبحانه القائل «البقرة / ٨٥-٨٩»:
* «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً»
– «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»
– «وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ»
ثم بيّن الله وفَصّل ما سبق بقوله تعالى بعد ذلك:
– «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ»
ـ «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ»
– «وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ»
– «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
– «أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
– «خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ»
– «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»
فهل تاب اليهود والنصارى وأصلحوا؟!
# ثانيًا:
لقد انقسم «أهل الكتاب» فريقين:
١- فريق كان يظن أن رسول الله محمد سيخرج من بين ظهرانيهم، وكانوا إذا قاتلوا المشركين استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث هذا الرسول ليؤيدهم ويعاقب المشركين، ثم عندما وجدوا أن الله بعث رسوله محمدًا في غيرهم، كفروا به.
يقول الله تعالى «البقرة / ٨٩»:
* «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ»
* «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا»
* «فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»
* «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ»
٢- وفريق ظل متمسكًا بالإيمان بالرسل السابقين، متبعًا ما جاء في التوراة والإنجيل، وعندما بعث الله النبي محمدًا أسلموا ولكنهم لم يظهروا إسلامهم، وتأخروا في إعلان اتباعهم للنبي خوفًا من إيذائهم، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم:
(أ): «الأعراف / ١٥٧»:
* «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ»
* «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ»
(ب): «آل عمران / ١٩٩»:
* «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»
– «لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ»
– «وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ»
– «خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً»
– «أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ – إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»
(ج): «المائدة / ٨٣»:
* «وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ»
(د) «الإسراء / ١٠٧»:
* «قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا»
– «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ»
– «إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً»
وهؤلاء السابق ذكرهم، الذين آمنوا برسول الله محمد، و«الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ»، والذين قال الله تعالى فيهم «الأنعام / ٢٠»:
* «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ»
والضمير في «يَعْرِفُونَهُ» يعود إلى رسول الله محمد، عليه السلام.
هؤلاء هم الذين أباح الله نكاح نسائهم، والوارد ذكرهم في قول الله تعالى «المائدة / ٥»:
* «وَالْمُحْصَنَاتُ» – «مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ» – «مِن قَبْلِكُمْ».
فتعالوا نتدبر السياق الذي وردت فيه هذه الآية.
# ثالثًا:
لقد نزلت الآيات «المائدة / ١-٥» لمواجهة مواقف استثنائية، وللرد على تساؤلات كانت مثارة في عصر التنزيل، فتعالوا نتدبر هذه السياقات التي بدأت بقول الله تعالى «المائدة / ٣»:
* «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ»
وقول الله تعالى في نفس الآية «المائدة / ٣»:
* «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»
ثم قول الله تعالى «المائدة / ٤»:
* «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ – قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ – وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ … إلى آخر الآية»
ثم يؤكد السياق ما سبق تأكيده في كثير من آيات الذكر الحكيم، عن حلية أكل «الطيبات» ونكاح «المحصنات المؤمنات»، فيقول الله تعالى «المائدة / ٥»:
* «الْيَوْمَ – أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ – وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ – وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ»
* «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ – وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ»
والسؤال:
١- ما الحكمة من إعادة تكرار:
(أ): «أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»:
وقد سبق بيان ذلك في سياق «التساؤلات» التي ذكرتها الآية التي قبلها «قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ»؟!
(ب): «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ»:
وحليته أمر أصبح بدهيًا بالنسبة للمؤمنين المخاطبين بهذه الآية، لقيام حياتهم الزوجية عليه أصلًا؟!
إذن فلا شك أن هناك سببًا آخر هو الذي فرض إضافة هذا النوع من النكاح إلى هذا السياق الذي حمل مسائل إيمانية بدهية، فما هو هذا السبب؟!
يُفهم من هذا السياق، الذي بدأ ببيان حلية نكاح «الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ»، أن هناك إشكالية كانت تتعلق بنكاح المرأة التي آمنت بعد أن تشرب قلبها الكفر، وتعودت على ارتكاب الفواحش في البيئة التي تربت فيها، فكيف تتساوى مع «الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ» اللاتي ولدن في بيئة إيمانية وتربيّن على «الإيمان»؟!
(ج): لقد نزلت هذه الآية، لبيان حكم نكاح المؤمنات:
«مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ»
وقيّد الشرط، في هذا السياق، بكلمة «مِنْ قَبْلِكُمْ»، لاستبعاد العرب الذين تهوَّدوا وتنصَّروا فكانوا «من أهل الكتاب» الذين ورد ذكرهم في سياق الذم، وليسوا «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» الذين ورد ذكر من آمن منهم في سياق المدح.
وهؤلاء «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، هم الذين نسب الله إيتاء الكتاب إليه عز وجل فقال تعالى «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ»، ولم يبنه للمجهول كما في «أُوتُوا الْكِتَابَ»، تشريفًا وتكريمًا لهم على إيمانهم.
٣- وهنا سيفرض هذا السؤال نفسه:
ألم يكفر اليهود والنصارى برسول الله محمد، ولم يتبعوا رسالته، ويشملهم سياق قول الله تعالى:
* «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ»؟!
إذن فكيف يُبيح الله للمؤمنين نكاح نساء اليهود والنصارى، وهو القائل «البقرة / ١٢٠»:
* «وَلَن تَرْضَى عَنكَ»
– «الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى»
– «حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ»
– «قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى»
– «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم»
– «بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ»
– «مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ»؟!
