top of page

سلسلة مقالات بدون عنوان ١٥

يناير 31

58 min read

0

2

0

(371) 25/8/2015 (رزية يوم الخميس، وأزمة الصراع السني الشيعي)

 عدد المشاهدات : 217

لقد كانت الأزمة الكبرى التي حدثت بين الصحابة، ورسول الله على فراش الموت، هي أزمة الوصية على الخليفة من بعده، هذه الأزمة التي فرقت المسلمين إلى سني وشيعي، وخارجي ومعتزلي، وجعلت لكل منهم مصدره الثاني للتشريع، هذا المصدر الذي آتاه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وقامت على مروياته الجماعات السلفية والجهادية، التي تسعى في الأرض فسادا، وتسفك الدماء بغير حق تحت رآية «لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله»، فأساءت إلى الإسلام وإلى المسلمين أبلغ إساءة!!

إن الدارس لأمهات كتب علوم الحديث، عند الفرق والمذاهب المختلفة، يعلم حجم العشوائية التوثيقية التي قامت عليها هذه الكتب، لعدم وجود مدونات أشرف على تدوينها رسول الله، وقام على رعايتها الخلفاء الراشدون، فوصلت مرويات الرواة إلى عصر التدوين وقد آتاها الباطل..، ومنها رواية «رزية يوم الخميس»!!

روي البخاري عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال النبي: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه»!!

نفهم من هذه الرواية ما يلي:

١- أن خلافا حدث بين الصحابة والنبي على فراش الموت!!

٢- أن موضوع هذا الخلاف كان حول كتاب أراد النبي أن يكتبه لأمته حتى لا تضل من بعده، إلا أن عمر حال دون ذلك!!

٣- أن النبي امتنع عن كتابة هذا الكتاب حسما لنزاع الصحابة!!

لقد فهم أهل السنة من هذه الرواية أن النبي أراد أن يوصي أمته بالتمسك بالكتاب والسنة، استنادا إلى ما رواه مالك بن أنس في الموطأ بلاغا، أن رسول الله قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله»!!

وفهم «الشيعة» من هذه الرواية أن النبي أراد أن يوصي بالخلافة لعلي بن أبي طالب، ولكن عمر حال دون تحققها، استنادا إلى ما رواه الترمذي عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي». قال الترمذي هذا حديث حسن غريب!!

وبمقارنة هاتين الروايتين برواية البخاري، نعلم كيف حدث الوضع في عالم المرويات، فانظر إلى اشتراك الروايات الثلاث في كلمة «الضلال»، فقد وردت في رواية البخاري «لا تضلوا بعده»، وهي الخاصة بالوصية، ووردت في رواية مالك «لن تضلوا ما تمسكتم بهما»، وهي حجة أهل السنة، ووردت في رواية الترمذي «لن تضلوا»، وهي حجة الشيعة، فهل معنى ذلك أن رسول الله أراد أن يوصي أن تفترق أمته إلى سنة وشيعة؟!

فإذا ذهبنا إلى قول عمر بن الخطاب «حسبنا كتاب الله»، وإلى العامل المشترك بين الروايتين وهو «كتاب الله»، وجدنا أن رواة أهل السنة أضافوا إلى كتاب الله «وسنة رسوله»، وأضاف رواة الشيعة «وعترتي أهل بيتي»، وعلى الرغم من عدم صحة الروايتين سندا ومتنا، فإنهما اشتهرتا على ألسنة العلماء والدعاة إلى درجة أن ظن المسلمون أنهما قرآن!!

فإذا ذهبنا إلى صحيح البخاري، باب »الاعتصام بالكتاب والسنة«، وجدناه لم يشر إلى أي من هاتين الروايتين، على الرغم من أنهما من صلب هذا الباب، فهل هذه هي «السنة النبوية» التي أمر الله اتباعها؟!

وإذا كنا نتحدث عن رواية تحكي عن وصية أراد النبي أن يوصي بها قبل موته، فهل فهم أئمة السلف موضوع هذه الوصية؟! لقد جاءت هذه الرواية عند البخاري بعدة طرق، منها رواية يُفهم منها أنها شيعية الأصل، فيروي البخاري عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس يقول:

يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكي حتى بل دمعه الحصى. قلت: يا ابن عباس ما يوم الخميس؟! قال: اشتد برسول الله وجعه فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: ماله، أهَجَر؟! استفهموه، فقال ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه. فأمرهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها»!!

وينقل ابن حجر عن بعض أئمة السلف عدة احتمالات لحل لغز هذه الرواية، منها:

يحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل إلينا.

ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيرا منهم عند موته.

ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه.

ويحتمل أن يكون قوله أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم والمفعول محذوف أي الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت.

ويحتمل أنه أراد سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر. «انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري»

فهذه عدة احتمالات، دُوّنت فيها عشرات الصفحات، حول تأويل أئمة السلف موضوع الوصية التي أراد النبي أن يكتبها حتى لا تضل أمته من بعده، ومع ذلك ظلت القضية في حاجة إلى من يحسمها إلى يومنا هذا: هل ترك النبي للمسلمين «الكتاب» فقط، أم «الكتاب والسنة»؟!

وإذا كان التحقيق العلمي لم يثبت وجود مدونات تحمل اسم «السنة النبوية» أو «الحديث النبوي» في عصر الرسالة ولا في عصر الخلافة الراشدة، إذن فمن أين جاءت «مدونات السنة» التي بين أيدي المسلمين اليوم، وما هو موقعها في الشريعة الإسلامية؟!

لقد أثارت كلمة «ائتوني» خلافا بين علماء الحديث، فهل كان أمرا على سبيل الوجوب أم لا؟! قال ابن حجر نقلا عن القرطبي وغيره: «ائتوني» أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر وطائفة، أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة، مع استحضارهم قوله تعالى: «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وقوله تعالى: «تبيانا لكل شيء»، ولهذا قال عمر: «حسبنا كتاب الله»!!

والسؤال: لماذا لم يقل عمر «حسبنا كتاب الله وسنة رسوله»؟! فهل لم يكن يعلم بوجود مصدر ثان للتشريع، يحمل سنة النبي واجبة الاتباع، واحتمال أن يكون النبي قد أراد أن يضيف لها شيئا قبل موته؟!

فإذا ذهبنا إلى أئمة الشيعة، وجدناهم يعتبرون قول ابن عباس «إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه»، دليلا على أن الصحابة الذين كانوا حول النبي، هم الذين حالوا بين النبي وبين أن ينص على خلافة علي بن أبي طالب!!

ثم انظر كيف فهم أئمة السلف جملة «وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها»، حسب ما نقل عنهم ابن حجر: «يحتمل أنه أراد بالثالثة الوصية بالقرآن، كما قال الداودي، ويحتمل أنه أراد تجهيز جيش أسامة، وبه جزم ابن التين، ويحتمل أن تكون الثالثة هي قوله «ولا تتخذوا قبري وثنا»، كما قال عياض!!

ولكن الغريب أن يقول الراوي: «فنسيتها»، فكيف تكون هذه المرويات مصدرا تشريعيا إلهيا؟! نحن نعلم أن رسول الله إذا أمر يجب أن يطاع، بصرف النظر عن حالته الصحية، لأنه «نبي» مؤيد من الله، فهل يعقل أن يترك النبي «سنته النبوية» لصحابته يحفظونها، كلٌ حسب قدراته العقلية، وملكات حفظه؟!

إن بين ابن حجر شارح صحيح البخاري، «ت٨٥٢هـ»، وبين البخاري «ت٢٥٦هـ» ستة قرون ونصف القرن تقريبا..، وبين تدوين البخاري لصحيحه وبين بداية عصر التدوين قرنا من الزمن، ثم ما بين عصر التدوين وعصر الرسالة قرنا من الزمن، ولم يثبت أن عُثر على مدونة موثقة في الحديث خلال هذا القرن الأخير يمكن الاعتماد عليها، فقد كان الصحابة يتناقلون الأحاديث المنسوبة إلى النبي شفاهة، ولم يخطر ببال أحدهم أن يجمعها ويحفظها في كتاب، لأن هذه المهمة من مسئولية خليفة المسلمين، إذا كانت هذه الأحاديث حقا مصدرا تشريعيا إلهيا!!

إذن فمن هو الخليفة الذي أذن بتدوين الحديث النبوي، وأين هي هذه المدونة التي إن وجدت ما كان لأي كتاب في الحديث أن يولد أصلا؟!

ولا تقول عمر بن عبد العزيز، الذي توفي «١٠١هـ»، وإلا فأين هذا الكتاب الجامع الشامل للحديث، الذي أشرف على تدوينه الخليفة بنفسه، وهو الملقب بخامس الخلفاء الراشدين؟!!

ويبقى السؤال قائما: هل يمكن لمصدر تشريعي إلهي، أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه؟!« وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ـ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ـ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»

معلومات:

قوله بلاغا: أي أن يقول الراوي بلغني عن فلان، وهذا انقطاع في السند يُضعف الرواية من حيث صحة نسبتها إلى النبي، ما لم توجد رواية أخرى تحمل نفس المتن وتكون متصلة السند!!

حديث حسن غريب: الذي يكون جميع رواته مشهورين بالصدق والأمانة إلا أنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح في الحفظ والذي تفرد بعض الرواة به أو بأمر في متنه أو سنده!!

ree

(372) 27/8/2015 (المنهجية العلمية في التعامل مع القرآن [2-2)

 عدد المشاهدات : 365

إن حرية الاعتقاد التي كفلها الله للناس جميعا: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، ليست على إطلاقها، وإنما كفلها لهم قبل اتخاذ قرار الدخول في الإسلام، والالتزام بأحكام شريعته، أما بعد إسلامهم فهم ليسوا أحرارا في قبول أو رفض هذه الأحكام، بعد أن أقروا الإلتزام بها، ولم يكرههم على ذلك أحد!!

إن الذين أسلموا وآمنوا بالرسل، لم يترك الله لهم حرية اتباع أحكام الشريعة، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وإلا ما كانت هناك حاجة للعقوبات التي جاءت بها هذه الرسالات في الدنيا أو في الآخرة، وإنما أعطاهم الحرية لترك هذا الدين كلية، وحسابهم عند الله في الآخرة؟!

إن رسالة النبي الخاتم تختلف عن الرسالات السابقة في أنها حملت في ذاتها «الآية الإلهية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، عليه السلام، الأمر الذي يقتضي أن يتعامل الناس مع هذا القرآن باعتباره «آية إلهية»، معاصرة لهم اليوم، تماما كما يتعاملون مع آيات الآفاق والأنفس!!

ولن يشفع لأحد عدم إيمانه بـ «الآية الإلهية»، المعاصرة له، بدعوى أنه ورث عن آبائه ميراثا ثقيلا يحتاج إلى صبر، وإلى فترة زمنية طويلة حتى يُخرج هذا الميراث من قلبه، فقد أرسل الله الرسل بالآيات الحسية لتكون حجة على من شاهدها في عصره، ثم من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فإذا مات الرسول ماتت معه الآيات!!

أما «الآية القرآنية» فآية علمية، عقلية، حجيتها قائمة بين الناس إلى يوم الدين، لذلك لا يصح إسلام المرء إلا إذا قام على الإيمان بها في عصره، والإقرار أنها «الآية الإلهية» الدالة على صدق رسول الله محمد، وليس وراثة عن آبائه!!

إن نصوص «الآية القرآنية» منظومة علمية حضارية، جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، إلا أنها لا تفتح أبوابها إلا لمن حمل مفاتيحها المستنبطة من ذات النص القرآني، والتي يستحيل فهم القرآن بمعزل عنها، لأنها مفاتيح عالم «التدبر»: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»!!

إن مفاتيح عالم «التدبر» والتي أسميها بـ «آليات عمل القلب»: آليات التدبر والتفكر والتعقل والتفقه والنظر..، إنها مفاتيح أقفال القلوب المغلقة، وبدون هذه المفاتيح لا يستطيع المرء إثبات أن هذا القرآن من عند الله: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»!!

وحسب مشروعي الفكري، فإن «آليات عمل القلب» أداة من أدوات فهم القرآن الخمس: منظومة التواصل المعرفي – اللسان العربي المبين – آليات عمل القلب – السياق القرآني – آيات الآفاق والأنفس، وإن المحور الأساس الذي تدور حوله هذه الأدوات هو «منظومة التواصل المعرفي»، هذه الجملة التي كونت كلماتها بعد جهد كبير في تدبر القرآن، خلال رحلتي من الإيمان الوراثي إلى الإيمان العلمي!!

إنه يستحيل فهم كلمة واحدة من كلمات القرآن، اسما كانت أو فعلا، دون الاستعانة بـ «منظومة التواصل المعرفي»، فليس في القرآن قاموس يبين صور الأسماء، ولا كيفية أداء الأفعال، وقد بيّنت ذلك بأدلته القرآنية في الحلقتين الثالثة والرابعة من برنامج «نحو إسلام الرسول»، مع بيان الفرق الجوهري بين «التواصل العملي» العالمي، و«التواتر العملي» المذهبي!!

إن الذين قالوا «القرآن وكفى»، عندما واجهوا إشكالية كيفية أداء الصلاة، انقسموا إلى فريقين:

الأول: قبلوا الصلوات الخمس، ودليلهم في ذلك السنة العملية، أو التواتر العملي، فوافقوا في ذلك السلفيين، ونسوا أن ما تواتر عمليا عند فرقة (أو مذهب) لم يتواتر عند أخرى، وهذا يُسقط حجية مذهبهم هذا!!

الثاني: بحثوا في القرآن عن أسماء الصلوات، ومواقيتها، ففريق وجد أنها صلاتان: الفجر والعشاء، وفريق وجد أنها ثلاثة: الفجر والظهر والعشاء، وثالث وجد أنها الدعاء، تجلس في أي وقت وتدعو الله..، وهؤلاء جميعا لم يقولوا للناس، على أي منهج علمي أو شرعي، استنبطوا هذا العدد، إلا القول بـ «القرآن وكفى»!!

إن القرآن الذي يدّعون الاكتفاء به، لا يحمل إلا أسماء هذه الصلوات فقط، فمن أين جاءوا بمسمياتها إلا من خارج القرآن، فيستحيل تعلم الصلاة دون تعلم ما يتعلق بمسمياتها، وذلك من خلال «منظومة التواصل المعرفي»، سواء كان ذلك خاصا بالمواقيت، أو بكيفية الأداء، من قيام وركوع وسجود..، وغياب هذا عنهم يُسقط حجية ما ذهبوا إليه!!

«إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا»



(373) 31/8/2015 (عندما تكون الأحزاب الدينية محرمة شرعا؟)

 عدد المشاهدات : 208

عندما تكون الأحزاب الدينية محرمة شرعا؟!!

إن قضية «الإسلام الوراثي» هي أخطر ما يواجه الدين الإسلامي من تحديات، لأن الشعوب المسلمة لم تختر إسلامها بإرادتها، فلا تعرف شيئا عن الإسلام إلا من خلال القنوات المذهبية التي وجدت عليها الآباء، فلا يتحدث المسلمون في دين الله إلا بلسان أئمة المذهب، ولا يُفتون إلا بفتاوى فقهاء المذهب، والأئمة والفقهاء في ذمة التاريخ!!

لقد أفرز «الإسلام الوراثي»، على مر العصور، فرقا ومذاهب وأحزابا دينية، ما أنزل الله بها من سلطان، ودين الله لا يعرف فُرقة ولا مذهبية، ولا صراعات سياسية وسفكا للدماء من أجل إقامة الخلافة الإسلامية في الأرض!!

