


«قريش»، وقصة «النسيء»، وغزوة «تبوك»
إن من ابتدعت بدعة «النسيء» هي قبيلة «كنانة»، التي تعتبر «قريش» فرعًا منها، ولكن «قريش» استقلت بذاتها عن سائر قبائل بني كنانة، واستوطنت «مكة».
لقد تولّت «قريش» القيام بأعمال الحج، وكانت تعيش على التجارة، فتذهب قوافلها إلى الشام في الشتاء، وإلى اليمن في الصيف، ثم تأتي القبائل إلى أشهر الأسواق «سوق عكاظ وسوق مجنة وسوق ذي المجاز» لشراء احتياجاتها.
يقول الله تعالى في سورة «قريش»:
«لإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»
إن إضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه، وظاهرها أن رحلة الشتاء والصيف معروفة، وكانت «قريش» تتعرض خلال الرحلتين إلى اعتداءات مستمرة سُمّيت بحروب «الفجار» لانتهاكها حرمة الأشهر الحرم.
فإذا ذهبنا إلى «علم السياق»، نجد أننا يجب أن نقف على العلاقة بين سورة «قريش» وسورة «الفيل» التي قبلها مباشرة، حيث يقول الله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»
ففي سياق بيان نعم الله على العرب، يخاطب الله رسوله بأحداث لم يرها، باعتبارها حقائق تاريخية، نقلتها «منظومة التواصل المعرفي»، فأخذت نفس حجية الرؤية.
لقد سمع أهل مكة بقدوم أصحاب الفيل، فتركوا «الرحلتين» وهربوا من مكة، وتفرقوا في البلاد، ومن نعم الله عليهم، أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا، لصار حال أهل مكة كحال اليهود متفرقين في البلاد، ولكن الله أهلك أصحاب الفيل، لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم، وعادوا إلى ديارهم، تمهيدا لبعثة النبي محمد.
إنه تذكير بنعم الله على «قريش»، وأنه سبحانه أوجد الألفة بينهم وبين سائر القبائل بعد عودة الرحلتين، وبدأ الناس ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية.
لذلك كان عليهم أن يوجّهوا عبادتهم إلى رب هذه الكعبة «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ»، ويُقرّوا له بـ «الوحدانية»، بعد أن أصبحت قريش تأمن في سفرها، وقت أن كان الناس يغير بعضهم على بعض، والناس يتخطَّفُون من حولهم:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ»
ومع تعظيم العرب «الأشهر الحرم»، باعتبار أنها من ملة إبراهيم، فقد كان يشق عليهم الكف عن التجارات والغارات ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما قامت بينهم حروب، فكانوا لا يستطيعون وقفها أو تأخيرها بسبب هذه الأشهر الحرم.