

(1801) 11/5/2021 لغة القرآن وأساليبها البيانية البلاغية [٢٩]
يناير 26
5 min read
0
0
0
كيف يفهم «القرآن» من يجهلون «علم السياق»؟!
لقد نزل القرآن لـ «يتدبر» الناس آياته والوقوف على إحكام نظمه وبلاغة أسلوبه، ويستحيل أن يحدث هذا وهم يجهلون لغته وأساليبه البيانية البلاغية التي كان يعلمها قوم رسول الله محمد من قبل بعثته.
من أجل ذلك قام التوجه «نحو إسلام الرسول» على منهجية علمية تحمل أدوات لفهم القرآن مستنبطة من آياته ومنها السياق القرآني.
ولن يدرك المؤمن المسلم، بلاغة وإحكام نظم آيات الذكر الحكيم، ولماذا عجز «أهل اللسان العربي» أن يأتوا بسورة من مثله، إذا كان يجهل «علم السياق القرآني».
١- يقول الله تعالى «آل عمران / ١٣»:
* «قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا»:
– «فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
– «وَأُخْرَى كَافِرَةٌ»
* «يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ»
(أ) إن السياق يتحدث عن «فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا» في معركة، فلماذا ذكر صفة الفئة الثانية «وَأُخْرَى كَافِرَةٌ»، ولم يذكر صفة الفئة الأولى «فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»؟!
– لأن بلاغة القرآن قائمة على «الإيجاز»، على أساس أن الذين يتدبرون القرآن يجب أن يكونوا على علم بأساليبه البيانية البلاغية.
– لقد حُذفت كلمة «مؤمنة»، من الجملة الأولى، لوجود ما يقابلها وتُعرف به في الجملة الثانية وهو «الكفر».
(ب): لماذا ذكر في الجملة الأولى أن الدافع إلى القتال هو:
* «تقاتل فِي سَبِيلِ اللّهِ»
– ولم يذكر الدافع إلى القتال بالنسبة إلى الفئة الكافرة، واكتفى بذكر «وَأُخْرَى كَافِرَةٌ»؟!
والجواب:
إن متدبر القرآن يعلم أن الله تعالى يقول «النساء / ٧٦»:
* «الَّذِينَ آمَنُواْ – يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
* «وَالَّذِينَ كَفَرُواْ – يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ»
(ج): إذن فهو يعلم أن معنى الآية هو:
«فِئَةٌ (مؤمنة) تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
«وَأُخْرَى كَافِرَةٌ (تقاتل فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)»
وحُذفت كلمة «مؤمنة» من الجملة الأولى، لأنها تُفهم ضمنيًا من مقابلها «الضد» في الجملة الثانية «كَافِرَةٌ».
(د): ولم يذكر كلمة «مؤمنة» في الجملة الأولى، واهتم بذكر الدافع إلى القتال، لبيان أن العمل بـ «مقتضيات الإيمان»، الذي هو «تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»، أولى بالذكر في هذا السياق.
(هـ): ولم يستخدم كلمة «فِئَةٌ» في الجملة الثانية واستخدم «أُخْرَى» لبيان أنه لا قيمة لـ «الكفر» حتى لو كان هو الفئة الأكثر عددا وعدة، لذلك استخدم كلمة «أُخْرَى» من باب الإهمال.
فإذا أردنا أن نفهم الآية بدون «إيجاز» تكون على النحو التالي:
* «قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا»:
* «فِئَةٌ (مؤمنة) تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
* «وَأُخْرَى كَافِرَةٌ (تقاتل فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)»
ولم يذكر «مؤمنة» في الجملة الأولى للاهتمام بـ «مقتضى الإيمان»:
* «تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
ولم يذكر في الجم لة الثانية دافع الفئة الكافرة:
* «تقاتل فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ»
لبيان أن عند التقاء الفئتين على أرض المعركة، لن يكون لقتال الفئة الكافرة «فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» أي قيمة تُذكر في مقابل قتال الفئة المؤمنة «فِي سَبِيلِ اللّهِ».