لقد انقلب أتباع الرسل على أعقابهم بعد وفاة الرسل، وبعد أن كانوا أمة واحدة انقسموا على طوائف دينية متناحرة، فيقول الله تعالى في سياق الحديث عن مواقف الأمم من الرسالات الإلهية:

«وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ – فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»

لقد كانوا أمة واحدة، «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا»، عندما غابت «تقوى الله» عن قلوبهم، وتدبر هذا التعبير القرآني المبدع «فَتَقَطَّعُوا»..، فقد «مزقوا» دينهم بينهم مزقا بعد وفاة الرسل!!

والغريب أنه مع تحذير الله لأتباع الرسل بعدم التفرق في الدين، لأنه محرم شرعا، فإن كل طائفة كانت سعيدة بهذا التفرق، وبما تتبعه من كتب ومصادر تشريعية سماها الله «زبرا»، أي كتبا تعتبرها شريعة إلهية تعتمد عليها في شؤون حياتها، فالتقطع يقتضي التحزب، ومن شأن التحزب أن يكون لأهل الحزب كتاب، يحمل دستور ومنهج الحزب: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!

لقد حَرّم الله تعالى «التفرق في الدين» على جميع أتباع الرسالات، وأمرهم أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وجعل ذلك فريضة شرعية، فقال تعالى:

«شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»

لقد خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، ليُبيّن لهم أن إقامة الدين وعدم التفرق فيه سنة جميع الرسل: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»، ونلاحظ أن تحريم التفرق في الدين لا يتعلق بمسألة «التعددية» الفكرية التي سمحت بها جميع الرسالات، وإلا ما ذمه الله وجعله محرما!!

إن التفرق في الدين المحرم هو التفرق العقدي، قبل أن يكون التشريعي، هذا التفرق الذي قامت عليه جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، فقد أصبح لكل فرقة مرجعيتها الدينية التي تستمد منها عقيدتها وتشريعاتها، وتفصيل ذلك يرجع إليه في تاريخ الفرق العقَدية، والتسلسل التاريخي لظهورها، لتقف على حجم المأساة التي عاشها – ويعيشها – المسلمون اليوم، من تعصب مذهبي يقوم على هذه المرجعيات الدينية المقدسة، التي ما أنزل الله بها من سلطان!!

إن التفرق في الدين تفرق في مرجعيته وأصوله العقدية والتشريعية، ولقد حذر الله أتباع النبي الخاتم محمدا، عليه السلام، من خطر هذا التفرق، فقال تعالى:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» – «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» – «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»

لقد خاطب الله رسوله محمدا بصيغة الإفراد: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»، ثم وجه الخطاب إلى جميع المؤمنين بصيغة الجمع: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ»، لبيان أن اتباع الرسول يكمن في اتباع شريعته التي جاءت بها رسالته القرآن الكريم، وفي مقدمتها أحكام هذه الآية، فتدبر:

عندما يبدأ السياق بالأمر بالوحدانية، ويعقبه الأمر بالإنابة والتقوى وإقامة الصلاة، ثم التحذير من الشرك: «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، فإن هذا يعني أننا أمام أصول ثلاثة عاصمة من الشرك: الإنابة والتقوى وإقامة الصلاة، فهل عصمت هذه الأصول الثلاثة الطوائف الدينية المختلفة من التفرق في الدين حتى لا يكونوا: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!

حيثما وجدنا تفرقا في الدين نعلم أن نوعاً من الشرك قد اخترق هذا الدين، الأمر الذي يفضى إلى التخاصم والتقاتل بين أتباع الفرق الدينية المختلفة، وتكفير بعضهم بعضا، فهل المساجد التي يصلي فيها المسلمون اليوم مجمّعة لهم أم مفرقة؟! وهل الجماعات والجمعيات والمنظمات والأحزاب الدينية مجمعة لهم أم مفرقة؟!

فإذا ذهبنا إلى واقع هذه الطوائف الدينية المختلفة، التي حولت المساجد عبر عقود مضت، إلى منابر دعوة لصالح توجهاتها المذهبية، لنرى ماذا قدمت للإسلام، فماذا نجد؟! لن نجد غير تدعيم أزمة التخاصم والتفرق بين المسلمين، بصرف النظر عما تقدمه من أعمال ومشاريع خيرية، لأن هذه الأعمال في النهاية هي لصالح هذه التوجهات.

ألم تقرأ الحكومات التي تسمح بوجود أحزاب دينية هذا التحذير الإلهي مخاطبا رسول الله محمدا، باعتباره ولي أمر المسلمين: «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ؟!ألم تقرأ المؤسسات الدينية، الرسمية وغير الرسمية هذه الآية؟!

لقد نصت المادة الثانية من الدستور المصري على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، فهل أباحت الشريعة الإسلامية وجود أحزاب دينية؟! ثم كيف يستقيم فهم هذه الآية مع وجود أحزاب دينية؟!

أليس هذا منكرا واجبا النهي عنه؟! ألا تُعد الموافقة على وجود أحزاب دينية مخالفة صريحة لأحكام الشريعة القرآنية قبل أن تكون مخالفة للدستور؟!

وإذا كان الله تعالى قد خاطب رسوله والذين آمنوا معه محذرا إياهم من الشرك، فقد جاء في موضع آخر وأمر رسوله أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم وأعطوا ظهورهم لهذا التحذير، فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»!!

تدبر قوله تعالى: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»، الذي يضع الخط الفاصل بين الرسول والذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا، فرسول الله ليس منهم في شيء، ودينه ليس من دينهم في شيء، وكتابه ليس من كتبهم في شيء، وشريعته ليست من شرائعهم في شيء: «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»!!

كيف تستقيم محبة الله ورسوله، وادعاء التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والله ورسوله بريئان من هؤلاء الذين يرفعون هذه الرايات، ويسفكون الدماء بغير حق من أجل إقامة الخلافة الإسلامية، وهم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، المغضوب عليهم والضالين؟!

لقد أصبح الفكر الإسلامي فكرا مذهبيا لا علاقة له بالإسلام الذي ارتضاه الله دينا للناس جميعا: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».. فكرا تخاصميا نتيجة تمسك الأبناء بميراث الآباء الديني: «بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا».. فكرا تكفيريا، لاعتقاد كل طائفة أنها الطائفة الناجية التي تحكم بما أنزل الله، وأن الطوائف الأخرى لا تحكم بما أنزل الله، والله يقول: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»!!

ولكن الغريب، أن نجد هذه الطوائف التي أشركت بالله ما لم ينزل به سلطانا، تقف صفا واحدا إذا حان وقت النفير، لماذا؟! لأن كل طائفة تريد أن تصل إلى تحقيق أهدافها بمساعدة الطوائف الأخرى، وهي تعلم أنها عندما تتمكن ستتخلى عن باقي الطوائف، بل وقد تقتلهم، وتاريخ الإسلام السياسي في الماضي والحاضر، خير شاهد على ذلك!!

وإذا كانت قضية «الإسلام الوراثي» هي أخطر ما يواجه الدين الإسلامي من تحديات، فإن الخطر الأكبر، والذي أراه أصبح ظاهرة بدأت تنتشر على جميع وسائل الإعلام، هو ارتداء أتباع التيارات الدينية، وخصوصا الأحزاب الدينية، بل وبعض رجال المؤسسات الدينية الرسمية، ثوب «التقية»، لتحقيق مصالح سياسية!!

إن «التقية» رخصة أعطاها الله للمؤمنين، لاتقاء شر الكافرين المعتدين، بأن يداريهم المؤمن باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، وذلك في حالات الخوف من الإيذاء البدني الذي قد يصل إلى القتل، فقال تعالى:

«لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ»

نلاحظ – أولا – أن قوله تعالى: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ»، تحذير من تجاوز الحدود في هذه «التقية»، بالتساهل أو المغالاة، وأنها فقط رخصة للمؤمنين لاتقاء شر الكافرين المعتدين!!

والسؤال: كيف تحولت «التقية» من اتقاء المؤمنين شر الكافرين المعتدين، إلى خداع المسلمين للمسلمين، من أجل تحقيق مصالح سياسية، رافعين راية التمسك بكتاب الله وسنة رسوله؟!

إننا اليوم أمام أزمة خطيرة جدا، تحتاج إلى تركيز وانتباه من القاعدة الشعبية الكبيرة التي تتحرك بعاطفتها الدينية نحو الاستماع إلى أتباع التيارات الدينية المذهبية المختلفة، فتقع فريسة هذه «التقية» التي تستغل منابر الدعوة للتأثير على ضحاياها!!

فهل ستتعلم الشعوب الدرس، وتعلم أن كل هذه التيارات الدينية المذهبية المختلفة ليست من دين الله في شيء؛ لأنها أعطت ظهورها لتحذير الله إياها بعدم التفرق في الدين؟!

«قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»

معلومات:

التقية: مصطلح ديني، ظهر في عصور الاضطهاد والتمييز القائم على الهوية الدينية، ويعني اخفاء ما يعتقده الشخص، خشية الضرر الذي سيقع عليه، وأول من استخدم هذه التقية في التاريخ الإسلامي هم الشيعة، حفاظا على حياتهم في العصر الأموي.

ree


(374) 1/9/2015 (عمر بن عبد العزيز أكره العلماء على تدوين الحديث)

 عدد المشاهدات : 205

في رسالة بعنوان «السنة قبل التدوين»، حصل بموجبها الدكتور محمد عجاج الخطيب على درجة الماجستير بتقدير ممتاز، ثم على درجة الدكتوراة في الحديث وعلومه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، عن موضوع «نشأة علوم الحديث ومصطلحه»، أنقل بعض الفقرات الهامة من كتابه «السنة قبل التدوين»، لبيان حجم الكارثة التي حلت بالمصدر الثاني للتشريع منذ ولادته، ولولا أنها رسالة علمية أكاديمية صاحبها عَلَم من علماء الحديث، ما التفت إليها!!

يقول الباحث تحت عنوان: «خدمة عمر بن عبد العزيز للسنة»:

«عاش عمر بن عبد العزيز في جو علمي، فلم يكن بعيدا وهو أمير الأمة عن العلماء، ورأيناه يكتب بنفسه بعض الأحاديث، ويشجع العلماء، وقد رأى أن يحفظ حديث الرسول ويجمعه، وربما دعاه إلى هذا نشاط التابعين آنذاك، وإباحتهم للكتابة حين زالت أسباب الكراهة، لأننا لا نعقل أن يأمر بجمع السنة وتدوينها، والعلماء كارهون لهذا، ولو كرهوا كتابتها ما استجابوا لدعوته، ومما لا شك فيه أن خشيته من ضياع الحديث دفعته إلى العمل لحفظه»!!

تعليق: فهذه الرسالة العلمية، التي لا شك أنها تحمل مرجعيات موثقة، تشهد أنه حتى فترة خلافة عمر بن عبد العزيز «٩٩-١٠١هـ» لم تكن هناك مدونات تحفظ الحديث، بل وكان التابعون يكرهون كتابته، فهل يُعقل أن يكره التابعون شيئا لم يكره الصحابة؟!

ثم ما معنى قوله عن خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز: «خشيته من ضياع الحديث دفعته إلى العمل لحفظه»، فكيف عرف خليفة المسلمين أن الحديث لم يضع أصلا، وقد كان الصحابة والتابعون يكرهون كتابته خلال قرن مضى؟!

ثم انظر ماذا قال الباحث بعدها:

«ويمكننا أن نضم إلى ما ذكرنا سببا آخر كان له أثر بعيد في نفوس العلماء حملهم على تنقيح السنة وحفظها، وهو ظهور الوضع بسبب الخلافات السياسية والمذهبية ويؤكد لنا هذا ما يرويه أخو ابن شهاب الزهري عنه قال: سمعته يقول: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثا، ولا أذنت في كتابه، ورأي الزهري هذا رأي أكثر علماء ذلك العصر، فإن حرصهم على حديث رسول الله من أن يُدرس، لا يقل عن حرصهم على سلامته من الكذب والوضع، فكان هذان العاملان من أقوى العوامل التي حفزت همم العلماء إلى خدمة السنة وكتابتها، عندما تبنت الحكومة جمعها رسميا على يدي الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز»!!

تعليق: إذن فالذي حمل أئمة السلف على «تنقيح السنة وحفظها» هو ظهور «الوضع بسبب الخلافات السياسية والمذهبية»، وذلك قبل عصر عمر بن عبد العزيز، فهل بعد أن تبنت حكومة عمر بن عبد العزيز «رسميا» جمع الأحاديث، استطاعت تنقيح السنة وحفظها؟!!

يقول الباحث: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: «انظروا حديث رسول الله فاجمعوه»، وإذا كانت المنية قد اخترمت الخليفة الراشد الخامس قبل أن يرى الكتب التي جمعها أبو بكر بن حزم بناء على طلب الخليفة، كما ذكر ذلك بعض العلماء، فإنه لم تفته أولى ثمار جهوده التي حققها «ابن شهاب الزهري» الذي يقول:

«أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا»، وقد اعتبر علماء الحديث تدوين عمر بن عبد العزيز هذا أول تدوين للحديث ورددوا في كتبهم هذه العبارة:

«وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز أو نحوها»، وهكذا كانت نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني خاتمة حاسمة لما كان من كراهة الكتابة وإباحتها، فدونت السنة في صحف وكراريس ودفاتر، وكثرت الصحف في أيدي طلاب الحديث»!!

تعليق: فها هو الباحث يكشف عن بعض أسباب عدم تدوين الحديث طيلة قرن من الزمن، وحتى عصر الزهري «ت ١٢٤هـ»، ومنها اختلاف الصحابة والتابعين حول شرعية هذا التدوين، فهل بعد أن زالت هذه الأسباب، ودُوّنت السنة في صحف وكراريس ودفاتر، بأمر من الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز، انتهت أزمة تدوين السنة، و«تنقيحها وحفظها» في منتصف القرن الثاني الهجري؟!

ثم أين هي كتب الحديث التي دونها الزهري بأمر من خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز، والتي إن وجدت ما كان لأمهات كتب الحديث التي ظهرت بعد ذلك أن تولد أصلا، وفي مقدمتها البخاري «السني»، الذي ولد عام ١٩٤هـ، والكافي «الشيعي»، الذي ولد في منتصف القرن الثالث، وتوفي عام «٣٢٩هـ»!!

فإذا بحثنا في علم الرجال، عن السيرة الذاتية للزهري، الذي يعتبر الحلقة الأولي التي يمكن الإمساك بها تاريخيا للوقوف على الاتجاه العام لحركة تدوين الحديث، وجدنا الآتي:

الاسم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري «ت ١٢٤هـ»، كان من رواة الحديث، وكان حريصا على إرضاء التوجه السني العام الذي كان سائدا في عصر الدولة الأموية، استعمله يزيد بن عبد الملك على القضاء، ولكنه أمام مجون واستهتار الوليد بن يزيد «ت ١٢٦هـ» دافع عن عليّ وشيعته، وأدان عثمان والسيدة عائشة، وطلحة والزبير، ولم يُحفظ له كتاب، كحال معظم كتب الأخباريين الأُوَل، ولكن حفظت أجزاء من كتاب له يسمى «المغازي»، داخل كتاب مصنف عبد الرزاق الصنعاني!!

وتحت عنوان: «رد الشبهات التي أثيرت حول الزهري» يقول الباحث:

«لم يسلم الزهري من اتهامات وجهها إليه بعض أتباع الفرق وأعداء الإسلام، فاتهمه بعض الشيعة بالسير في ركاب الأمويين وإرضائهم بوضع ما يروق لهم من الأحاديث التي تثبت دعائم ملكهم، وترد على خصومهم، ويرى هؤلاء في ادعائهم هذا أن الأمويين استعانوا ببعض العلماء من الصحابة والتابعين لإلباس حكمهم ثوب المشروعية الدينية، وساعدوهم في نشر سلطانهم»!!