# رابعًا:
ولذلك، وفي نفس سياق الآية «المائدة / ٥»، حذر الله من مخالفة هذا شرط «الإيمان»، فقال تعالى:
* «وَمَنْ يَكْفُرْ»:
– بِـ «الإِيمَانِ»:
– «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»:
– «وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ»
فلو كان نكاح «الكتابية»، اليهودية أو النصرانية، جائزًا دون تحقق شرط «الإيمان» ودخولهن في «دين الإسلام»:
لسقطت هذه الآية «المائدة / ٥» من قواعدها، وما كانت من كلام الله المحكم، ولسقط القرآن كله، وذلك لسببين:
(أ): مفهوم كلمة «الإيمان»:
إن كلمة «الإيمان» في حد ذاتها لا يُكفر بها، وإنما يُكفر بـ «مُسَمَّاها» ودلالتها على «أصول الإيمان» الخمسة التي بيّنها الله بقوله تعالى «النساء / ١٣٦»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ»
* «آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ»
* «وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ»
* «وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ»
* «وَمَن يَكْفُرْ»:
– «بِاللّهِ – وَمَلاَئِكَتِهِ – وَكُتُبِهِ – وَرُسُلِهِ – وَالْيَوْمِ الآخِرِ»
– «فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً»
ذلك أن «الكفر» يستدعي «مكفوراً» به ثابتاً، كالكفر بأصول الإيمان الخمسة، فيكون المعنى:
أحل لكم نكاح نساء «الذين أوتوا الكتاب» بشرط تحقق «أصول الإيمان» على الدوام في علاقتكم الزوجية معهن، وتربية ذريتكم أيها «المؤمنون» على هذه الأصول، الأمر الذي يستحيل تحققه إلا إذا أسلمت «الأم الحاضنة للطفولة»، والمسؤولة عن إعداد أمة بأكملها.
فهل اليهودية أو النصرانية تستطي ع أن تقيم «أمة مؤمنة» وهي تكفر برسول الله محمد وبالقرآن؟!
(ب): تعارض وتناقض الجملة القرآنية:
* «وَمَن يَكْفُرْ بِـ {الإِيمَانِ} فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ – وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»
مع الجملة القرآنية التي «تبيح» نكاح المرأة «غير المؤمنة» برسول الله محمد وبالقرآن، حسب فهم أئمة السلف ومعظم المسلمين، وهي:
«وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ»
فكيف ينكح:
* «مؤمن» بالله – وبرسوله محمد – وبالقرآن.
* «مؤمنة» بالله – وكافرة برسوله محمد – وبالقرآن.
«أَفَلاَ تَعْقِلُونَ – أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ – أَفَلاَ تَتَّقُونَ»؟!
# خامسًا:
في الحقيقة أن الدراسة التي أعددتها عن هذا الموضوع، منذ عقود من الزمن، والتي نشرت بعضها على هذه الصفحة منذ سنوات، تحمل مسائل أكثر مما ذكرته هنا بكثير، ومنها على سبيل المثال مفهوم «اليوم» الذي ورد في سياق آية واحد مرتين فقال تعالى «المائدة / ٣»:
* «الْيَوْمَ – يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ»
* «الْيَوْمَ – أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»
وقد يحتاج الأمر إلى نشر هذه الدراسة في كتاب مستقل.
ولكن هناك إشكالية وجدت أنه من الضروري أن يشملها هذا المقال، وإن كانت تخالف منهجية التوجه «نحو إسلام الرسول»، ولكنها في الحقيقة تبيّن مدى «العشوائية الفكرية الدينية» التي يعيش بداخلها علماء السلف والخلف الذين يتبعهم المسلمون اليوم.
١- ففي «الثمانينيات»، وأثناء دراستي لمرويات الفرق الإسلامية، وجدت أن هناك من كبار الصحابة، المشهود له بالعلم، من حرَّم «نكاح الكتابية» تحريمًا قطعيًا.
والمفاجأة أن الذي روى عنه هذا التحريم هو «البخاري» شخصيًا في صحيحه، كتاب الطلاق، باب قول اللَّه تعالى:
«وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ»
فروى عن «نافع» قال:
«إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ اِذَا سُئِلَ عن نكاح النصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ:
– إن اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
– وَلا اَعْلَمُ مِنْ الإشراك شَيْئًا.
– أكْبَرَ مِنْ أن تَقُولَ المرأة رَبُّهَا عِيسَى.
– وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ».
هذا بالنسبة لفرقة أهل السنة.
٢- فإذا ذهبنا إلى «الشيعة الإمامية» نجد أن معظمهم يُحرّم «نكاح الكتابية» على سبيل الدوام، ويستثنون «نكاح المتعة»، أي النكاح المؤقت، ويستندون في التحريم إلى قول الله تعالى «البقرة / ٢٢١»:
* «وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ»
وقول الله تعالى «الممتحنة / ١٠»:
* «وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ»
ويقولون إن الجملة القرآنية:
* «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ»
تتعلق باللاتي كن في الأصل «مؤمنات».
أما جملة: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ»
فتتعلق باللاتي أسلمن منهن.
٣- فإذا ذهبنا إلى أمهات كتب التفسير، عند قول الله تعالى «المائدة / ٥»:
* «وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»
نجدهم يقولون:
والمقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب «لا يقتضي تزكية لحالهم»، ولكن ذلك تيسير على المسلمين، وقد ذُكر في سبب نزول هذه الآية، أنّ نساء «أهل الكتاب» قلن للمسلمين:
«لولا أنّ الله رضي ديننا، لم يبح لكم نكاحنا».
٤- أما إذا ذهبنا إلى القرآنيّين الملحدين في أحكام القرآن، الذين يقولون إن الله بيّن وفصّل كل شيء في القرآن، نجدهم يُحلّون نكاح المسلم «الكتابية» الكافرة المشركة، ونكاح المسلمة «الكتابي» الكافر المشرك!!
والسبب:
* «أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»
وطبعا طالما فيه «غَافِلُون» يبقى «الملحدون» في نعيم.
محمد السعيد مشتهري