

(1676) 12/1/2021 «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ – الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ – ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»
يناير 28
5 min read
0
0
0
لقد بيّنت في المقال السابق، بالبراهين القرآنية قطعية الدلالة، أن عيسى عليه السلام بشرٌ كسائر البشر، وبرهان ذلك شهادة قومه عندما كلمهم في المهد وهو على صورته البشرية:
* «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً»
وبيّنا أن الفعل «الماضي» يأتي في السياق القرآني للحديث عن «المستقبل»، ومن ذلك قول عيسى «آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً» باعتبار ما سيحدث مستقبلا، وذلك لاستحالة أن يكون تفعيل «عيسى» لـ «الكتاب» قد بدأ وهو في المهد.
# أولًا:
لقد كلّم «عيسى» عليه السلام الناس، كآية دالة على صدق نبوته، في حالتين فقط ذكرهما الله تعالى:
١- في سياق تبشير الملائكة ببعثته «آل عمران ٤٥-٤٦»:
«إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ – بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ – اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ – وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ – وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ»:
– «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي (الْمَهْدِ) – وَ(كَهْلاً) – وَمِنَ الصَّالِحِينَ»
٢- وفي سياق تذكير الله لـ «عيسى» بنعمته عليه «المائدة / ١١٠»:
«إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ – اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ»:
– «إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ – تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً»
والمقصود بالكلام في الحالتين «فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً»، الكلام المثبت لصدق نبوة «عيسى»، فالكلام الأول وهو في «الْمَهْدِ»، والثاني عندما أصبح «كَهْلاً» في الثلاثين من العمر.
٣- وفي الحالتين، لقد تكلم الله مع «عيسى» بطرق الكلام التي تكلم بها مع البشر، «الشورى / ٥١»:
* «وَمَا كَانَ (لِبَشَرٍ) أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً – أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ – أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً – فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ – إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ»
لاحظ كلمة «بَشَر»، لا فرق بين من وُلد باختلاط ماء الرجل بماء المرأة، وبين «عيسى» الذي وُلد باختلاط ماء أمه بكلمة «كن فكان» ليكون آية لقومه الذين يُنكرون البعث، فتدبر:
يقول الله تعالى «آل عمران / ٥٩»:
* «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ»:
* «خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ – ثِمَّ قَالَ لَهُ (أي لآدم) كُن فَيَكُونُ»
٤- ومما يُسقط ما ذهب إليه المفكر الهرمنيوطيقي «عدنان الرفاعي» من قواعده، ويُسقط دعوى أن «عيسى» لم يكن بشرًا رسولًا نبيًا كسائر الأنبياء والرسل، قول الله تعالى:
* «إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ – تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً»
فـ «رُوحِ الْقُدُسِ» هو «جبريل» الذي جعل «عيسى» يتكلم في «الْمَهْدِ» بإذن الله، وهو الذي علمه «الكتاب والحكمة» عندما أصبح «كَهْلاً» بإذن الله، وهو الذي أيده بالآيات الحسية بإذن الله، وهذا ما أفاده قول الله تعالى بعد ذلك:
* «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ – وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ»:
– «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ (بِإِذْنِي)»
– «فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً (بِإِذْنِي)»
– «وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ (بِإِذْنِي)»
– «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى (بِإِذْنِي)»
# ثانيًا:
إن شبهة التفريق بين رسول الله «عيسى» وسائر الأنبياء والرسل، ظهرت بين أتباعه، وبين أتباع رسول الله محمد، نتيجة الجهل التام بـ «طبيعة» الآيات التي أيد الله تعالى بها رسله لإثبات بطلان عقائد أقوامهم الفاسدة، وأخطرها «إنكار البعث».
إن الفرق بين رسول الله «عيسى» وسائر الأنبياء والرسل، لم يكن في بشريته، ولا في طرق كلام الله معه، ولا في موته كسائر البشر، وإنما في طبيعة «الآيات الحسية» التي أيده الله بها، لكشف بطلان إنكار قومه البعث.
إلا إذا كان المفكر الهرمنيوطيقي «عدنان الرفاعي» يرى أن الآية السابقة لا تشمل رسول الله «عيسى» عليه السلام، وأن «رُوح الْقُدُسِ» كان ينزل على شخص آخر بعدما أصبح كهلا «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».
١- حسب أصول وقواعد الحوارات والمناظرات العلمية، يجب أن يهتم كل طرف بإسقاط «المنهج» الذي انطلق منه الطرف الآخر في موضوع الحوار، ولا ينشغل أبدا بما أقامه الآخر على هذا «المنهج» فما قام على باطل فهو باطل.
وأنا أدعي أني في المقال السابق، وفيما ذكرته سابقا، أكون قد أسقطت «المنهج الهرمنيوطيقي» الذي انطلق منه إلحاد «عدنان الرفاعي» في مدلولات كلمات التنزيل الحكيم، وخاصة دلالة كلمة «الوفاة».