ثم يقول الباحث: «ويمكننا أن نحمل قول الزهري: «كنا نَكرَه كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا ألا نمنعه أحدا من المسلمين»، على ما بيناه، لأننا نعرف أن الإمام الزهري كان يكتب الحديث وهو في دور طلب العلم، وكان يشجع أصحابه على الكتابة، حتى إنه كان يكتب في ظهر نعله خشية أن يفوته الحديث»!!

ثم يقول: «وفعلا عندما طلب منه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب لبنيه خرج وأملى على الناس الحديث، وقال: استكتبني الملوك، فأكتبتهم، فاستحييت الله إذ كتبها الملوك ألا أكتبها لغيرهم»!!

وعن من كان يكره كتابة الحديث في القرن الثاني الهجري قال: «ونرى بعض من كره الكتابة في هذا العصر، يعتمد عليها في حفظ الحديث، ثم يمحو ما كتبه بعد أن يحفظه، وقد فعل غير واحد من السلف أمثال سفيان الثوري «ت ١٦١هـ»، وحماد بن سلمة «ت ١٦٧هـ»..، ويُروى في هذا عن خالد الحذاء «ت ١٤١هـ»: ما كتبت شيئا قط إلا حديثا طويلا فإذا حفظته محوته»!!

تعليق: إن الذين يدَّعون أن علوم الشريعة، من تفسير وحديث وفقه وتاريخ، دونت في عصر الرسالة، ولكنها كانت مدونات فردية، ظهرت إلى النور عندما سمحت السلطة الحاكمة بالتدوين بعد منتصف القرن الثاني، هؤلاء أقول لهم:

إذا كانت هذه المدونات قد حملت شريعة إلهية واجبة الاتباع، فلماذا لم تدون في حياة النبي، أو في عصر الخلافة الراشدة، قبل أن تعصف بها الفتن الكبرى، والخلافات السياسية والمذهبية، لتخرج إلى الناس بعد قرن ونصف القرن في ثوب مذهبي، تدعي كل فرقة، ويدعي كل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، أن مرجعياته في الحديث هي التي حملت السنة النبوية الصحيحة واجبة الاتباع؟!

إن رسول الله لا يفعل شيئا إلا بأمر من الله تعالى، ولو أمره الله بتدوين أحاديثه لفعل كما فعل مع كتاب الله، ولأصبحت هذه الأحاديث جزءا أساسيا من الشريعة الإلهية التي أمر الله اتباعها، ولتعهد الله بحفظها كما تعهد بحفظ كتابه!!

إن الذين قسموا الوحي الإلهي إلى:

القسم الأول: كتاب الله، الذي شهد رسول الله على بلاغه قبل وفاته، وورثه المسلمون كما بلغه الرسول، وتعهد الله بحفظه إلى يوم الدين!!

القسم الثاني: أحاديث نبوية، لم يشهد رسول الله تدوينها، ولا الخلفاء الراشدون من بعده، ولم يرثها المسلمون كتابا واحدا، بل كانت سببا في تدعيم أزمة التفرق والتخاصم والتكفير بينهم، وظهور الجماعات والأحزاب الدينية التي تفسد في الأرض وهي ترفع راية «الكتاب والسنة»!!

إن الذين فعلوا ذلك، أقول لهم: اتقوا الله، فقد نسبتم إلى الله ما لم يأذن به، والله تعالى يقول:

«قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»

معلومات:

* عمر بن عبد العزيز: ثامن الخلفاء الأمويين، ولد سنة ٦١هـ، ولعدله عدّه كثير من أئمة السلف خامس الخلفاء الراشدين، ولما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة ٩٩هــ تولى عمر الخلافة، حتى قُتل مسموماً سنة ١٠١هـ!!

ree


(375) 7/9/2015 (ضرب المرأة بين القرآن وحقوق الإنسان)

 عدد المشاهدات : 234

أولا: مفهوم الضرب في اللسان العربي والسياق القرآني

لقد ورد فعل «اضرب»، بصيغة الأمر «بمعناه الحقيقي» في كثير من الآيات القرآنية منها:

١- قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (فَاضْرِبُوا) فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»

ضرب الأعناق: قطع أعناق المشركين، فالسياق سياق معركة يعلم العرب معناه. وضرب البنان: قطع الأصابع لتعطيلها عن العمل.

وعندما تقوم الملائكة بفعل ذلك، فهذه آية من آيات الله، لا تُشاهد بالحس، وإنما يإدراك أثارها!!

٢- قوله تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ (اضْرِب) بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ»!!

لقد ضرب موسى البحر بعصاه (فَانفَلَقَ)، أى انقسم طُرقاً منفصلة عن بعضها، بدليل قوله تعالى بعدها: «كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ».

وللجذر «ض ر ب» دلالات مجازية معظمها ارتبط بضرب المثل، ذلك لأن في التمثيل بيانا للحق وفصله عن الباطل، مثال ذلك:

١- قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ (ضَرَبَ) اللّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء»

٢- قوله تعالى: «كَذَلِكَ (يَضْرِبُ) اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ» – «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء» – «وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ»!!

وهناك دلالات أخرى تأتي بمعنى «سعى، سافر، جاهد..»، مثل:

١- قوله تعالى: «لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ (ضَرْبًا) فِي الأَرْضِ»

٢- قوله تعالى: «وَإِذَا (ضَرَبْتُمْ) فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ»

٣- قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا (ضَرَبْتُمْ) فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا»

والقاعدة العامة، في علم السياق القرآني، عدم صرف الكلمة القرآنية عن معناها الحقيقي إلا بقرينة تصرف هذا المعنى إلى غيره!!

فإذا تتبعنا جذر «ض ر ب» في معاجم اللسان العربي، فإن أوَّل ما يطالعنا هو الدلالة الحقيقية لمعنى الضرب، وهي: إيقاع شيء على شيء، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف»!! [انظر لسان العرب، تاج العروس، المفردات في غريب القرآن للراغب، المصباح المنير]

وإن المتدبر لكل ما ورد في السياق القرآني من دلالات مجازية، أو أخرى، يجد أن فعل الأمر «وَاضْرِبُوهُنَّ»، الذي ورد في سياق «الآية ٣٤» من سورة النساء، لا علاقة له بأية دلالة غير الدلالة الحقيقية!!

ثانيا: يقول الله تعالى:

ـ «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»

ـ «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ»

– «وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ» – «وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ» – «وَاضْرِبُوهُنَّ»

– «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» – «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا».

لقد قسم الله النساء المتزوجات قسمين:

١- نساء صالحات مطيعات لله، يحفظن حقوق أزواجهنّ في حضورهم وفي غيبتهم: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ».

٢- نساء خرجن عن منظومة الصلاح، وتخلفن عن القيام بواجباتهنّ الزوجية، ولم يحفظن حق الزوج في غيبته، وظهرت عليهن علامات هذا النشوز بعد الزواج، وهن المخاطبات بمراحل العلاج الثلاث: «فَعِظُوهُنَّ – وَاهْجُرُوهُنَّ – وَاضْرِبُوهُنَّ».

إذن فهذه المراحل العلاجية الثلاث، ليست لعموم النساء، وإنما للنساء الناشزات، اللاتي قد يظهر نشوزهن بعد الزواج، وقد يكون هذا النشوز نتيجة للبيئة التربوية، أو لمرض نفسي!!

ثالثا: إن مسألة «النشوز» ليست مسألة نسبية، كما قد يعتقد البعض، ذلك لأن النشوز حسب ما ورد في اللسان العربي، يعني الترفع والعلو والتباعد، وهو في العلاقات الزوجية سوء خلق تنشأ عليه المرأة (أو الرجل)، يجعل أحدهما يتعالى على الآخر، ويتعدى على حقوقه الزوجية، وهي أمور يحكم فيها الحكمان كما سيأتي بيانه.

إن الشريعة القرآنية عندما تحدثت عن النشوز، لم تتحدث عن نشوز المرأة فقط: «وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ»، وإنما تحدثت أيضا عن نشوز الرجل «الآية ١٢٨»: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا»!!

ولقد أمرت الشريعة القرآنية «الحَكَمَيْن» بالتدخل عند ظهور علامات النشوز، فقال تعالى في سورة النساء «الآية ٣٥»:

«وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا» – «فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا» – «إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا».

إن قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ» يبيّن أن الشريعة القرآنية لا تنتظر حتى يحدث النشوز بين الزوجين، فيصعب الإصلاح، ويقع الطلاق، وإنما أمرت الحكمين باتباع خطوات إصلاحية، تحت رعاية المؤسسة الرسمية المتخصصة في شئون الأسرة، وقد سبق بيان ذلك في منشور سابق، بعنوان «المرأة زوجة عند الله مطلقة عند أئمة السلف»، بتاريخ ٢٤/ ٧/ ٢٠١٥!!

إن الزوج الذي يتجاوز حدود مرحلة من مراحل العلاج الإصلاحي الثلاث: «فَعِظُوهُنَّ – وَاهْجُرُوهُنَّ – وَاضْرِبُوهُنَّ» فإن المؤسسة المعنية بشئون الأسرة تضع حد لهذا التعدي، وقد يعاقب الزوج جنائيا!!

رابعا: إن الشريعة القرآنية لم تتحدث عن ضرب المرأة بوجه عام، ولا عن ضرب المرأة الناشز فور نشوزها، ولم تبح الضرب ابتداءً، وإنما جعلته آخر مراحل العلاج التي قد تستجيب لها بعض الحالات، حسب مراحل العلاج الإصلاحي الثلاث.

إن هناك نساء لا ترى الرجولة إلا إذا استخدم زوجها معها العنف، ويُسأل عن ذلك علماء النفس، وتقبل الضرب ولا ترى فيه إهانة لكرامتها، ويستطيع الزوج أن يكتشف ذلك من أول مرة، فإن وجد أن ضربها قد زاد الأزمة اشتعالا، إذن فلن يجدي معها علاج، وعليه أن يطلقها، ولذلك قال تعالى بعد هذه المراحل الثلاث: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا».

إن الذين صرفوا الضرب عن معناه الحقيقي، وقالوا إن معناه إبعاد المرأة عن بيت الزوجية، أو إبعادها عن زوجها داخل بيت الزوجية، هؤلاء لم يلتفتوا إلى كلمة «اهْجُرُوهُنَّ»!!

إن كلمة «اهْجُرُوهُنَّ» تعني الإبعاد والفصل بين الزوجين, في شيء يؤذيهما تركه، وهو افتقاد العلاقة الحميمة بينهما، فهل يعقل أن يكون الهجر والضرب شيئا واحدا بمعنى الإبعاد والفصل بين الزوجين؟!!

لقد اشترطت الشريعة القرآنية عدم إبعاد المرأة عن بيتها في فترة العدة، وهي الفترة التي تسبق وقوع الطلاق، وذلك حتى لا تتسع دائرة الخلاف بين الزوجين، ويكون هناك مجال لإذابة الخلاف بينهما: «لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا»!!

لقد جاءت كلمة «المضاجع» بلفظ الجمع في قوله تعالى: «وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ»، وذلك لبيان أن الهجر يكون في أي مضجع يجمع الزوج مع امرأته داخل البيت، الأمر الذي قد يجعل المرأة تشعر بغضب زوجها، فتعيد التفكير، وترجع عن نشوزها!!

«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»


(376) 12/9/215 (عندما تسقط الحلقة الأولى من حلقات السند الروائي)

 عدد المشاهدات : 186

إن اهتمامي بالحديث عن إشكاليات «المصدر الثاني للتشريع»، الذي يدعي أئمة السلف والخلف أنه يحمل مرويات السنة النبوية، يرجع إلي علمي أن كل ما أصاب ويصيب المسلمين من أزمات عقدية وتشريعية، ومن تفرق في الدين وتخاصم وتقاتل، كان بسبب مرويات وأحكام وفتاوى هذا المصدر، التي يستخدمها رجال الدعوة الإسلامية اليوم لتوظيف عاطفة الشعب الدينية، لنصرة توجهاتهم المذهبية المتصارعة، السلمية منها والجهادية، تحت راية العمل بالكتاب والسنة، والذي يدفع الثمن هو الشعب!!

في البداية تعالوا نُميّز بين فترتين من الزمان، مر خلالهما هذا المصدر الثاني للتشريع:

الفترة الأولى: فترة الرواة والإخباريين، الذين شهدوا مسرح الأحداث، بداية بعصر الرسالة وحتى عصر التدوين، سنة ١٥٠هـ تقريبا!!

الفترة الثانية: فترة ما بعد عصر التدوين، والتي دوّن المحدثون والمؤرخون خلالها، نقلا عن الرواة والإخباريين، أمهات كتب هذا المصدر الثاني التشريعي!!

في الفترة الأولى كانت المرويات والأخبار يتداولها الصحابة والتابعون شفاهة، فلم يكن يخطر ببال أحدهم أن يكون صاحب مدونة في التفسير أو الحديث أو الفقه، فهذا عمل من مسئولية الدولة، ويجب أن يتم تحت إشراف مؤسسة الخلافة، لذلك كان افتقاد هذه المدونات عقبة أمام المحدثين والمؤرخين عند تدوين كتبهم!!

ولمواجهة هذه العقبة، ابتدع المحدثون قاعدة التوثيق بـ «إحسان الظن»، فتؤخذ مرويات الصحابة والتابعين الأُوَل بغض النظر عن أحوالهم، بدعوى أن الصحابة يستحيل عليهم الكذب على رسول الله، وأن التابعين الأُوَل يستحيل عليهم الكذب على الصحابة، وتخرج بذلك الحلقة الأولى لـ «السند الروائي» من دائرة الجرح والتعديل!!

والسؤال: هل كان المحدثون يعلمون أن سقوط هذه الحلقة يعني سقوط السند الروائي كله؟!

نعم كانوا يعلمون، ولذلك لم يستطيعوا القول بقطعية ثبوت الأحاديث عن رسول الله، وقالوا بظنيتها، ولكن الغريب أنه مع علمهم بسقوط حجية هذه الأحاديث كشريعة إلهية، لعدم ثبوتها ثبوتا قطعيا عن رسول الله، جعلوها مصدرا تشريعيا ثانيا يكفر منكره، وأصبح المساس بأمهات كتب هذا المصدر مساسا بالقرآن!!

ثم ظهرت إشكالية أخرى في عصر التدوين، وهي: ظهور أمهات الكتب الجامعة للحديث في القرنين الثاني والثالث الهجريين، بجهود فردية، ودون توثيق رسمي، في الوقت الذي لم تكن فيه مثل هذه الكتب الجامعة في القرن الأول الهجري، وهو القرن الأقرب إلى عصر الرسالة؟!

ولمواجهة هذه الإشكالية قالوا إن الأحاديث كانت «مكتوبة» في عصر الرسالة، فلما جاء عصر التدوين جُمعت و«دُونت» في الكتب، وبذلك تكون متصلة الحلقات بعصر الرسالة، فإذا سألنا المحدثين: فأين هي هذه الصحف التي «كتبها» الصحابة في عصر الرسالة؟! قالوا: اندثرت!!

وإذا كانت مدونات القرن الأول الهجري قد اندثرت، فلماذا لم تندثر أيضا مدونات القرن الثاني، ومنها موطأ مالك «ت١٧٩هـ»، ولماذا لم تندثر مدونات القرن الثالث، الذي ظهرت فيه أصح كتب الحديث عند أهل السنة وهي: البخاري «ت٢٥٦هـ»، مسلم «ت٢٦١هـ»، الترمذي «ت٢٧٠هـ»، ابن ماجة «ت٢٧٣هـ»، أبو داود «ت٢٧٥هـ»، النسائي «ت٣٠٣هـ»؟!