٢- يقول الله تعالى «التوبة / ١٠٢»:
* «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ»:
* «خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً»
* «عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ – إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»
(أ): فإذا سألك سائل:
ما معنى «(خَلَطُواْ) عَمَلاً صَالِحاً (وَآخَرَ) سَيِّئاً» ومعلوم أن «الخلط» يكون بين شيئين، فالمفروض أن تكون الجملة:
* «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ – خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً – بـ (عمل سَيِّئٍ)»؟!
فلماذا حَذَفَ السياق «الباء» وجاء بـ «وَآخَرَ»؟!
الجواب:
إن الأصل أن تكون الجملة:
* «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ»:
* «خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً بسيء»
* «وخَلَطُواْ عَمَلاً سَيئًا بصالح»
(ب): ولكن «الإيجاز» اقتضى أن تكون الجملة:
* «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ»:
* «خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً»
والمعنى من باب ضرب المثل:
– قد يخ لط المسلم في «صلاته» بين تلاوة القرآن و«هوى» نفسه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويعود إلى تدبر ما يقول.
– وقد يتحكم «الهوى» في مسلم فيُقدم على عملٍ سيٍء، فإذا به يقابل مصابًا فيأخذه إلى المستشفى، وهو عمل صالح.
(ج): وحتى لا يظن صاحب هوى، أن الله تعالى يغفر للذين:
* «خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً»
بدون استغفار وتوبة، أقول تعالوا نتدبر السياق «التوبة / ١٠١»:
* «وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ»:
* «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ – لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»
* «سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ – ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ»
* «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ ب ِذُنُوبِهِمْ»:
* «خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً»
إذن فالحديث أصلًا عن «المنافقين» الذين «اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ»، أي تابوا وأنابوا إلى الله، ومع ذلك قال تعالى بعد ذلك:
* «عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ – إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»
٣- يقول الله تعالى «البقرة / ٢٢»:
* «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ»:
* «قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ»
* «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ – حَتَّىَ يَطْهُرْنَ»
* «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ – فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ»
(أ): لماذا قال «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» بالتشديد، ولم يقل «فَإِذ َا طَهُرْنَ» بالتخفيف؟!
أي لماذا ذَكَرَ المخفف «طَهُرْنَ» في الجملة الأولى، وحذف نظيره «طَهُرْنَ» من الجملة الثانية، وقال «تَطَهَّرْنَ»؟!
والجواب:
لأن كلمة «يَطْهُرْنَ»، التي وردت في الجملة الأولى، تفيد انقطاع دم الحيض، وهذا لا يُبيح للرجل أن يقرب زوجه حتى «تتطهر» بعد أن «طهرت».
(ب): الفرق بين «الطُهر» و«التطهر»:
* الطُهر: انقطاع دم الحيض أو النفاس.
* التطهر: الاغتسال بعد الطُهر.
وعليه كان المفترض أن تكون الآية:
* «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ – حَتَّىَ يَطْهُرْنَ – (ويَتَطَهَّرن)»
* «فَإِذَا (طَهُرْنَ) وتَطَهَّرْنَ – فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ»
(ج): لقد جاء الفعل المشدد المحذوف «يَتَطَهَّرن» في الجملة الأولى، بعد الفعل المخفف «يَطْهُرْنَ»، لبيان وجوب «الغسل» بعد انقطاع دم الحيض أو النفاس.
وهذا من «الإيجاز» الذي تحمله لغة القرآن وأساليبها البلاغية، أن تُحذف الكلمة المشددة «يَتَطَهَّرن» من الجملة الأولى، ويأتي بها في الجملة الثانية، مع حذف الكلمة المخففة «طَهُرْنَ» منها.
نفهم من ذلك:
أن إتيان الرجل زوجه يكون بعد «التطهر» لا بعد «الطهر».