ولكن الإشكال أن معظم المسلمين يجهلون أساليب القرآن البيانية، ومنها «علم المجاز»، الذي كان يعلمه قوم رسول الله محمد ونزل القرآن يخاطبهم به في كل ما يتعلق بـ «عالم الغيب» في المقام الأول، وقد سبق الحديث عن هذا العلم في كثير من المقالات.
٢- إن اللفظ «المجازي» هو اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له أصلا، فكلمة «أسد» تعني في أصلها الحيوان المعروف، وهو معنى «حقيقي»، فإذا قلت لابنك «أنت أسد» فقد حوّلت المعنى الحقيقي إلى معنى «مجازي» تصف به ابنك بـ «الشجاعة».
ولا تُفهم الكلمة على أنها «مجازٌ» إلا بقرينة دالة على ذلك، فعندما تقول لابنك «أنت أسد» فالقرينة هنا التي تؤكد على أن كلمة «أسد» استخدمت على سبيل المجاز، أن ابنك في حقيقة الأمر ليس «أسدًا».
وإن معظم «الآيات المتشابهات» التي أشارت إليها الآية «آل عمران / ٧» تحمل أساليب «مجازية» يغفل عنها المسلمون، ولا يتبعها إلا «الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ»:
والسبب: «ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ» ولذلك قال الله تعالى بعد ذلك «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ»، والتأويل هنا بمعنى «الحقيقة» لأن كل ما يتعلق بعالم الغيب يستحيل أن تدرك حواسنا حقيقته وما سيؤول إليه.
ولذلك، وبناء على الفهم الواعي لهذه الحقيقة، يكون موقف «الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» من هذه «المُتَشَابِهَات»:
* «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ – يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ – كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا»:
– «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ»: * «وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ».
# ثالثًا:
إن كل كلمة لم تصحبها في السياق «قرينة» دالة على تحوّل معناها من «الحقيقة» إلى «المجاز»، تظل على معناها ال حقيقي.
١- فإذا ذهبنا إلى الآيات التي ذُكرت فيها لفظة «الوفاة» بمعنى «النوم»، نجد أنها حملت «القرينة» الدالة على «النوم»:
(أ): قول الله تعالى «الأنعام / ٦»:
* «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ»
والقرينة هنا: «يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ»، والمقصود «النوم».
(ب): قول الله تعالى «الزمر / ٤٢»:
* «اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا – وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا»
والقرينة هنا:
– الوفاة = الموت = المعنى الحقيقي.
– الوفاة = النوم = المعنى المجازي.
٢- فإذا تدبرنا الآيات التي ذكرت «الوفاة» في سياق قصة «عيسى» عليه السلام، نجد أن كلمة «الوفاة» جاءت بمعناها «الحقيقي» الدال على «الموت»، لعدم وجود قرينة دالة على المعنى «المجازي».
يقول «ابن فارس» في معجم مقاييس اللغة، الذي اعتمد عليه «محمد شحرور» وغيره في قراءاتهم الإلحادية للتنزيل الحكيم، مستخدمين «المنهج الهرمنيوطيقي»:
«الواو والفاء والحرف المعتل: كلمة تدل على إكمال وإتمام، منه الوفاء: إتمام العهد وإكمال الشرط، ووفى أوفى فهو وفي، ويقولون أوفيتك الشيء إذا قضيته إياه وافيا، وتوفيت الشيء واستوفيته، ومنه يقال للميت توّفاه الله».
٣- ولقد وردت لفظة «الوفاة» بمعنى «الموت» في الآيات التالية:
* «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ»
– فهل لم يكن «عيسى» من عباد الله الذين توفتهم رسل الله وماتوا؟!
* «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
– فهل لم يكن «عيسى» من ضمن الناس الذين عبدوا الله وتوفاه الله كما توفي الناس جميعا؟!
* «وَاللّهُ خَلَقَكُمْ – ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ – وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ»
– فهل لم يكن «عيسى» ممن خلقهم الله تعالى وتوفاهم؟!
* «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»
وأين البرهان القرآني، على أن «عيسى» من دون الناس، يَتَوَفَّاهُ مَّلَكُ الْمَوْتِ بعد عودتهم إلى الدنيا، وأين نذهب بقوله تعالى «آل عمران / ٥٥»:
* «إِذْ قَالَ اللّهُ – يَا عِيسَى – إِنِّي مُتَوَفِّيكَ – وَرَافِعُكَ إِلَيَّ»
وكيف نفهم قول الله «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ» مع قوله تعالى لعيسى «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ»، فهل توفى ملك الموت نفس «عيسى» بعد عودته آخر الزمان، أم توفّاها وهو بين قومه، وهنا ستكون «القاصمة»:
إذن كيف نفهم قول الله تعالى «وَرَافِعُكَ إِلَيَّ» بعد «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ»، وقد قبض «ملك الموت» نفس «عيسى» قبل أن يرفعه الله إليه، لقوله تعالى «قُلْ (يَتَوَفَّاكُم) مَّلَكُ الْمَوْتِ»؟!
أما عن مسألة رفع الله «عيسى» إليه، ففي لقاء قادم، إلا أن يشاء الله.
محمد السعيد مشتهري