فهل كانت أقوال الرواة في القرن الأول الهجري مشكوكا في صحة نسبتها إلى رسول الله، لذلك لم يدونها المحدثون، ثم صحت نسبتها في القرنين الثاني والثالث فقاموا بتدوينها؟! هل يعقل هذا الكلام؟! وهل يعقل أن تحمل مدونات القرنين الثاني والثالث شريعة إلهية واجبة الاتباع، ثم لا يكون لها أصل مُدوّن في القرن الأول موثق بمعرفة الخلافة الراشدة؟!

تعالوا نتعرف على الصحف التي قيل أنها دُوّنت في القرن الأول الهجري، وتحديدا في عصر الرسالة، وهل كانت موضع ثقة عند المحدثين، وهل حقا أخذوا منها الأحاديث التي دوّنوها في كتبهم؟!

أولا: الصحيفة الصادقة:

أجمع المؤرخون على أن الذي كتب هذه الصحيفة هو عبد الله بن عمرو بن العاص «ت٦٣هـ»، حسب ما ورد في «الطبقات الكبرى» لابن سعد «ت٢٣٠هـ»، عن مجاهد قال: «رأيتُ عند عبد الله بن عمرو صحيفة، فسألته عنها فقال: هذه «الصادقة»، فيها ما سمعتُ من رسول الله ليس بيني وبينه أحد»!!

وكان عبد الله يحفظ هذه الصحيفة في صندوق خشية عليها من الضياع، ثم حفظها أهله من بعده، واستقرت عند حفيده عمرو بن شعيب »ت١٢٠هـ«، كأثر من آثار جده، ولكنها لم تصل إلى عصر التدوين!!

أما المحدثون فقالوا إن الصحيفة الصادقة وصلت إليهم بخمس روايات، وقد ضعف علماء الجرح والتعديل معظم رواتها، واختلفوا حول هذه الروايات سندا ومتنا، كما ذكر ذلك ابن حجر في «تهذيب التهذيب»، ولم ينقل أحد من المحدثين أحاديثه منها، لأنها لم تكن موجودة أصلا في عصر التدوين!!

قال بدر الدين العيني في عمدة القارئ: «ما لابن عمرو بن العاص من الحديث في كتب السنة، قد جاء عن طريق الرواية لا من سبيل الكتابة»، أى أن الذين رووا الأحاديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أخذوها من أفواه الرواة وليس من صحيفته!!

وعن محتوى هذه الصحيفة، قالوا إنها احتوت على ألف «١٠٠٠» حديث، أخرج الإمام أحمد بعضها في مسنده بعنوان: «مسند عبد الله بن عمرو بن العاص»، وذكر الذهبي في ترجمة عبد الله بن عمرو، قال: «يبلغ ما أسند سبعمائة «٧٠٠» حديث، اتفقا له على سبعة «٧» أحاديث، وانفرد البخاري بثمانية «٨»، ومسلم بعشرين «٢٠»!!

والسؤال: لماذا لم يرو البخاري عن عبد الله بن عمرو أكثر من سبعة أحاديث، ولم يرو مسلم عنه أكثر من عشرين حديثا، وهو الذي كتب الأحاديث وهو بين يدي رسول الله؟! وإذا كان عدد الأحاديث المسندة التي دونها عبد الله بن عمرو في صحيفته «٧٠٠» حديث، فكيف وصلت إلى «١٠٠» ألف حديث في عصر مالك «ت١٧٩هـ»، كما ذكر في الموطأ، وإلى «٦٠٠» ألف حديث في عصر البخاري »ت٢٥٦هـ«، حسب قوله؟!

وإذا كان أحمد بن حنبل »ت٢٤١هـ« قد عاصر البخاري، فكيف وصل عدد الأحاديث التي استقى منها مسنده إلى «٧٥٠» ألف حديث، كما ذكر في مسنده؟!

ثم تعالوا نتعرف على المكانة العلمية لعبد الله بن عمرو بن العاص عند المحدثين، من خلال ما ذكره البخاري في صحيحه، باب كتابة العلم، عن أبي هريرة، قال: «ما كان أحد أكثر حديثاً مني عن رسول الله إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب»!!

إذن فهناك صحابيان، مشهود لهما بالصلاح، وبالضبط والعدالة، أحدهما كان يحفظ الحديث عن ظهر قلب، والثاني كان يكتبه، فلماذا لم يجرؤ أحدهما، أو مجموع الصحابة، أو الخلفاء الراشدون، أن يجمعوا كل ما كُتب في عصر الرسالة في كتاب واحد، باسم «الأحاديث النبوية» ليرثها المسلمون مع كتاب الله؟!

إن عبد الله بن عمرو بن العاص كان ممن حاربوا علياً في «صفين»، فقد كان في صف معاوية، وولاه معاوية الكوفة، ولذلك لم يرو عن عليّ بن أبي طالب الحديث، في الوقت الذي روى عن باقي الصحابة، وتسمية صحيفته بـ »الصادقة« جاءت ردا على صحيفة قيل إنها دُوّنت أيضا بين يدي رسول الله، وهي صحيفة عليّ بن أبي طالب!!

ألا يُشتم من ذلك رائحة الوضع، وأن هذا المصدر الثاني للتشريع صُنع صناعة مذهبية في عصر التدوين، ولم يكن له أي أثر قبل ذلك؟!

ثانيا: صحيفة علي بن أبي طالب

لقد وردت هذه الصحيفة أيضا بعدة روايات، وقد نقل الإمام أحمد في مسنده عن عليّ قال: «والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلاَّ كتاب الله تعالى، وهذه الصحيفة أخذتها من رسول الله، فيها فرائض الصدقة، معلقة بسيفٍ له»!!

فإذا نظرنا إلى مجمل ما جاء في هذه الرواية من فروض، وما جاء في غيرها، نجد أنها لا تمثل شيئا يذكر مقارنة بأحكام الشريعة القرآنية، وما ذكرته سابقا عن حجية الصحيفة الصادقة ينطبق أيضا على هذه الصحيفة!!

ثالثا: الصحف الأخرى

ذكر المحدثون أن هناك صحفا أخرى كتبت في القرن الأول الهجري، وهي: صحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري، وصحيفة سعد بن عبادة الأنصاري، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن أبي أوفى، وما روي من قول محمد الباقر أبي جعفر: «إن عندي لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله»، وقوله: «إن عندنا صحيفة من كتب عليّ بن أبي طالب طولها سبعون ذراعاً»!!

إن افتقاد القرن الأول الهجري لمدونات الحديث التي كتبها الصحابة والتابعون نقلا عن رسول الله مباشرة يسقط حجية المصدر الثاني للتشريع كشريعة إلهية، ولن يشفع لأئمة السلف والخلف يوم القيامة توثيقهم للصحابة والتابعين الأُوَل بـ «إحسان الظن»، لأن هذه القاعدة إن صحت عند أهل السنة، لا تصح عند الشيعة، لأنها قاعدة مذهبية نسبية، كما يعلم ذلك أئمة الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة!!

إن جميع منابر الدعوة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية، منابر مذهبية، لذلك يستحيل مكافحة الإرهاب، أو إدارة الخطاب الديني وإشكاليات الإسلام السياسي بنجاح، دون التبرؤ الرسمي من هذا المصدر التشريعي المذهبي، الذي لا تجد منبرا من منابر الدعوة إلا ويوظف مرويات وأحكام وفتاوى هذا المصدر لصالح مذهبه العقدي أو التشريعي، وأخطر ما فيه التستر وراء «التقية» لتحقيق مصالح سياسية!!

معلومات:

الإخباريون: هم الذين شهدوا مسرح الأحداث التاريخية، بداية بعصر الرسالة مرورا بأحداث الفتن الكبرى، ثم الخلافة الأموية…، حتى وصلت أخبارهم إلى عصر التدوين، فدونها «المؤرخون» نقلا عنهم، كلٌ حسب المذهب العقدي والتشريعي الذي ينتمي إليه.

ree

(377) 13/9/2015 (احذروا التقول على الله بغير علم)

 عدد المشاهدات : 194

إن حرية الفكر، والتعبير عن الرأي، قد كفلتها الشريعة القرآنية لكل إنسان في كافة مجالات الحياة، إلا أنها اشترطت في مجال الفكر الديني أن يكون التعبير عن الرأي بالحجة والبرهان، حتى لا يقع الإنسان في دائرة المحرمات، ومنها التقول على الله بغير علم:

* «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» – «وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» – «وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا» – «وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»

* «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ» – «لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» – «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ»

كثير من رواد شبكات التواصل الاجتماعي يُقحمون أنفسهم في مجال الفكر الديني، ويعبرون عن آرائهم دون حجة ولا برهان، بدعوى حرية التعبير عن الرأي، وللأسف الشديد أن هؤلاء لا يجدون من ينهاهم عن هذا المنكر، إما لأنهم لا يعتبرون هذا منكرا أصلا، باعتباره من حرية الرأي، أو لأنهم لا يعلمون حجة ولا برهانا!!

لقد انتشر هؤلاء على صفحات الفيس بوك بصورة مزعجة، ساعدهم على ذلك انتقال (فيروس) القراءات الشاذة للقرآن إليهم، فتعودوا أن يعبروا عن آرائهم الدينية بمعزل عن المنهجية العلمية في التفكير:

* «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»!!

أولا: يقولون إن «العرب» ليسوا قوما، لأن القرآن لا يصف الناس على أساس قومياتهم، فقد نزل القرآن هدى للناس جميعا!!

والجواب: يقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ»

إن أتباع الرسل هم أقوامهم، وقوم الرسول الخاتم هم «العرب»، ولذلك أنزل الله القرآن على «العرب» بلسانهم القومي، فقال تعالى: «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ».

إن هذا القرآن رسالة الله للناس جميعا، وليس للعرب فقط، وهذه مسئولية العرب التي تخلوا عنها، قال تعالى مخاطبا قوم النبي الخاتم:

«لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ»

ثانيا: يقولون إن كلمة «الأعراب» لا تعني «البدو»، ودليلهم على ذلك أن كلمة «البدو» جاءت في سياق الحديث عن قوم يوسف، وهم ليسوا من العرب:

«وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ»

الجواب: إن المتدبر لجميع الآيات التي وردت فيها كلمة «الأعراب»، يعلم أنهم سكان البادية، الذين يعيشونعلى حدود المدن بمعزل عن تطوراتها الحضارية،، يقول الله تعالى:

«مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ»

وهذه العزلة جعلت قلوب «الأعراب» أشد قسوة من أهل المدينة، حتى بالنسبة لتقبلهم الشريعة الإلهية، قال تعالى:

«الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ».

وعندما تحدث القرآن عن موقف المنافقين في غزوة الأحزاب «الخندق»، وبيّن أنهم جبناء، فلو أعاد جنود الأحزاب الكرة مرة أخرى لرأيتهم يهربون إلى البادية يختفون بين الأعراب، قال تعالى:

«وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ»

والبادي: هو ساكن البادية، يقول الله تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ»

والعاكف: هو الملازم للمسجد من أهل مكة، ويقابله البادِي الذي يعيش على حدودها.

إنه عندما يُمسك مرض الكبر الفكري بقلوب أصحاب القراءات الشاذة للقرآن، فلا تستغرب عندما تجدهم بعد تقولهم على الله بغير علم، يدافعون عن آرائهم الشاذة بقولهم:

إنها لا تتعارض مع القرآن جملة وتفصيلا!!

«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»


(378) 16/9/2015 (المصدر الثاني للتشريع تراث بشري لا نبوي)

 عدد المشاهدات : 200

لقد اختلف المحدثون حول عدد الأحاديث النبوية الصحيحة الموجودة في أمهات كتب الحديث على مستوى فرقة أهل السنة، والرأي الراجح الذي ذهب إليه ابن حجر في «النكت على ابن الصلاح» أن جملة الأحاديث المسندة عن النبي، أي الصحيحة المتصلة السند بلا تكرار، تبلغ أربعة آلاف وأربعمئة «٤٤٠٠» حديث!!

فإذا نظرنا إلى عدد الأحاديث التي كانت منتشرة بين رواة أهل السنة في منتصف القرن الثالث الهجري، والتي أخرج منها أحمد بن حنبل »ت٢٤١هـ« مسنده، وجدناها سبعمائة وخمسين ألف، «٧٥٠٠٠٠» حديث، والتي أخرج منها البخاري »ت٢٥٦هـ» صحيحه، وجدناها ستمائة ألف «٦٠٠٠٠٠» حديث!!

فإذا أردنا معرفة نسبة الصحة في مجموع الأحاديث التي كانت منتشرة ومتداولة بين الرواة في منتصف القرن الثالث الهجري، في عصر أحمد والبخاري، وجدناها ٠.٧٪ (٤٤٠٠ / ٦٠٠٠٠٠) وهي نسبة تُسقط حجية علم الحديث من قواعده!!

ولقد اتفق المحدثون على أن البخاري «ت٢٥٦هـ»، ومسلم «ت٢٦١هـ» أصح الكتب المصنفة في الحديث، ثم تأتي بعدهما في المرتبة الثانية كتب السنن: سنن الترمذي «ت٢٧٠هـ»، سنن ابن ماجه «ت٢٧٣هـ»، سنن أبي داود «ت٢٧٥هـ»، سنن النسائي «ت٣٠٣هـ»، ثم بعدها تأتي المسانيد في المرتبة الثالثة وفي مقدمتها مسند الإمام أحمد بن حنبل «ت٢٤١هـ»!!

فهل كان أصحاب هذه الكتب السبعة، الذين عاشوا جميعا في عصر واحد وهو القرن الثالث الهجري، يعلمون أن نسبة صحة الحديث المنسوب إلى النبي لم تصل إلى الواحد الصحيح (٠.٧٪)؟!

وإذا كانوا يعلمون، فهل يُعقل شرعا أن يقوم على هذه النسبة مصدر تشريعي إلهي، يحمل أحاديث نبوية تكون من نصوص الدين واجبة الاتباع؟! وهل يُعقل أن يكون هذا المصدر التشريعي وحيا إلهيا، ثم يكون سببا في أزمة التخاصم والتكفير بين المسلمين، وسفك دماء بعضهم بعضا، وظهور المؤسسات الدينية المذهبية، الرسمية وغير الرسمية، وقيام التنظيمات المتطرفة التي تسعى في الأرض فسادا، رافعة راية العمل بكتاب الله وسنة رسوله؟!

وبعيدا عن نظرية المؤامرة وتوجهاتها السياسية، فإن أئمة السلف وأصحاب أمهات كتب التراث الديني بكل علومها، هم الذين بأيديهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وليس بأيدي أعدائهم، فقد جعلوا تدينهم البشري المذهبي دينا إلهيا، ومصدرا تشريعيا، بدعوى وجوب اتباع «السلف الصالح»!!

فلماذا لم يجتمع «السلف الصالح» على كتاب واحد في الحديث، إذا كان حقا مصدرا تشريعيا إلهيا ثانيا؟! إن البراهين العلمية الساطعة تشهد أن مسألة جمع الحديث كانت مسألة اجتهادية شخصية، لا علاقة لها بالمصدر التشريعي الإلهي، وإلا لتحملت مؤسسة الخلافة هذا العمل!!

يروي ابن حجر في «مقدمة فتح الباري»، نقلا عن البخاري قوله: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح، وخرجت كتابي من ستمئة ألف حديث، أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح، وجعلت كتابي حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما أدخلت في كتابي حديثاً إلا بعد أن استخرت الله وتيقنت صحته، وما تركت من الصحيح أكثر!!

فها هو البخاري يشهد بنفسه أن مسألة جمع الأحاديث، وتدوين المصنفات، مسألة شخصية لا علاقة لها بمؤسسة الخلافة، فانظر إلى قوله: «فوقع ذلك في قلبي»، أي أن البخاري «ت٢٥٦هـ» وهو في القرن الثالث الهجري، لم يكتب الجامع الصحيح خوفا من ضياع مرويات السنة، التي ضاعت أصلا قبل أن تصل إلى عصره، وإنما استجابة لطلب إسحاق بن راهويه!!