٤- تدريب:
(أ): يقول الله تعالى «الأنفال / ٦٥»:
* «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ»:
* «إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ»
– و لم يقل «مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» لذكرها بعد ذلك:
* «وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً – مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ»
– وحذف من هذه الجملة «صابرة» لذكرها في الجملة الأولى، ليكون المعنى:
* «إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ (مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ)»
* «وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ (صابرة) يَغْلِبُواْ أَلْفاً – مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ»
(ب): يقول الله تعالى «الشورى / ١٨»:
* «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا»:
– حذف بعد «لا يُؤْمِنُونَ بِهَا»: «لا يشفقون منها» لذكرها بعد ذلك:
* «وَالَّذِينَ آمَنُوا – مُشْفِقُونَ مِنْهَا»
– وحذف من هذه الجملة «لا يستعجلونها» لذكرها في الأولى، ليكون المعنى:
* «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا – (فلا يشفقون منها)»
* «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا – (ولا يستعجلونها)»
# وغير ذلك من مئات الأمثلة التي يستحيل أن يفهمها «قرآني» أو «ملحد» من الذين يستغفلون قلوب الجهال المغفلين بالبدع الشيطانية التي يخرجون بها علينا كل ساعة تحت راية «القرآن وكفى»:
– هؤلاء الذين يكفرون بمعاجم اللغة العربية، وبهيئة الصلاة الحركية، وبالصلوات الخمس، وقريبا سيكفرون بـ «الشمس» ويقولون إنها «القمر».
٥- فماذا يعلم المسلمون عن علم السياق وأدواته؟!
لقد ورث المسلمون عن آبائهم:
(أ): الكفر بـ «الآية القرآنية العقلية»:
– لأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم مؤمنين مسلمين ليسوا في حاجة إلى إثبات أن القرآن «كلام الله»، ولا إلى إثبات أن محمدًا «رسول الله».
(ب): الجهل بلغة القرآن وأساليبه البيانية:
– لأنهم لم يتربوا على أن اللغة العربية هي القاعدة التي يقوم عليها فهم «كلام الله» الذي حملته «آية» رسوله محمد «القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوته» إلى يوم الدين.
(ج): التعامل مع «القرآن» باعتباره تراثًا دينيًا كـ «التوراة والإنجيل».
– لأنهم لم يتربوا على أن القرآن الذي بين أيديهم اليوم:
هو «الآية الإلهية» الدالة على صدق «نبوة» رسولهم محمد، المعاصرة للناس اليوم، القائمة بينهم إلى يوم الدين.
(د): يقيمون دورات تدبر القرآن، و«التدبر» أصلًا منهم براء، فما شاهدت أو استمعت إلى ما يُقال في هذه الدورات إلا وقلت في نفسي:
* «مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ»
– إنهم يسيرون عكس «مقتضيات الوحدانية»:
* «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»
– يخافون أن يتحدثوا في دوراتهم عن «شرك التفرق في الدين» حتى لا ينفض الحضور من حولهم.
– يُعطون ظهورهم لـ «لغة القرآن» ومن الذين يحضرون هذه الدورات يُلحدون في أحكام القرآن، ومنهم من يحضر لمجرد الراحة النفسية من هموم الدنيا، تماما كالذين يخرجون في سبيل الله من «جماعة الدعوة والتبليغ».
(هـ): أما الذين يقولون:
إن الذين نقلوا «القرآن»، هم أنفسهم الذين نقلوا «الأحاديث» المنسوبة إلى رسول الله محمد، فهؤلاء كفروا بالله ورسوله، قولًا واحدًا، ذلك لأنهم ساووا:
* بين الحفظ الإلهي لـ «الآية» التي يستحيل أن يأتي بمثلها إنس ولا جان:
* وبين الحفظ البشري لـ «الرواية» التي جاء بها الإنس والجان، لذلك خضعت لـ «التصحيح والتضعيف»، وخضع رواتها لـ «الجرح والتعديل».
«أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ – أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»



