


«مرحلية التشريع»
لقد بعث الله نبيه الخاتم محمدًا في قوم يصعب اقتلاع جاهليتهم وتغييرها بنص قرآني قاطع، فكان من الحكمة أن يحدث التغيير مع الذين دخلوا في الإسلام، بصورة تدريجية، ولذلك لم ينزل القرآن جملة واحدة، فقال تعالى:
«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً»
إن كلمة «كَذَلِكَ» هي مفتاح فهم هذه الآية، فهي تشير إلى حكمة إنزال القرآن «مفرقًا»، وذلك لمواجهة تحديات عصر «التنزيل واكتمال الدين»، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
«لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ»، وقوله تعالى بعدها:
«وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً»
ويقول الله تعالى:
«وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً»
وفي القرآن أحكام، نزلت لتواجه إشكاليات عائلية واجتماعية واقتصادية خاصة بعصر التنزيل واكتمال الدين، كقوله تعالى:
«وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ»
«وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ»
ومن هذه الأحكام غلق باب الرق وملك اليمين نهائيًا، قال تعالى:
«حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ، فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ، وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»
ولكن، وبعد أُغلقت هذه الأبواب، كان يجب أن يتعامل القرآن مع ما هو موجود على الأرض، ويعيش فيه المسلمون، فنزلت الأحكام تنظم ذلك.
فعن فريضة الصيام، نزل قوله تعالى:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ…»
والسؤال: من هم الذين خاطبهم الله بقوله:
«عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ»
هل هذه الجملة القرآنية تخاطبنا، وتخاطب «الذين آمنوا» إلى يوم الدين، أم تخاطب فقط «الذين آمنوا» في عصر «التنزيل واكتمال الدين»؟!
إنها تخاطب «الذين آمنوا» في عصر التنزيل واكتمال الدين، وهي البرهان قطعي الدلالة، ع لى أن أحكام الصيام نزلت على مرحلتين، وأن إتيان النساء كان محرما خلال «الأيام المعدودات» التي فرض الله عليهم فيها الصيام، وكان يصعب عليهم الصبر عليه، وهذا ما نفهمه من قول الله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ، فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ، إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»
لقد كان الصوم، في أول الأمر، «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ»، فلم يقل الله شهرًا، وقد خيرهم الله بين صوم هذه الأيام أو الفدية، فمن شاء صام ومن شاء أطعم:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»
وحثهم على مزيد من الإطعام:
«فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ»
وبيّن لهم أن الصوم أفضل:
«وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»
لقد كانت هذه هي مرحلة التشريع الأولى لأحكام الصيام، والتي فيها خان المؤمنون أنفسهم، «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ»، وعصوا ربهم، في مسألة إتيان النساء خلال هذه الأيام المعدودات، وتاب الله عليهم: «فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ».
ثم نزلت الأحكام النهائية بإلغاء «التخيير» بين الصوم والفدية، وإباحة إتيان النساء ليلة الصيام، وحدد مدة الصيام بشهر كامل:
أولا: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ… فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ»
ثانيا: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَ اتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
ثالثا: إن قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»
جاء ليؤكد على إلغاء «التخيير»، وأن صوم الشهر كاملا فريضة على كل مسلم، ولا خيار له في ذلك، إلا إذا كان «مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ».
رابعا: إن قوله تعالى: «وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، ثم قوله بعدها:«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»
دون أن يأتي بعدها بحكم «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ»، تأكيد آخر على إلغاء «التخيير».
خامسا: نفهم من قوله تعالى: «يُ رِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، الذي حل محل «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ»، ما يلي:
١- أن قوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» للمريض والمسافر اللذان كان مرضهم وسفرهم عارضًا، ويستطيعون صيام هذه الأيام بعد انتهاء شهر رمضان.
٢- أن المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، لا عدة عليه ولا فدية، إلا إذا كان ما ينفقه من باب «الصدقة».
٣- أن الذي يؤدي عملًا «مؤقتًا»، من طبيعته بذل جهد شاق، وصيامه يؤثر على أدائه هذا العمل، يدخل في حكم: «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».
٤- أن الذي يؤدي عملا «مستديما»، من طبيعته بذل جهد شاق، وصيامه يؤثر على أدائه لهذا العمل، فهو في حكم المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، فلا شيء عليه، إلا إذا كان ما ينفقه من باب «الصدقة».
سادسا: إن ما سبق بيانه من أحكام، جاء استنادا إلى قوله تعالى:
«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ»
فـ «الْعُسْرَ» هو السبب الرئيسي الذي يجعل الصائم يفطر، وليس السفر أو المرض فقط، وإن «الْيُسْرَ» في إباحة الإفطار عند وجود «الْعُسْرَ»، فقد يستطيع المسافر بالطائرة أن يصوم بدون عسر ومشقة، فإذا زال «الْعُسْرَ» وجب الصيام.
ولذلك أمر الله بعدها المؤمنين بإكمال عدة الشهر:
«وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
فقوله تعالى «وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ» تأكيد آخر على إلغاء شريعة «التخيير» بين الصوم ودفع الفدية، لأن إكمال عدة الصيام فريضة.
إن قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»، جعل عدة الصيام فريضة، لا خيار للمؤمن فيها، بين أن يصوم أو لا يصوم.
وعندما رخص الله للمريض والمسافر الإفطار، اشترط إكمال عدة أيام الشهر، فإذا استحال إكمال العدة، إذن فلا شيء عليهما، ولا على أصحاب الأعذار المستديمة، إلا إذا كان ما سينفق من باب «الصدقة».
وإلى الجزء الأخير «عن أحكام الصيام»
محمد السعيد مشتهري