ولكن السؤال: كيف تيقن البخاري أن الأحاديث التي رواها في كتابه «الجامع الصحيح» كلها صحيحة، وهو يعيش في القرن الثالث الهجري؟! ما معنى قوله: «وما أدخلت في كتابي حديثاً إلا بعد أن استخرت الله وتيقنت صحته»؟! فهل تيقن من صحة الحديث بوحي من الله؟!

وإذا كان البخاري قد تيقن من صحة كتابه «الجامع الصحيح» بعد أن استخار الله، فلماذا ذهب يعرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، ليراجعوه، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة؟! [ابن حجر، مقدمة فتح الباري]

وإذا كان البخاري يعتبر أحمد بن حنبل إماما في الحديث، وميزانا في معرفة الصحيح من الضعيف، فلماذا لم يتبعه؟! وإذا كان أحمد يعتبر البخاري إماما في الحديث فلماذا لم يتبعه؟!

ثم انظر ماذا يقول أحمد بن حنبل عن مسنده: «إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا ليس بحجة». [طبقات الشافعية للسبكي «ت٧٧١هـ، والمصعد الأحمد، لابن الجزري «ت٨٣٣هـ»]

ويقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي رحمه الله تعالى: لم كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند، فقال: عملت هذا الكتاب إماما، إذا اختلف الناس في سنة رسول الله رجعوا إليه!! [خصائص مسند الإمام أحمد، لمحمد بن عمر الأصبهاني «ت٥٨١هـ»]

فها هو صاحب المرجعية الأولى لمنظومة الفكر السلفي، يذهب إلى عدم حجية كل الأحاديث التي وصلت إلى عصره والتي لم يروها في مسنده، بما في ذلك أحاديث الكتب الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم!!

فإذا رجعنا إلى القرن الثاني الهجري، وجدنا أن معظم أحاديث موطأ مالك «ت١٧٩هـ» لم يروها أحمد في مسنده، وأن مالكا لم يُدوّن أحاديث الموطأ خوفا من ضياع مرويات السنة، وإنما طُلب منه ذلك، فقد ذكر الطبري في «تاريخ الرسل والملوك» روايتين عن سبب تدوين مالك للموطأ:

الرواية الأولى: أن الخليفة المنصور العباسي، طلب من مالك أن يُدوّن كتابا جامعا في العلم، يتجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وأن يوطئه للناس، ويبعث به إلى الأمصار ليوحد العمل به، فألف كتابه هذا، وسماه الموطأ!!

انظر إلى هذا الشرط الذي وضعه المنصور للإمام مالك، كي يلتزم به وهو يجمع أحاديث الموطأ: «تجنب شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس». انظر كيف كان العلم في القرن الثاني الهجري يُفصّل على هوى الخلفاء، وذلك مع بداية عصر التدوين!!

الرواية الثانية قول مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه، فسميته الموطأ، ثم جاء المهدي حاجا فسمعه مني وأمر لي بخمسة آلاف دينار ولتلاميذي بألف!!

والسؤال: لقد سبق موطأ مالك «ت١٧٩هـ» مسند الإمام أحمد بن حنبل «ت٢٤١هـ»، وصحيح البخاري «ت٢٥٦هـ»، وصحيح مسلم «ت٢٦١هـ»، بقرن من الزمان تقريبا، فما موقف المسند من أحاديث الموطأ، الذي كان يعيش صاحبه في دارالهجرة، المدينة المنورة، التي كانت زاخرة بكثير من التابعين علمائهم وفقهائهم ورواتهم ومن اهتموا بالتصنيف، كما يعلم المحدثون؟!

يقول الرامهرمزي «ت٣٦٠هـ»، وهو صاحب أول كتاب في علم أصول الحديث، وهو كتاب «المحدث الفاصل بين الرواي والراعي»:

إن أول من صنف في الحديث ورتبه على الأبواب هم: ابن جريج «ت١٥٠هـ» بمكة، ومعمر بن راشد «ت١٥٤هـ» باليمن، والأوزاعي «ت١٥٧هـ» بالشام، والثوري «ت١٦١هـ» بالكوفة، والربيع بن صبيح «ت١٦٠هـ» وغيره بالبصرة، ومالك «ت١٧٩هـ» وغيره بالمدينة، وابن المبارك «ت١٨١هـ» بخراسان، وجرير بن عبد الحميد «ت١٨٨هـ» بالري!!

فإذا نظرنا إلى هؤلاء المحدثين، وجدناهم جميعا في عصر واحد، عصر مالك، في القرن الثاني الهجري، فلماذا لم يجتمعوا على كتاب واحد في الحديث، وهم الأقرب لعصر الرسالة من القرن الثالث الهجري؟!

إن معظم أئمة السلف والخلف، متفقون على أن موطأ مالك هو أقدم مؤلف في الحديث وصل إلينا من القرن الثاني الهجري، الأمر الذي جعل ابن الأثير «ت٦٠٦هـ»، يقدمه على سائر المحدثين في كتابه «جامع الأصول في أحاديث الرسول»، يقول عبد القادر الأرنؤوط محقق الكتاب:

«قد عمد فيه المؤلف إلى الأحاديث التي وعتها الأصول الستة المعتمدة عند الفقهاء والمحدثين: الموطأ، والبخاري، ومسلم، وأبو دادود، والترمذي، والنسائي، والتي حوت معظم ما صح عن النبي الكريم».

فإذا ذهبنا إلى الزرقاني «ت١١٢٢هـ» شارح الموطأ، وجدناه يقول في مقدمته: قال يحيى بن سعيد القطان «ت١٩٨هـ» ويحيى بن معين «ت٢٣٣هـ»: مالك بن أنس أمير المؤمنين في الحديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي «ت١٩٨هـ»: ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله من مالك بن أنس، ولا أقدم عليه في صحة الحديث أحدا!!

وقال القاضي أبو بكر بن العربي ت٥٤٣هـ: «الموطأ هو الأصل واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع، كمسلم والترمذي». [عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي]

والسؤال: لماذا اشتهر البخاري «ت٢٥٦هـ» بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله، ولم يشتهر موطأ مالك «ت١٧٩هـ»، وهناك فريق من المحدثين يشهدون أنه هو الأصل الأول والبخاري الثاني؟!

إن ما سبق بيانه في هذا المقال، مجرد مثال يكشف حقيقة ما يسمى بالمصدر الثاني للتشريع، الذي يدعي أئمة السلف والخلف من فرقة أهل السنة، ومن باقي الفرق الإسلامية الأخرى، أنه حمل مرويات السنة النبوية واجبة الاتباع.

إن «المصدر الثاني للتشريع»، لجميع الفرق والمذاهب المختلفة، تراث ديني مذهبي، لا علاقة له بالدين الذي أمر الله تعالى باتباعه، والذي قال عنه: «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

فهل هناك عالم يعرف معنى العلم، وحجية البرهان العلمي، ومكانة وأهمية التحقيق العلمي، يمكن أن يعتبر المصدر الثاني للتشريع (الخاص بأئمة فرقته)، من نصوص الدين الإسلامي الذي لن يقبل الله دينا غيره، وأئمة هذه الفرق الإسلامية هم «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!

 

معلومات:

مقدمة فتح الباري: مقدمة وضعها ابن حجر العسقلاني لكتابه الذي شرح فيه صحيح البخاري والذي سماه «فتح الباري في شرح صحيح الإمام البخاري»، وجعله في عشرة فصول، بيّن فيها المنهج الذي اختاره في شرح الكتاب.

ree


(379) 23/9/2015 (سبيلنا إلى معرفة ما لم يذكره القرآن عن الحج)

 عدد المشاهدات : 224

لقد فهم بعض المسلمين أن قول الله تعالى «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» يُبيح للمسلم أن يؤدي مناسك الحج في أي وقت شاء من هذه الأشهر، وهو فهم غير صحيح لمخالفته قواعد اللسان العربي والسياق القرآني، ولبيان ذلك لابد من إلقاء بعض الضوء على ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي»، لأنها المحور الأساس لفهم كل ما أجملهالقرآن من أحكام الشريعة.

أولا: يقول الله تعالى في سورة البقرة:

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ…»

إن قوله تعالى عن أشهر الحج أنها «مَّعْلُومَاتٌ»، وعدم بيان القرآن لأسمائها، يُبين أن العرب كانوا يعلمون أسماء هذه الأشهر قبل نزول القرآن، وذلك عبر «منظومة التواصل المعرفي»، من لدن آدم وحتى بعثة النبي الخاتم محمد، عليهما السلام.

ثانيا: يقول الله تعالى في سورة التوبة:

«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»

فمن أين عرف المسلمون أسماء هذه الأشهر وهي غير مبينة في القرآن، باستثناء شهر واحد هو شهر رمضان؟!

لقد عرف المسلمون، وعرف الناس جميعا، هذه الأشهر من خلال «منظومة التواصل المعرفي»، كما عرفوا أن الأربعة الحرم هي: «ذو القعدة»، شهر القعود عن القتال، و«ذو الحجة» شهر الحج، و«محرم» أول الأشهر العربية، و«رجب» شهر العمرة والزيارة، كما عرفوا أن أشهر الحج هي: «ذو القعدة ـ- ذو الحجة ـ- محرم».

ثالثا: إن وجود شهر من الأشهر الإثني عشر باسم «ذي الحجة» يدل دلالة منطقية على أن هذا الشهر هو شهر أداء مناسك الحج، زمانا ومكانا، فلا يعقل أن يؤدي الناس المناسك في شهر غير الذي سمي باسمه، كما أن هذه المناسك لا تؤدى طوال هذا الشهر وإنما في أيام منه، يقول الله تعالى في سورة الحج مخاطبا إبراهيم عليه السلام:

«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» – «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ…».

وإن هذه «الأيام المعلومات» أيام «معدودات»، كما بينت ذلك سورة البقرة بقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ…»، وهذه الأيام المعلومات المعدوات من شهر «ذي الحجة» هي التي يؤدي فيها الحجيج مناسك الحج اليوم.

ويجتمع الحجيج في مكان واحد اسمه «عرفة»، وهو ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: «فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ»، وبعد هذا الاجتماع يفيضون إلى المشعر الحرام (المزدلفة):

«فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ»وقوله تعالى بعدها: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ»، يُبين أن القرآن يحيل المسلم إلى مصدر معرفي خارج النص القرآني، ليعرف من خلاله أماكن أداء المناسك وكيفيتها، وهذا المصدر هو «منظومة التواصل المعرفي» التي تواصلت بين الناس.

رابعا: لقد فرض الله أداء مناسك الحج في شهر «ذي الحجة»، وكان من الضروري أن يكون الحجيج آمنين خلال رحلتي الذهاب والعودة، خصوصا هؤلاء الذين سيأتون من «كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، لذلك جعل الله أشهر الحج من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، لتكون الفترة الزمنية التي تبدأ بخروج المسلم من بيته محرما، وصولا إلى مكان الحج، ثم انتظارا لأداء مناسكه في الأيام المعلومات المعدوات، لتكون هذه الفترة الزمنية آمنة.

لذلك فإن قوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ» لا يفهم منه أن تؤدى مناسك الحج خلال هذه الأشهر، وإنما هو بيان للفترة الزمنية الآمنة التي تبدأ من خروج الحاج من بيته محرما، والتي قد تصل إلى شهر أو أكثر حسب بعد البلاد عن البيت الحرام وطبيعة وسائل النقل في عصر التنزيل، ويصبح ملتزما بمحظورات الإحرام: «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»، وخلال هذه الفترة يُسمى المرء حاجا.

خامسا: هناك أيضا محظورات للإحرام كصيد البر، قال تعالى في سورة المائدة:

«أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ»

وقال تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا»

وقال تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً».

فهل سأل الصحابة رسول الله عن معنى «وَأَنْتُمْ حُرُمٌ»، أو معنى «وَإِذَا حَلَلْتُمْ»، أو معنى «مَا دُمْتُمْ حُرُماً»؟! الجواب: لم يسألوا!!

وهل بيّن القرآن معنى «الإحرام»، وكيف ومتى يتم؟! الجواب: لم يبين القرآن ذلك، وإنما تعلمه المسلمون عبر «منظومة التواصل المعرفي».

إذن فلا يمكن فهم ما أجمله القرآن من أحكام بمعزل عن «منظومة التواصل المعرفي»، لأننا إذا تعاملنا مع ظاهر النص فهمنا منه أن الحج هو ذاته أشهر معلومات «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ»، والحقيقة أن السياق يتحدث عن فعل يتم «في أشهر معلومات»، وهذا الفعل هو نية «الإحرام» بالحج، لقوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ»، والالتزام بمحظورات هذا الإحرام.

سادسا: يقول الله تعالى:

«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ … فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ…».

فلو كانت أعمال الحج يمكن أن تؤدى في أي وقت خلال أشهر الحج، ما كان لتقديم الهدي نتيجة الإحصار معنى، خاصة وأن الهدي يجب أن يقدم في وقت ومكان معلومين، لقوله تعالى «حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ».

ثم إن قوله تعالى: «فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ» يُبيّن أنه في حالة زوال الإحصار، ووصل الحاج إلى البيت الحرام، وأراد أن يؤدي العمرة قبل موعد الحج، ثم بعد العمرة يتحلل من إحرامه حتى يأتي موعد الحج، فعليه في هذه الحالة هدي مقابل التمتع بالعمرة.

إن انتظار الحاج في حالة تربص متمتعا بالعمرة «إِلَى الْحَجِّ»، يعني أن أعمال الحج لها وقت محدد لا يمكن تقديمه أو تأخيره، ولذلك كان على الحاج الذي تمتع بالعمرة أن يُحرم بالحج بعد أداء العمرة، ولو كانت أعمال الحج يمكن أن تؤدى في أي وقت من أشهر الحج، فلماذا لا يذهب الحاج بعد أداء العمرة مباشرة إلى عرفات، ولا ينتظر حتى حلول موعد الحج ليذهب مع الحجيج إلى عرفات؟!

سابعا: لقد خاطب القرآن العرب عن مناسك يعرفون مواقعها الجغرافية جيدا، وإذا كان هناك فريق من الناس لم يلتزم بهذه الأماكن في وقت من الأوقات، فإن هناك فريقا آخر ظل ملتزما بقدسية هـذه الأماكن ويعلمها جيدا، ومن هذه الأماكن الصفا والمروة، يقول الله تعالى في سورة البقرة: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا».

إن قوله تعالى: «فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» دليل على أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون من قبل نزولها أن هناك مكانا يسمى «الصفا»، ومكانا يسمى «المروة»، وأن السعي بينهما منسك من مناسك الحج، وأن عليهم أن يصححوا التوجه بهذا السعي إلى الله تعالى وحده لا شريك له، لأن هذه المناسك من شعائر الله «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ».

إن الحقائق العملية التي تنقلها لنا «منظومة التواصل المعرفي» نقبلها ما دام القرآن أشار إليها، وقد أشار القرآن إلى أعمال الحج من حيث مكانه وزمانه: الطواف بالبيت الحرام، السعي بين الصفا والمروة، الوقوف بعرفات، الإفاضة منها إلى المزدلفة «المشعر الحرام»، ثم التحلل وذبح الذبائح: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ».

لقد جاء القرآن يقيم الميزان الحق الذي يقبل المسلمون على أساسه ما حملته لهم «منظومة التواصل المعرفي» من معارف نظرية كانت أو عملية، فإذا نظر المسلمون بعين البصيرة إلى ما حملته هذه المنظومة المعرفية من تراث الفرق والمذاهب المختلفة، حول أصول الدين وفروعه، لوقفوا على حقيقة الفرق بين «الآية الإلهية» و«الرواية البشرية»، وبين «الدين الإلهي»، و«التدين المذهبي».

