


«النفس» في السياق القرآني
عندما نتعامل مع الآيات المتعلقة بعالم الغيب، يجب أن نكون في غاية الحذر، وتحري الدقة عند التعبير عما نريد قوله للناس عن هذه الآيات، وعدم تعدي حدود ما حملته من أساليب بيانية، تقرب فقط المعاني ولا تبين حقيقتها.
ولقد ظهرت إشكالية تعدي حدود قدرة الإنسان على فهم حقيقة ما أخبرنا الله به من عالم الغيب، عند حديثي عن «الروح»، ومع أني التزمت بحدود الآيات التي وردت فيها الكلمة، هناك من تشربت قلوبهم مفهوم «الروح» الموروث، ولم يكفهم ما ورد عنها في كتاب الله، والذي قمت ببيانه على النحو التالي:
١- تطلق كلمة «الروح» على «الأمر الإلهي» بوجه عام، يقول الله تعالى:«قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»
٢- تطلق على «موضوع الأمر»، بوجه خاص، يقول تعالى:«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْر ِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ»والمقصود «القرآن».
٣- تطلق على «مُنفذ» الأمر، بوجه خاص، ويقصد به «جبريل» عليه السلام، يقول الله تعالى:«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ»
٤- تطلق على «منفذ» الأمر، بوجه عام، وهم «الملائكة»، يقول الله تعالى:«أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»
٥- ويجمع الله بين المفهومين «العام والخاص»، فيقول تعالى:«تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ»
إن ما سبق بيانه، هو ما يجب أن يُقال عن «الروح» في السياق القرآني.
أما «النفس»، فإن لها معاني محددة، على النحو التالي:
أولا:ما يتعلق بالأصل البشري، يقول الله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ»وهي «النفس البشرية»، أو «الجنس البشري»، أي «آدم»
ثانيا:ما يتعلق بفاعلية أسماء الله الحسنى، ومعظمها يأتي بأساليب بيانية تقرب المعاني، وليس لبيان حقيقتها، كقول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام:
«تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
فهل كان عيسى يقصد أن لله تعالى نفسًا كنفسه؟!فعندما نتدبر السياق، نجد أن الله تعالى يسأل عيسى عليه السلام:
«أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
فعيسى عليه السلام، يريد أن يقرر حقيقة أن الله مُطّلع على ما في صدور الناس، وأن الناس يستحيل أن يطّلعوا على ما في علم الله، فعبر عن ذلك بم ا يُعرف في علم البيان بـ «المطابقة والمشاكلة»:
«تَعْلَمُ مَا فِي (نَفْسِي) وَلا أَعْلَمُ مَا فِي (نَفْسِكَ)»
وأكد بعدها ذلك بقوله:«إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
ثالثا:ما يتعلق بالإنسان ذاته، كقوله تعالى:
«فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ»أي يُسلم بعضكم على بعض، «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً»، وذلك من منطلق الرابطة الإيمانية التي تجعلكم كالنفس الواحدة.
وكقوله تعالى:«وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ»أي لا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا.
رابعا:ما يتعلق بـ «النفس المعنوية»
«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»
هنا الحديث عن «النفس»، التي قال الله عنها:
«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»
وقال تعالى عنها:
«اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا»
هذا كل ما يمكن الحديث عنه فيما يتعلق بـ «الروح والنفس» في السياق القرآني.
إن الله تعالى لن يسألنا عن البحوث والدراسات التي كتبناها عن عالم الغيب، ومن ذلك «الروح والنفس»، وإنما عن «مقتضيات» ما أخبرنا به، و«أمرنا» بفعله.
محمد السعيد مشتهري



