


«وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ»
بعد أن قمنا بتحديد معاني المصطلحات الفلكية المستخدمة في السياق القرآني، كي نفهم المراد بكلمة «الليل» في السياق القرآني، نأتي الآن إلى مفهوم «الليل» في اللسان العربي، والسياق القرآني.
أولا: اللسان العربي
أجمعت مراجع «اللغة العربية»، التي حفظ الله بداخلها «اللسان العربي»، على أن «الليل» يأتي عُقيب النهار، ومبدؤه من غروب الشمس، وينتهي عند الفجر، وأن «النهار» يأتي عُقيب الليل، ومبدؤه الفجر، وينتهي عند غروب الشمس، وفي ذلك الكفاية.
ثانيا: السياق القرآني
إن المتدبر لآيات الذكر الحكيم، يعلم أن كلمة «الليل»، والتي يقابلها «النهار»، تأتي بالمعنى العام الذي تعرفه الشعوب، وذلك في سياق بيان «دلائل الوحدانية»، فيقول الله تعالى:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .. لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»
ولماذا «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»؟!
لأن ما يحمله اختلاف الليل والنهار من آيات لا يقف عليه إلا «العقلاء»، فالليل لا يسقط فجأة على الناس، ولا «النهار»، والذين يقولون إن الليل يعني «الظلام» قوم لا يعقلون، لأنهم يريدون إسقاط هذه الآية من «دلائل الوحدانية»!!
إن «العقلاء» وحدهم هم الذين يقفون على أسباب اختلاف الليل والنهار، وكيف يحدث هذا الاختلاف فلكيا، كي يخلف كل واحد منهما الآخر، يقول الله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً»
إن كلمة «خِلْفَةً» تعني أن الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر نتيجة كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس، بصورة متعاقبة متناغمة، ولولا هذا التعاقب، لأصبح الجزء المواجه للشمس نهارا دائمًا، والآخر ليلا دائمًا.
ولذلك يُبيّن الله للناس النعم التي يستفيدون منها نتيجة اختلاف الليل والنهار، والتي هي في حقيقتها من «دلائل الوحدانية»، فيقول تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ»
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ»
إن تدبر الحكمة من استخدام كلمة «الضياء»، وعدم استخدام كلمة «النهار» في الآية الأولى، ثم استخدم كلمة «الليل» مقابل «النهار» في الآية الثانية، يساعدنا على فهم معنى الآيتين.
لقد استخدم السياق كلمة «الضياء» لبيان أنه لولا الشمس: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً»، ودوران الأرض أمامها حول محورها، لما كان هناك ليل، ولما كان هناك نهار، ولظلت الأرض على حالها من الظلمة «سرمدا» إلى يوم القيامة.
إذن، فكلمة «ضياء» لم تأت في الآية الأولى لبيان أن الليل يعني الظلمة «بالمفهوم العام»، وإنما جاءت للإجابة على سؤال افتراضي في سياق بيان دلائل الوحدانية:
ماذا لو أن الله تعالى لم يخلق الشمس، فماذا سيكون حال الأرض، بل وحال المجموعة الشمسية؟!
لذلك فإن قوله تعالى «يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ» جاء للإشارة إلى نعمة «الشمس»، وليس إلى نعمة «الضياء»، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى بعد الآيتين مباشرة، واستكمالا لبيان النعم:
«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
إن الأصل أن الليل موجود أسفل النهار، وظلمة الليل تظهر تدريجيا من تحت النهار مع انسلاخ النهار من الليل، بداية من غروب الشمس وحتى غسق الليل، ثم يعود النهار إلى الليل ليغطيه مرة أخرى عند الفجر، وهذا ما بيّنه الله تعالى بقو له.
«فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ».
«جَنّه الليل» أي أخفاه وستره، ولما كانت رؤية الكواكب أو النجوم، بالعين المجردة تتوقف على مدى شدة استضاءتها، فإن الكوكب الذي رآه إبراهيم، عليه السلام، لم يظهر إلا عندما حل ظلام الليل، وهذا ما بيّنته كلمة «فَلَمَّا»، أي عندما «جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أي دخلت ظلمة الليل «عَلَيْهِ» فسترته، عندئذ «رَأَى كَوْكَباً».
إن الله تعالى لم يقل «فلما دخل عليه الليل»، وإنما قال: «جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ»، أي الليل هو الذي «جَنَّ»، وهذا يعني أن الليل كان موجودا أصلا، ثم دخل على إبراهيم، فستره بـ «ظلمته».
وهذا هو المنطق، لأن ظلام الليل لا يسقط على الناس فجأة فيخفيهم، وإنما يأتي تدريجيا، وهذا يعني أن إبراهيم، عليه السلام، كان خارج بيته، وعندما أحاطت به ظلمة الليل استطاع أن يرى الكوكب «رَأَى كَوْكَباً».
وللموضع بقية
محمد السعيد مشتهري