إن تقليد الأبناء لميراث الآباء في مجالات العلوم المختلفة، يختلف جذريا عن تقليدهم في مجال الدين «ملة وشريعة»، لأنه إذا قلد الأبناء الآباء فيما ورثوه من معارف وعلوم غير صحيحة، فسيأتي اليوم الذي يجدون أنفسهم أمام حقائق الكون العلمية الشامخة، وعنده يضطرون إلى نبذ غير الصحيح، والإيمان والتسليم للحقائق العلمية.

إن الدعوة إلى الاكفتاء بالقرآن، بمعزل عن المنهجية العلمية في التعامل مع آياته، دعوة غير صحيحة لأن النص القرآني لا يُفهم دون الاستعانة بأدوات مستنبطة من ذاته، ولا يفهم دون الاستعانة بـ «منظومة التواصل المعرفي»، وهي مفصلة في كتابنا «المدخل الفطري إلى الوحدانية».

«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»

معلومات:

* الضامر: قليل لحم البطن، والضمور من محاسن الخيل لأنه يعينها على السير والحركة، وقوله تعالى: «وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ»، أي وعلى كل راحلة، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل لأنها تحمل من لا يستطيع السفر على رجليه.

* التفث: بعد أن ينحر الحاج أو المعتمر هديه، يحلق شعره أو يقصه ويهذبه، ويقص أظافره، ويتطهر ويزيل ما علق بجسمه من أتربة خلال رحلة الحج، ويلبس الثيابويتطيب بالعطور.

ree

(380) 26/9/2015 (عندما يفرح أنصار القراءات الشاذة في المصائب)

 عدد المشاهدات : 193

عندما وقع مئات القتلى والجرحى من الحجيج في منى، استغل أنصار القراءات الشاذة للقرآن هذه الكارثة، وخرجوا علينا مهللين: ألم نقل لكم إن معنى «الحج أشهر معلومات» أن يحج المسلمون في أي وقت من هذه الأشهر، حتى لا تحدث كل عام مثل هذه الكوارث؟!

وما أزعجني أن يُوصف الذين يحجون كما أمرهم الله في كتابه، وكما حج المسلمون من لدن إبراهيم عليه السلام، ونقلته لنا «منظومة التواصل المعرفي»..، أن يوصفوا بالغباء لأنهم يُؤدون مناسك الحج في الأيام المعلومات المعدودات، هكذا وصفهم بعض أنصار هذه القراءات الشاذة للقرآن!!

لذلك وجدتها فرصة أن أجمع تعليقاتي على أسئلة الأصدقاء حول موضوع المقال السابق، ففيها الكفاية لبيان كيف يتعامل القلب السليم، بآليات التدبر والتفكر والتعقل ..، مع أحكام الشريعة القرآنية، فأقول:

أولا: الحج فريضة مقيدة بالاستطاعة، فلو لم يستطع المسلمون جميعا أداء فريضة الحج سقطت عنهم

ثانيا: الاستطاعة ليست فقط استطاعة الحاج، وإنما أيضا استطاعة الحكومة السعودية في رعاية الحجيج الرعاية الكاملة، التي تضمن لهم الأمن والسلامة، الأمر الذي يستلزم تحديد الأعداد التي تحقق ذلك، فلو أنها لم تستطع أن تضمن ذلك إلا لـ ١٪ من تعداد المسلمين سقطت الفريضة عن الباقي.

ثالثا: عدم السماح للحاج أن يحج إلا مرة واحدة، لأنه بحجه هذا يكون قد أدى الفريضة التي فرضها الله عليه.

رابعا: تنتهي مناسك الحج بعد الإفاضة من عرفات، وذكر الله عند المشعر الحرام، أما ما يؤديه الحجيج بعد ذلك في منى من أعمال فهي عادات وليست مناسك!!

خامسا: إن جميع المصائب التي تحدث خلال الأيام المعلومات المعدودات التي فرض الله فيها أداء مناسك الحج تحدث بعد الإفاضة من عرفات، أي بعد انتهاء المناسك، إذن فلا علاقة لما يحدث في منى من مصائب بفريضة الحج لأنها خارج دائرة المناسك!!

سادسا: إن الإشكال الذي انطلق منه أنصار القراءات الشاذة للقرآن عند تنظيرهم للدين الجديد الذي يريدون الناس اتباعه، فضلوا وأضلوا، أنهم يستقون شبهاتهم من خارج دائرة الدين الذي أمر الله اتباعه، ثم يقولون هذا: «مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»!!

سابعا: إن غياب المنهجية العلمية عن تفكير أنصار القراءات الشاذة للقرآن جعلهم يكرهون مصطلح «المنهجية العلمية» وما حملته من أدوات لفهم القران وفي مقدمتها ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي»، لذلك أراهم يهربون دائما من التعليق على هذه الأداة المحورية في فهم القرآن، ولكن هل تعلمون لماذا يهربون؟!

ثامنا: يهربون لأن هذه المنظومة المعرفية تهدم قراءاتهم الشاذة للقرآن من قواعدها، فعلى سبيل المثال عندما يقول الله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ»، ثم يقول بعدها: «فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ»، يقولون: إن معنى فرض فيهن الحج أي من حج في أي وقت خلال الأشهر المعلومة!!

تاسعا: فإذا سألتهم: وما هي هذه الأشهر المعلومة التي ستحجون فيها؟! ذكروا لك أسماءها!! فإذا سألتهم: ومن أين جئتم بهذه الأسماء، هل هي مذكورة في القرآن؟! قالوا: لا ليست مذكورة!!

عاشرا: إذن فأصحاب القراءات الشاذة للقرآن، والذين اتبعوهم بغير علم، يستعينون أصلا بمصدر معرفي خارج حدود القرآن الذي يدّعون أنهم يدافعون عنه، وهذا المصدر المعرفي هو الذي تعلموا من خلاله أسماء الأشهر التي يريدون أن يحجوا في أي وقت «فيهن»!!

ثم القاصمة: لقد أعطى هؤلاء ظهورهم للمصدر الأساس الذي أرشدهم إلى معنى «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ»، وهو النصف الأول من الجملة القرآنية، ثم ذهبوا إلى النصف الثاني من الجملة: «فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ»، يفترون على الله الكذب!!

الحقيقة، إنني أقف دائما حائرا أمام من يُقحمون أنفسهم في الحديث عن الشريعة القرآنية، وهم يجهلون أولويات المنهج العلمي في التعامل مع نصوصها، وهو المنهج الذي أمر الله الناس جميعا أن يتبعوه عند التعامل مع القرآن، وفي مقدمة هذه الأولويات تفعيل «منظومة التدبر»:

«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»

«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»



(381) 28/9/2015 (بيان من رسول الله إلى المسلمين اليوم)

 عدد المشاهدات : 216

إن الدور الذي تقوم به الآبائية في تحريف الرسالات الإلهية وتحويلها إلى تراث ديني دور كبير وخطير، ولولا حفظ الله رسالاته في حياة الرسل، وحفظ رسالته الخاتمة إلى يوم الدين، لتحول القرآن إلى قصص وروايات وأساطير، يتبعها أئمة السلف على أساس أنها من الدين الإلهي واجب الاتباع، ولقد ضرب الله المثل على تحريف الرسالات برسالة عيسى عليه السلام، فقال تعالى:

«وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ … مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

نحن نعلم أن رسالة عيسى قد سبقت رسالة محمد، عليهما السلام، مباشرة، لذلك كان من الضروري أن نتوقف عند جملة: «أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ» لأنها تتحدث عن أقوال الرسل في حياتهم، فهل قال عيسى للناس: «اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، ولقد جاء رد عيسى الفوري: «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ».

إن الضابط الحاكم على تراث الأنبياء والرسل هو ما أمرهم الله به في حياتهم: « إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ»، الأمر الذي يستحيل التعرف عليه إلا من خلال البرهان الإلهي:«وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ».

لقد توفي عيسى عليه السلام ولم يتعهد الله بحفظ رسالته، وبعث الله رسوله محمدا عليه السلام وتعهد بحفظ رسالته، ولكن هل تعهد الله بحفظ أقواله مع قومه وصحبه الذين آمنوا معه؟! تعالوا نتدبر قوله تعالى مخاطبا رسوله محمدا:

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

لقد حاول الشيطان أن يكون له دور في تحريف رسالة النبي الخاتم وأقواله عن طريقين:

الأول: إلقاء الشبهات حول القرآن، فنزل الوحي يرد على هذه الشبهات، بالإضافة إلى حفظ الله لآياته القرآنية، وبذلك أغلق الله هذا الطريق تماما أمام الشيطان:

«فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

الطريق الثاني: استغلال الشيطان ما كان يتنزل من تشريعات خاصة بأحداث عصر الرسالة، وما أجمله القرآن من أحكام العبادات التي لم يأت القرآن بتفصيلاتها، كالصلاة، وذهب يثير حولها الشبهات، ويجعل أقوال النبي مع قومه وصحبه في هذه الفترة من التنزيل شيئا مقدسا استطاع أن يفتن به الذين في قلوبهم مرض من الرواة والقصاصين، وهذا الطريق تركه الله مفتوحا حسب إرادة واختيار الإنسان، فقال تعالى بعد الآية السابقة:

«لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ».

أما الراسخون في العلم، فلم يستطع الشيطان أن يخترق قلوبهم، لأنهم أهل حجة وبرهان، يستطيعون أن يفرقوا بين الحق والباطل، وهم الذين وصفهم الله بعدها بقوله:

«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

وحتى نقف على الدور الذي قام به الرواة والقصاصون في تحريف مفهوم «المرجعية الإلهية» ليصبح نصفها قطعي الثبوت عن الله، والنصف الآخر ظني الثبوت عن رسول الله، تعالوا نفترض أن محمدا لم يكن هو النبي الخاتم، وأن الله أرسل نبيا بعده برسالة جديدة، فماذا نتوقع أن يقول الله لرسوله محمد في هذه الرسالة، استنادا إلى ما قاله الله لرسوله عيسى في القرآن؟!

أولا نتوقع أن يقول الله لرسوله محمد في هذه الرسالة الجديدة: أأنت قلت لصحابتك اتخذوا مع كتاب الله مصدرا تشريعيا قوليا باسم الأحاديث النبوية، استنادا إلى الآية

«وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»؟!

الرسول: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به:

«كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»-ـ «اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ»،

وكُنتُ عليهم شهيدا ما دمت فيهم،

«فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

فإذا تدبرنا قوله تعالى: «كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ»، ثم قوله بعدها «اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم»، نعلم أن الأمر بالاتباع جاء متعلقا بالكتاب المنزل وحده، أما التحذير فقد جاء متعلقا بأشخاص وليس بكتاب: «وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ»، نفهم من ذلك أن فتنة المسلمين بعد وفاة النبي ستكون في تقديس أصحاب الكتب، من المفسرين والمؤرخين والمحدثين، وليس في الكتب ذاتها!!

أما عن مفهوم قوله تعالى:

«وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»

فقد بيناه في مقال سابق بعنوان: «هل حفظ الله الأحاديث النبوية كما حفظ النص القرآني»، بتاريخ ٦/ ٤/ ٢٠١٥.

إنه ليس من حق الرسول أن يُشرّع أحكاما خارج حدود الكتاب الذي أنزله الله عليه، والذي لم يرث المسلمون كتابا تشريعيا غيره، لقوله تعالى:

«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ …، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا…».

تدبر قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ»، فهل يعقل أن تكون السنة النبوية مصدرا تشريعيا ثانيا ثم لا ينص الله على ذلك في سياق هذه الآية بقوله «ثم أورثنا الكتاب والسنة»؟!

وهل هناك في كتاب الله نص قرآني يُبيّن أن سنة النبي سيرثها المسلمون حسب المرجعيات الحديثية الخاصة بكل فرقة، حسب شروط علماء الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف؟!

إن أهل السنة يستندون في حجية مرجعياتهم الحديثية إلى رواية: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله»، والشيعة يستندون في حجية مرجعياتهم الحديثية إلى رواية: «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، فأي الفريقين أحق بالاتباع إن كنتم تعلمون حقيقة مفهوم «السنة النبوية»؟!

إنه لمن الجهل والغفلة، أن نظن أن رسول الله سيسعد ويفرح عندما يعلم أن المسلمين يوظّفون مصطلح «السنة النبوية» توظيفا مذهبيا لخدمة توجهاتهم العقدية والتشريعية، الأمر الذي يُخرج «النبوة» من دائرة الوحي الإلهي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلى دائرة التراث الديني الذي خضع لمدارس الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، بعد أن آتاه الباطل عقودا من الزمن!!

ثانيا، ونتوقع أن يقول الله لرسوله: أأنت قلت لصحابتك كونوا شيعا وأحزابا لأن في اختلاف أمتي رحمة، استنادا إلى الآية:

«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ – إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»؟!

الرسول: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا … مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ … مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».

وكُنتُ عليهم شهيدا ما دمت فيهم،

«فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

فأية رحمة هذه التي يراها أتباع الفرق الإسلامية في تفرقهم وتخاصمهم، وفي الصراعات الدينية الطائفية المشتعلة حولنا في المنطقة، وفي حرق الأجساد وقطع الرقاب وبيع النساء في الأسواق..، أليست كل هذه الأعمال تتم باسم العمل بالكتاب والسنة، وتحت راية «لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله»؟!إن الرحمة التي وردت في سياق قوله تعالى:

«وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ-ـ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ»،

جاءت استثناءً من الاختلاف، ويستحيل أن يكون الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من الذين رحمهم الله!!

إن تعدد زوايا الرؤى في فهم النص القرآني أمر ممدوح، لإحداث التطور والترقي في اكتشاف كنوز القرآن وعطاءاته المستدامة، فمع تطور فهم الإنسان حقائق الكون، وفاعلية السنن الإلهية، تنبع رؤى جديدة تتناسب مع المستوى الفكري والعلمي لكل عصر.

ولكن يجب أن تكون هذه الرؤى في إطار منهجية علمية، تحمل أدوات لفهم القرآن مستنبطة من ذات النص القرآني، ومن خلال منظمة عالمية تجمع كل التخصصات العلمية التي لا ينتمي أصحابها لأي مذهب من مذاهب الفرق الإسلامية، حتى لا يتحول الاختلاف المحمود إلى خلاف مذموم، وجدل وعقيم.

وبناء على ما علمه رسول الله من ربه عن أحوال أمته، أصدر بيانا قال فيه:

أولا: يؤكد شكواه من قومه الذين نبذوا نصوص آيته القرآنية، ولم يتفكروا في تفاعلها وتناغمها مع آيات الآفاق والأنفس، واتبعوا أهواءهم، فضلوا صراط ربهم المستقيم:

«وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» ـ-«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً».

ثانيا: يتبرأ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، من كل التوجهات الدينية المذهبية، التي لا عمل لها في هذه الحياة إلا السعي وراء أن يحكم مذهبها العقدي والتشريعي كافة المذاهب الأخرى، كخطوة نحو إقامة الخلافة المذهبية، حتى ولو سُفكت في سبيل ذلك الدماء بغير حق!!

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»

ree

(382) 29/9/2015 (عند السلفيين .. اقتل أخاك المسلم وادخل الجنة)

 عدد المشاهدات : 214

إن تهاون أئمة السلف في مسألة القتل العمد مع بقاء القاتل على إيمانه، كان سببا في استحلال أتباع الفرق الإسلامية دماء بعضهم بعضا على أساس أن المتقاتلين مؤمنون، لن يخلدوا في جهنم، وسيخرجون منها مع العصاة الموحدين إلى الجنة، كما كان سببا في قبول علماء الجرح والتعديل مرويات المتقاتلين على أساس عدم انتفاء شرط العدالة عنهم لأنهم مؤمنون!

يقول ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»، كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما، تعليقا على رواية البخاري عن الحسن البصري: «خرجت بسلاحي ليالي الفتنة»: والمراد بالفتنة الحرب التي وقعت بين علي ومن معه، وعائشة ومن معها!

ثم ينقل عدة روايات من صحيح مسلم تتحدث عن حكم من اشتركوا في هذه الفتنة، فيقول: وفي رواية مسلم فالقاتل والمقتول في النار، قيل فهذا القاتل يستحق النار فما بال المقتول، أي فما ذنبه؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه!

ونقل عن أحمد: حدثنا محمد بن جعفر بهذا السند مرفوعا ولفظه: إذا التقى المسلمان حمل أحدهما على صاحبه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا! وعن النسائي عن أبي بكرة قال: إذا حمل الرجلان المسلمان السلاح أحدهما على الآخر فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما الآخر فهما في النار!

ثم يقول ابن حجر بعد ذلك: قال العلماء معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك، ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما، ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا!

إذن، وحسب ما نقله أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر عن أئمة السلف، يصبح كل من اشترك في فتنة معركة الجمل من الجانبين في النار، وإذا كان أمر المتقاتليْن معلقا بمشيئة الله: «إن شاء عاقبهما … وإن شاء عفا عنهما»، فهل اطلع أئمة الجرح والتعديل على مشيئة الله حتى يصدروا حكمهم بعدالة الصحابة وعصمة أئمة أهل البيت، الذين شاركوا في موقعة الجمل؟

ويقول ابن حجر: واحتج بهذا الحديث من لم ير القتال في الفتنة، وهم كل من ترك القتال مع علي بن أبي طالب في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وغيرهم، وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه!

إذن فهناك من الصحابة من لم يشارك في فتنة موقعة الجمل لأنهم كانوا يعلمون أن في كتاب الله آية تقول:«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً»، فمن اتصف بصفة الإيمان يستحيل أن يقتل مؤمنا إلا إذا حدث ذلك عن طريق الخطأ!

وعند حديثه عن تخلف أسامة بن زيد عن المشاركة في جيش علي، مع علمه أن عليا كان ينكر على من تخلف عنه، ولا سيما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت، يقول ابن حجر: فاعتذر بأنه لم يتخلف ضنا منه بنفسه عن علي ولا كراهة له، وأنه لو كان في أشد الأماكن هو لأحب أن يكون معه فيه ويواسيه بنفسه، ولكنه إنما تخلف لأجل كراهيته في قتل المسلمين!

إذن فهناك من أهل البيت من امتنعوا عن المشاركة في فتنة معركة الجمل لعلمهم أن القاتل والمقتول في النار، ولكن هل الذين لم يمتنعوا وشاركوا في القتال وسفكوا الدماء كانوا يعلمون أنهم بقتالهم هذا سيدخلون النار ومع ذلك أصروا على القتال لعدة أيام؟

لقد كان المخرج الوحيد من هذه الأزمة، أن يضع أئمة الجرح والتعديل قاعدة تحمي كل من اشتركوا في معركة الجمل من أن يمسهم أحد بجرح، فذهب أهل السنة إلى القول بـ «عدالة الصحابة»، وذهب الشيعة إلى القول بـ «عصمة الأئمة»، وعلى هذا الأساس لم تخضع طبقة الصحابة ولا طبقة أئمة الشيعة لميزان الجرح والتعديل، وأصبح من يمسهم بسوء كافر مرتد حلال الدم!

ولكن لماذا أخرج أئمة الجرح والتعديل الصحابة وأئمة أهل البيت من دائرة الجرح والتعديل؟! لأن كثيرا من كبار الصحابة وأئمة أهل البيت اشتركوا في أحداث الفتن الكبرى، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بداية بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وهي معارك سفكت فيها الدماء مع سبق الإصرار والترصد، فلو دخل هؤلاء الصحابة والأئمة دائرة الجرح لسقطت الحلقة الأولى من حلقات السند الروائي، وقد سبق أن بيّنت ذلك في مقال بعنوان: «سقوط الحلقة الأولى من حلقات السند الروائي»!

لذلك وجدنا ابن حجر يقول: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عُرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين!

فكيف يكون قتال المسلمين وسفك دماء بعضهم بعضا عن اجتهاد، ويكون المجتهد في الرأي له أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ، ومعلوم أن القتل الخطأ لا يكون أبدا عن تعمد مع سبق الإصرار والترصد! فكيف يكون أحد الفريقين مأجورا وكل منهما كان حريصا على قتل الآخر مع إشراقة شمس كل يوم من أيام معركة الجمل، كان يتم خلالها تجهيز الأسلحة القتالية التي تحقق لكل فريق النصر على الآخر؟

وينقل ابن حجر مذهب أهل السنة في مسألة الخروج على خليفة المسلمين فيقول: وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.. الآية»، ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليا كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يذم واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطؤوا!

إذن فجمهور أهل السنة يعتبر جيش السيدة عائشة هو الفئة الباغية! إذن فهل كانوا يعلمون أن من بين هذه الفئة الباغية كبار الصحابة وعلى رأسهم طلحة والزبير، وهما من المبشرين بالجنة، الأمر الذي يجعلنا نسأل: ألا تعتبر رواية العشرة المبشرين بالجنة من الروايات التي وُضعت في زمن الفتنة حتى لا تُمس الطائفة التي فيها أحد المبشرين بالجنة بسوء؟!

وهل عندما يستدل جمهور أهل السنة على تصويب من قاتل مع جيش علي بقوله تعالى:«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»؟!

ويقولون إن هذه الآية هي الدليل على وجوب قتال جيش السيدة عائشة لأنه الفئة الباغية، فهل سيشفع لهم هذا الاستدلال يوم القيامة، وهذه الآية لا تصلح مطلقا دليلا على ما ذهبوا إليه، لأنها لا تتحدث عن سفك للدماء مع سبق الإصرار والترصد لعدة أيام؟!

إن من معاني كلمة «اقْتَتَلُوا» تشاجروا وتتضاربوا، وقد استخدمها السياق القرآني بهذا المعنى عند الحديث عن المشاجرة التي تمت بين الرجلين اللذين تدخل موسى عليه السلام للفصل بينهما، فقال تعالى:

«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ (يَقْتَتِلَانِ) هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ»!!

فهل ما حدث في موقعة الجمل كان مشاجرة بين طائفتين، أم قتالا كانت الدولة طرفا فيه؟! إن فعل الأمر «فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي»، خطاب للدولة، التي هي السلطة الحاكمة في البلاد، ولا يعني هذا الأمر اسفكوا دماء الطائفة الباغية، وإلا ما قال بعدها «حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»، وما قال بعدها «فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا»، وما قال بعدها:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»، فكيف يتم الصلح مع موتى سُفكت دماؤهم؟!

لقد حرف أئمة الجرح والتعديل مفهوم الاقتتال الوارد في هذه الآية ليصبح معناه القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، وبذلك يكون الذين سفكوا الدماء عن عمد في موقعة الجمل مؤمنين لا تسقط عدالتهم، وبالتالي لا يسقط علم الحديث!

ولكن المتدبر لكتاب الله يعلم أن ورود صفة الإيمان في السياق القرآني ليس بالضرورة أن تكون محققة في الذين وصفهم الله بها، فقد يأتي الوصف لمجرد الادعاء، ثم يثبت الواقع العملي صدق أو كذب هذا الادعاء، ودليل ذلك قوله تعالى:

«قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ».

ويقول الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ».

وفي هذه الآية يصف الله النساء المهاجرات بالإيمان على أساس ادعائهن ذلك، وبعدها خاطب المؤمنين بقوله تعالى: «فَامْتَحِنُوهُنَّ»، ليتحققوا بأنفسهم من صدق هذا الادعاء، ثم قال: «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»، أي بعد التاكد من صدق إيمانهن: «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ».

عندما تتحول المشاجرة بالأيدي والعصي إلى قتال بالأسلحة البيضاء، ويسقط آلاف القتلى خلال أيام مع سبق الإصرار والترصد، فأي شريعة هذه التي لا تخلع صفة الإيمان عن المتقاتلين، والله تعالى يقول:

«وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».

معلومات:

* ابن حجر العسقلاني «ت٨٥٢هـ»: أطلق عليه المحدثون لفظ «الحافظ» لتفرده من بين أهل عصره في علم الحديث حتى قالوا إن أمير المؤمنين في الحديث لحفظه وإتقانه للحديث، ومن أشهر مؤلفاته «فتح الباري شرح صحيح البخاري» في خمسة عشر مجلدا.

* موقعة الجمل: حدثت في البصرة، في جمادى الثاني عام ٣٦هـ، بين جيش السيدة عائشة زوج النبي، وجيش خليفة المسلمين علي بن أبي طالب ابن عم النبي، وكان متوسط عدد القتلى من الفريقين ثلاثين ألفا!

ree

(383) 5/10/2015 ( فتنة علم الحديث قادتنا إلى المذهبية العشوائية)

 عدد المشاهدات : 236

إن الدارس لأمهات كتب المؤرخين والمحدثين يعلم أن الأخبار التاريخية والأحاديث المنسوبة إلى النبي قد أُخذت من أفواه الإخباريين والرواة، بعد أن مزقت الفُرقة والمذهبية الأمة الإسلامية تمزيقا، ولم تكن هناك مدونات موثقة يُرجع إليها للتأكد من صحة المنقول حتى منتصف القرن الثاني الهجري وبداية عصر التدوين!!

لقد كان من الطبيعي أن يختلف المؤرخون والمحدثون حول ما صح وما لم يصح من مرويات الإخباريين والرواة التي وصلت إليهم عبر قنوات الاتصال الشفهية، والتي ظهر تعصبها العقدي والتشريعي بوضوح عند تدوين كل فرقة أمهات كتب تراثها الديني!!

[الإخباري: هو من أخذ عنه المؤرخ. والراوي: هو من أخذ عنه المحدث]

يقول شيخ المؤرخين والمحدثين الطبري في مقدمة كتابه «تاريخ الملوك»، والذي يعتبر المصدر الأساس للتاريخ الإسلامي عند أهل السنة:

«فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا»!!

لقد ولد الطبري عام ٢٢٤هـ وتوفي عام ٣١٠هـ، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس وهو ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، إذن فقد كان في شبابه ورشده إماما عاصر كبار المحدثين، وفي مقدمتهم البخاري «ت٢٥٦هـ» ومسلم «ت٢٦١هـ».

إذن فعندما يقول الطبري: «إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا»، هل هذا يعني أن الذي سيتحمل مسئولية إشكاليات المرويات التي دونها في كتبه هم الذين نقلوها إليه، مما يُفهم منه غياب المنهجية العلمية في التوثيق، وأن ذلك كان وراء اختراق الكثير من الموضوعات مروياته؟!

إذن فعلى أي أساس أصبح الطبري إماما؟!

فإذا تركنا القرن الرابع الهجري، وذهبنا إلى القرن السابع، نجد أن ابن الأثير يقول في مقدمة كتابه «الكامل في التاريخ» عن المصادر التي استقى منها مروياته:

«إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها»، ثم قال:

«فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، إلا ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا، وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقن حقا، الجامع علما وصحة اعتقاد وصدقا»!!

إن ابن الأثير «ت٦٣٩هـ» هو صاحب كتاب «جامع الأصول في أحاديث الرسول»، الذي جمع فيه أحاديث الكتب الستة المعتمدة في الحديث وهي: الموطأ، صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، وكان يرى أن موطأ الإمام مالك أصح من صحيح البخاري، لذلك كان يقدمه على البخاري، كما هو مدون على غلاف كتابه.

و ابن الأثير هو صاحب كتاب «النهاية في غريب الحديث والأثر»، وصاحب كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة»، فهو مؤرخ ومحدث، فلماذا جعل الطبري المرجع الأساس في التاريخ؟! الجواب: لأن وجهة نظر الطبري في الأحداث التاريخية تتماشى مع وجهة نظر ابن الأثير، خصوصا في ما يتعلق بأحداث الفتن الكبرى، لذلك قال في كلامه السابق:

«إلا ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا، وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين، إذ هو الإمام المتقن حقا، الجامع علما وصحة اعتقاد وصدقا».

لقد اعتمد ابن الأثير على شيخه الطبري في مرويات أحداث الفتن الكبرى لاعتقاده أن الطبري محدثٌ ومؤرخٌ وأمامٌ لا شك في علمه وصدقه، وعليه فهو المسؤول عن مروياته، فهل كان ابن الأثير يعلم أن الطبري استقى معظم مروياته من إخباريين متهمين بالتشيع والزندقة وسوء الحفظ؟!

إذن فقد أراح الطبري «ت٣١٠هـ» نفسه وحَمّل الأخباريين المسؤولية، وأراح ابن الأثير «ت٦٣٩هـ» نفسه وحَمّل الطبري المسؤولية، وأراح ابن خلدون «ت٨٠٨هـ»، نفسه وحَمّل الطبري المسؤولية، فقال في مقدمته:

«هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية، وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة، أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها، من كتاب محمد بن جرير الطبري، وهو تاريخه الكبير، فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الأمة وأخيارها، وعدولها من الصحابة والتابعين».

والسؤال: لماذا ذهب ابن خلدون إلى القرن الرابع الهجري ليتخذ الطبري مرجعا، وترك ابن كثير «ت٧٧٤هـ» الأقرب إليه، وهو الإمام المؤرخ صاحب كتاب «البداية والنهاية»، والمحدث صاحب كتاب «جامع السنن والمسانيد»، والمفسر صاحب كتاب «تفسير القرآن العظيم»، وهو الأشهر عند بين أهل السنة؟!

الجواب: لاختلاف التوجهات العقدية والتشريعية بين أئمة السلف، وخاصة مسائل الأسماء والصفات المتعلقة بذات الله تعالى، والتي سُفكت في سبيلها الدماء على مر العصور، ولا أريد أن أشغل القارئ بها، وقد أشرت إليها في مقال سابق بعنوان «عندما تصبح ثوابت الدين الإلهي ثوابت مذهبية».

وتعالوا نلقي نظرة على آراء أئمة الجرح والتعديل في الطبري، وهو الإمام والمرجع، من خلال كتاب «المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطبري» للشيخ أكرم بن محمد الأثري، الذي ذكر فيه آراء أئمة الجرح والتعديل في كل الرواة الذين ذكرهم الطبري في كتبه المسندة المطبوعة، وهي: «التفسير، التاريخ،-تهذيب الآثار، صريح السنة»، فقال في خلاصة البحث:

أولا: «بلغ عدد الرواة الذين روى عنهم الطبري في سائر كتبه نحو (٧٢١٤)، وهو قريب من مجموع عدد رجال الكتب الستة مجتمعين، حيث بلغ مجموع رجال الكتب الستة المترجمين في «تهذيب الكمال» (٨٦٤٠)».

ثم قال: «وأكثر رواة الطبري من الشيوخ الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة أيضا»، يقصد: البخاري «ت٢٥٦هـ»، مسلم «ت٢٦١هـ»، الترمذي «ت٢٧٠هـ» ابن ماجة «ت٢٧٣هـ» أبو داود «ت٢٧٥هـ» النسائي «ت٣٠٣هـ».

والسؤال: إذا كان «أكثر رواة الطبري من الشيوخ الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة» فلماذا لم يأخذ الطبري مكانته العلمية وسط هؤلاء؟!

ثانيا: «كثرة الأخبار والآثار الضعيفة والموضوعة، رغم كثرة طرقها وشواهدها ومتابعاتها، رغم أن للطبري منهجه الخاص به في تصحيح الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة أيضا».

والسؤال: هل كان السبب وراء عدم أخذ الطبري مكانته العلمية بين أصحاب الكتب الستة أنه كان صاحب منهجا خاصا في تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لذلك لم يلق قبول المحدثين، فأسقطوه كمحدث وجعلوه إماما مؤرخا، فلم نعرف الطبري إلا مؤرخا ومفسرا؟!

ثم ما الفرق بين الطبري مؤرخا والطبري محدثا ومنهج الطبري في تصحيح الضعيف والموضوع في الحالتين واحد؟!

الحقيقة إن أكبر فتنة ابتلي بها المسلمون بعد الفتن الكبرى هي فتنة علم الحديث «المذهبي»، الذي صنعه أئمة كل فرق من الفرق الإسلامية، بل وأئمة كل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، بما يتماشى مع توجهاتها العقدية والتشريعية!!

إن ما اتُهم به الطبرى المحدث اتهم به كل أئمة الحديث عند الفرق الإسلامية، وهذه الحقيقة يعلمها أهل هذه الصنعة، ولكنها للأسف غائبة عن عامة المسلمين من أتباع الفرق المختلفة، الأمر الذي يدعوني إلى تبسيط هذه الإشكاليات بجرعات قليلة في مقالاتي، لتبصير المسلمين بحقيقة هذا العلم، الذي يستحيل أن يحمل وحيا إلهيا باسم السنة النبوية أو الحديث النبوي، يكفر منكره!!

ثالثا: «كثرة المبهمين الذين يبهمهم من رجاله في مواضع، ويصرح بهم أو لا يصرح بهم في مواضع أخرى من كتبه، وقد بلغ مجموعهم (٥٥٠) مبهما».

إن هذه الإشكالية لا تخص الطبري وحده، فسواء عرف الباحث الرواة أو كانوا مبهمين فإن القضية قي اليد التي تحمل ميزان الجرح والتعديل، وهل هي يدٌ سنية أم شيعية، فإذا حملته يد شيعية فإن النتيجة ستختلف تماما!!

لقد أورد الباحث، نقلا عن أئمة الجرح والتعديل، الصفات التي جرحوا على أساسها رواة الطبري، ولنا أن نتخيل لو أن ميزان الجرح والتعديل كان في يد شيعي، أو في يد مذهب من مذاهب أهل السنة العقدية، كالأشعرية أو القدرية أو المرجئة، فماذا ستكون النتيجة؟!

فمما ذكروه عن صفات الرواة: «ثقة فقيه عابد رُمِيَ بالتشيع، صدوق رُمِيَ بالقدر وكان يدلس، رُمِيَ بالنصب، رُمِيَ بالرفض، فقيه صدوق سني، صدوق تُكُلِمَ فيه لبدعة الخوارج، أول من تكلم في الإرجاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس، متروك الحديث وكان صالحا في نفسه، مقبول، ضعيف، ضعيف جدا، مجهول، منكر الحديث، كان يكذب، سكت عنه البخاري، لا بأس به».

فهل هذه شريعة يكفر من ينكرها؟!

لقد اتخذ المحدثون مرويات الرواة مصدرا تشريعيا إلهيا ثانيا باسم «السنة النبوية» بدعوى أنها المبينة للقرآن والمكملة لأحكامه، وذلك لإعطاء شرعية لكل المصائب التي حلت بالمسلمين بعد تفرقهم وتخاصمهم وسفك دماء بعضهم بعضا، والمصيبة الأكبر أنهم أفتوا بكفر من ينكر نصوص هذه «السنة المذهبية»، التي لا علاقة لها أصلا بدين الله وشريعته القرآنية!!

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

معلومات:

* النواصب: مصطلح ديني أطلق على من ناصبوا العداء لعلي بن أبي طالب وأهل بيته، وحكموا عليهم بالكفر أو الفسق، بالقول أو الفعل، وقد ظهر في أحداث الفتن الكبرى، وإسقاطه على أرض الواقع اليوم جهل وإفساد في الأرض.

* الروافض: مصطلح سياسي أطلق على من رفضوا خلافة أبي بكر وعمر، ولا علاقة له بعلي وأهل بيته الذين لم يخرجوا على الثلاثة الراشدين، ثم ظهر في أحداث الفتن الكبرى، وإسقاطه على أرض الواقع اليوم جهل وإفساد في الأرض.

ree


(384) 7/10/2015 (ضرب المرأة بين الشريعة القرآنية وحقوق الإنسان)

 عدد المشاهدات : 206

لقد دعت منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية، في مختلف أقطار العالم، إلى مكافحة كل أشكال العنف ضد المرأة، استنادا إلى تشريعات صادرة عن الأمم المتحدة، من أجل حماية الإنسان من أية عقوبات تهين كرامته، ومن ذلك ضرب المرأة، فما هي حقيقة هذه العقوبة في الشريعة القرآنية؟!

إن «الشريعة القرآنية» لم تأمر بضرب «المرأة»، ولم تترك الخلافات الزوجية، التي قد تصل إلى الطلاق، يديرها الزوجان حسب هواهما وتصرفاتهما غير الرشيدة، وإنما أمرت أن تكون الخلافات الزوجية تحت رعاية وإشراف مؤسسة رسمية متخصصة في شؤون الأسرة، ولتكن «محكمة الأسرة»، وقد سبق بيان ذلك في مقال سابق، بعنوان «المرأة زوجة عند الله.. مطلقة عند أئمة السلف»، بتاريخ ٢٤/ ٧/ ٢٠١٥.

إن الآية القرآنية، التي يستند إليها المدافعون عن حقوق الإنسان في اتهام الشريعة الإسلامية بانتهاك حقوق المرأة، هي «الآية ٣٤» من سورة النساء، وتحديدا كلمة «وَاضْرِبُوهُنَّ» التي وردت في سياقها، فتعالوا نلقي بعض الضوء على هذه الآية، لنقف على حقيقة هذا الإتهام.

«أولا»: يقول الله تعالى في سورة النساء، «الآية ٣٤»:

«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» – «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ» ـ- «وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» -ـ «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا».

إن المتدبر لسياق هذه الآية، يعلم أن الله قسم الزوجات إلى صنفين:

الصنف الأول: نساء صالحات، مطيعات لله، يحفظن حقوق أزواجهنّ، ليس في حضورهم فقط، وإنما في غيبتهم: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ»، و«الباء» في قوله تعالى «بِمَا حَفِظَ اللَّهُ» تسمى باء الملابسة، أي أن صلاح المرأة وطاعتها لزوجها، وحفظ حقوقه في غيبته، ليس تفضلا منها، وإنما استجابة لأمر الله تعالى!!

الصنف الثاني: نساء نشزن عن «منظومة الصلاح»، وتخلفن عن القيام بوظائفهنّ وواجباتهنّ الزوجية، ولم يحفظن حق الزوج في غيبته، وقد ظهرت عليهن علامات هذا النشوز بعد الزواج، هؤلاء هن الناشزات المخاطبات بمراحل العلاج الثلاث: »فَعِظُوهُنَّ» – «وَاهْجُرُوهُنَّ» -ـ «وَاضْرِبُوهُنَّ«، وليس الخطاب لعموم النساء!!

إذن فالشريعة القرآنية لا تتحدث عن ضرب المرأة، ولا عن ضرب الزوج امرأته، وإنما عن حالة خاصة جدا من حالات النشوز، تقبل فيها المرأة الضرب، ولا تجد فيه إهانة لكرامتها!!

«ثانيا»: النشوز في اللسان العربي: هو الترفع والعلو والتباعد، وهو في العلاقة الزوجية سوء خلق تنشأ عليه المرأة «أو الرجل»، يجعل المرأة تتعالى على زوجها، وتتعدى على حقوقه الزوجية، ولا تحفظه في غيبته.. ويرجع إلى سوء اختيار أحد الزوجين للآخر، فإذا لم يُعالج عند ظهوره، فإنه سيؤدي حتما إلى انفصال الزوجين.

وحرصا على عدم هدم بيت الزوجية لأسباب قد لا تقتضي ذلك، أمرت الشريعة القرآنية الزوجين عند ظهور هذا النشوز، باتباع خطوات إصلاحية، ولم تنتظر حتى يحدث النشوز فيصعب الإصلاح، ويقع الطلاق!!

«ثالثا»: إن الله تعالى هو الذي أمر الزوجين باتباع هذه الخطوات الإصلاحية، فهو سبحانه خالق هذه الأنفس، الخبير بما يصلحها: «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، فقال تعالى في سورة النساء «الآية ٣٤» مخاطبا الرجال: «وَاللَّاتِي «تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ..»، وقال مخاطبا النساء، «الآية ١٢٨»: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ..»!!

إذن فعندما تحدثت الشريعة القرآنية عن النشوز، والخطوات الواجب اتباعها عند ظهوره، لم تتحدث عن نشوز المرأة فقط، وإنما تحدثت أيضا عن نشوز الرجل، ولذلك وجه الله الخطاب إلى «الحكمين» بالتدخل في حالة ظهور هذا النشوز، فقال تعالى «الآية ٣٥»:«وَإِنْ (خِفْتُمْ) شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا».

«رابعا»: إن الكلمة القرآنية لا يمكن صرفها عن المعنى الحقيقي الذي ورد في السياق القرآني، وعرفه اللسان العربي، إلا بقرينة تصرفه إلى غيره، فإذا تتبعنا جذر «ض ر ب» في معاجم اللسان العربي، فإن أوَّل ما يطالعنا هو الدلالة «الحقيقية» لمعنى الضرب، وهي: إيقاع شيء على شيء، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف!! [انظر لسان العرب، تاج العروس، المفردات في غريب القرآن للراغب، المصباح المنير].

فإذا ذهبنا إلى «الآية ٣٤»، التي وردت فيها كلمة: «وَاضْرِبُوهُنَّ»، لا نجد في سياقها قرينة تصرف الضرب عن معناه الحقيقي، لأننا أمام درجات من العلاج، تبدأ بالوعظ، والمرأة التي تتوقف عن نشوزها بالوعظ لا يجوز للزوج أن يلجأ إلى هجرها، فضلا عن ضربها، والتي تتوقف بالهجر لا يجوزللزوج أن يضربها، إذن فالله تعالى لم يبح الضرب ابتداءً، وإنما جعله آخر مراحل العلاج، التي قد تستجيب له بعض الحالات!!

إن الذين صرفوا الضرب عن معناه الحقيقي، لإرضاء منظمات حقوق الإنسان الدولية، وقالوا إن معناه «الإبعاد»، أي إبعاد المرأة عن بيت الزوجية، أو إبعادها عن زوجها داخل بيت الزوجية، هؤلاء لم يلتفتوا إلى معنى كلمة «الهجر»، الذي يعني الإبعاد والفصل بين الزوجين، في أكبر شيء يؤذيهما، وهو افتقاد العلاقات الحميمة بينهما، مع ملاحظة أن الآية بدأت بالوعظ، وثنّت بالهجر، وثلَّثت بالضرب، فلا يُعقل أن يكون الهجر والضرب شيئا واحدا بمعنى الإبعاد والفصل بينهما!!

لقد اشترطت الشريعة القرآنية عدم إبعاد المرأة عن بيتها في فترة العدة التي تسبق وقوع الطلاق، وذلك حتى لا تتسع دائرة الخلاف بينهما: «لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا»، ولذلك لم يقل الله «واهجروهن في المضجع»، بصيغة المفرد، وإنما جاء بلفظ الجمع فقال في «المضاجع»، لبيان أن الهجر يكون في أي مضجع يجمع الزوج مع امرأته داخل البيت، الأمر الذي يُشعرها بغضب زوجها، فتعيد التفكير، وترجع عن نشوزها!!

«سابعا»: لقد ورد فعل «اضرب»، بصيغة الأمر «بمعناه الحقيقي»، في كثير من الآيات القرآنية، ولا توجد قرينة في سياق هذه الآيات تصرفه عن هذا المعنى، تماما كفعل الأمر «وَاضْرِبُوهُنَّ»، وسأضرب مثالين على ذلك:

١- قوله تعالى:«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ «فَاضْرِبُوا» فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»

ضرب الأعناق: قطع أعناق المشركين وفصلها عن الجسد، وضرب البنان: قطع الأصابع لتعطيل عمل اليد، وعندما تفعل الملائكة ذلك، وهو أمر لا يُشاهد بالحس، فهذه آية من آيات الله، يرى المسلمون أثارها بأعينهم!!

٢- قوله تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ «اضْرِب» بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ»!!

لقد ضرب موسى البحر بعصاه، «فَانفَلَقَ»، أى انقسم طُرقاً منفصلة عن بعضها «كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ»، وهنا ورد الضرب بمعناه الحقيقي!!

ولا توجد قرينة، في سياق أحكام القرآن، تصرف الحكم عن معناه الحقيقي!!

«ثامنا»: هناك دلالات، للجذر «ض ر ب»، مجازية، ومعظمها ارتبط بضرب المثل، ففي التمثيل فصل الحق عن الباطل، كقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ «ضَرَبَ» اللّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء»، وهو قوله تعالى: «كَذَلِكَ «يَضْرِبُ» اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ» – «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء» – «وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ»!!

وهناك دلالات أخرى تأتي بمعنى «سعى، وسافر، وجاهد..»، كقوله تعالى:

«لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ «ضَرْبًا» فِي الأَرْضِ»،

وقوله تعالى:

«وَإِذَا «ضَرَبْتُمْ» فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ»،

وقوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا «ضَرَبْتُمْ» فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا».

وكل الدلالات المجازية، والإضافية، لا علاقة لها بفعل الأمر «وَاضْرِبُوهُنَّ»، الذي ورد في سياق «الآية ٣٤» من سورة النساء!!

«تاسعا»: يختلف النساء في طبائعهن، فهناك من تستجيب لزوجها خلا فترة الموعظة وتنتهي القضية، وهناك من تستجيب خلال فترة الهجر، وهناك من لا تنفع معها موعظة، ولا يؤثر فيها هجر، فهل يطلقها زوجها، ويهدم بيت الزوجية؟!

الحقيقة هناك تصرفات غريبة وشاذة، قد تظهر من أحد الزوجين بعد فترة من الزواج، بعد أن نبتت شجرة الحب، وأصبح بينهما أولاد.. ومن هذه التصرفات أن تكون المرأة مصابة بمرض نفسي، لا ترى الرجولة إلا إذا استخدم زوجها معها العنف، ولا ترى في الضرب إهانة لكرامتها، ويُسأل عن ذلك علماء النفس!!

ولكن كيف يكتشف الزوج ذلك؟! إذا ضرب امرأته مرة واحدة، بعد استنفاد فترة الموعظة وفترة الهجر، ووجد أن ضربها قد زاد الأزمة اشتعالا، إذن فلن يجدي معها علاج، وعليه أن يطلقها، وإذا كان قد أحدث بجسدها أية إصابات، فإن «محكمة الأسرة» ستعاقبه على ذلك استنادا إلى قانون العقوبات، وأحكام القصاص!!

«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

معلومات:محكمة الأسرة: تتشكل من ثلاثة قضاة، للنظر في الدعاوى المرفوعة من الزوجين، يتبعها مكتب فني يعمل به إخصائيون في القانون والاجتماع وعلم النفس، للتحقيق في أسباب النزاع، وسماع أقوال الزوجين، وإبداء النصح والإرشاد لهما، وقرارتها واجبة التنفيذ.

ree

يناير 31

58 min read

0

2

0

منشورات ذات صلة

Comments

مشاركة أفكارككن أول من يعلِّق.

جميع الحقوق محفوظه © 2025 نحو إسلام الرسول 

  • Facebook
  • Twitter
  • YouTube
bottom of page