top of page

سلسلة مقالات بدون عنوان ١٦

فبراير 1

72 min read

0

1

0

(385) 8/10/2015 (شبهات حول قوله تعالى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)

 عدد المشاهدات : 430

أولا: عندما تحدث القرآن عن الخلافات الزوجية لم يتحدث من منطلق علاجها بعد أن تقع، وإنما من منطلق (الوقاية خير من العلاج)، وعندما أمر الحكمين بالتدخل أمرهما عند الخوف من حدوث (الشقاق) وليس عند الشقاق، وعندما أمر الرجل بالتدخل أمره عند الخوف من (النشوز) وليس عند حدوث النشوز، وعندما أمر المرأة أن تتدخل أمرها عند الخوف من نشوز زوجها أو إعراضه وليس عند تحقق النشوز والإعراض!!

ثانيا: ولذلك عندما ننطلق في فهم الآية من منطلق تحقق النشوز، ويرى البعض أن من معاني نشوز المرأة أن تضرب زوجها وبالتالي على الزوج أن يضربها كما ضربته…، فهذا الفهم لا علاقة له مطلقا بسياق هذه الآية، لأن هذه الآية لا تتحدث عن معركة بين الزوجين قد يكون الضرب فيها بالسكين، لأن الضرب باليد أو السكين من معاني الضرب، وبناء على هذا الفهم يكون من معانى نشوز المرأة!!

ثالثا: إن الشريعة القرآنية لا تنتظر حتى يحدث الشقاق والنشوز ثم تبدأ بالعلاج، وإنما تتحرك مع بداية ظهور أعراض النشوز!! إن التلميذ الذي يأتي من المدرسة ومعه في شنتطته قلم ليس له، ولا يسأله أحد من أين جئت بهذا القلم، فسيأتي غدا بقلمين، ثم يصبح بعد ذلك لصا!!

رابعا: إن النشوز ينشأ عليه الإنسان في طفولته حسب البيئة التي تربى فيها، ويظل يحمله طوال حياته إن لم يجد من يعالجه، ويتزوج وهو يحمله، ولن يظهر فجأة إلا في مستشفى المجانين، فلا يعقل بعد فترة من الزواج أن يجد الرجل امرأته تدخل عليه وتصفعه فجأة على وجهه بدون أي مقدمات، فيقوم هو أيضا بضربها، وتشتعل المعركة بينهما!!!

خامسا: إذن فلابد من ظهور أعراض أو علامات تبين للرجل أن امرأته ليست هي التي عرفها بأخلاقها الحميدة، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة ترى زوجها ليس هو الذي عرفته …. هذه فقط هي الدائرة التي يتحدث في حدودها سياق الآية، دائرة (الوقاية خير من العلاج)، وذلك في حالة الخوف من نشوز المرأة أو الخوف من نشوز الرجل، فالخوف من النشوز (وليس النشوز) هو القضية الرئيسة التي حملها سياق الآيات المتعلقة بهذا الموضوع: (واللاتي تخافون)، (وإن امرأة خافت)، (وإن خفتم شقاقبينهما)!!

سادسا: سياق الآية لا يتحدث عن رد فعل الزوج تجاه تصرفات زوجه، فلا يعظها إلا إذا وعظته، ولا يهجرها إلا إذا هجرته، ولا يضربها إلا إذا ضربته، فعلى أي أساس علمي نحصر مفهوم الضرب في سياق الآية على رد فعل الزوج في حالة ضرب زوجه له؟!

سابعا: إن الذين يستدلون بقوله تعالى: “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ”، على أن ضرب الرجل امرأته يكون في حالة واحدة وهي إذا ضربته هي أولا، فيقوم بضربها كما ضربته، هؤلاء لم يتدبروا قوله تعالى: “وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ”!!

إن سياق الآية لا علاقة له بأحكام العقوبات وإنما بكيفية إدارة نشوز المرأة حسب ما أمر الله في سياقها، والله تعالى عندما تحدث عن نشوز الرجل لم يأمر امرأته أن تفعل شيئا معه مطلقا، وإنما أمرها أن ترفع شكواها إلى الحكمين أو إلى المؤسسة المتخصصة المعنية بشئون الأسرة، وفي هذه الحالة من حقها أن تطلب (الخلع)، وقد بينت ذلك في المقال.

ثامنا: إن المرأة التي تضرب زوجها، هذه امرأة قد تعدت حدود النشوز أصلا، ودخلت دائرة الإجرام، لذلك يستحيل أن يقابل زوجها العاقل ضربها بضرب مثله بدعوى القصاص ثم تستمر حياتهما الزوجية، وإنما عليه أن يتجنبها فورا ثم يطلقها.

تاسعا: لقد ذكرت في المقال أن سياق الآية بدأ بالحديث عن النساء الصالحات، ثم تحدث عن الناشزات من النساء، إذن فليس كل النساء ناشزات!! ثم قسم الناشزات ثلاثة أقسام:

قسم تنفع معه الموعظة، وقسم ينفع معه الهجر، أي الابتعاد عن المرأة داخل البيت، وقسم ينفع معه الضرب وهنا نحتاج الى وقفة:

إن القضية التي تقوم الدنيا ولا تقعد بسببها تتعلق بنسبة من النساء لا تكاد تذكر أصلا إلا أنها موجودة، وقد قلت في المقال إن هذا الصنف من النساء موجود ويسأل عنه علماء النفس، وهذه المرأة لا ترى في ضربها إهانة لأنها نشأت منذ طفولتها لا تقوم بواجباتها إلا إذا ضربت!!

فهل يعقل أن نقوم بتحريف آيات الذكر الحكيم، ونبتدع قراءات قرآنية معاصرة تخدم هذا التحريف، وكل ذلك من أجل نسبة من النساء لا تكاد تذكر من مجموع النساء، وهن يرفضن أصلا دفاع أصحاب هذه القراءات عنهن، ولا حتى التحدث باسمهن؟!!

شيء عجيب وغريب!!!


(386) 10/10/2015 (علم الجرح والتعديل .. هكذا تحمي كل فرقة مروياتها في كتب الحديث)

 عدد المشاهدات : 458

لا يشك مسلم أن الله تعالى رضي عن المؤمنين من صحابة رسول الله الذين أخلصوا دينهم لله، وبايعوا الرسول على ذلك، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. ولا يشك مسلم أن الله تعالى حذر من المنافقين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ومات رسول الله وهو لا يعلم من هم، يقول الله تعالى:

«وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ».

فعلى أي أساس شرعي أقام أئمة الجرح والتعديل علمهم بأحوال الرواة الذين قام عليهم علم الحديث، وهناك صفات في البشر تحتاج إلى فترات زمنية طويلة، وإلى مواقف متعددة من الابتلاء والتمحيص، حتى يمكن اكتشافها، خصوصا أن الله وحده هو الذي يعلم ما يحمله الإنسان في قلبه، فهو القائل:

«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى».

لقد دوّن أئمة الجرح والتعديل كتبهم في معرفة أحوال الرواة على أساس عقدي مذهبي، وليس على أساس أخلاقي، وذلك على مستوى كل الفرق الإسلامية، فجعلوا الشرط الأول لقبول رواية الراوي أن يكون مذهبه العقدي موافقا لمذهب الفرقة التي ينتمي إليها إمام الجرح والتعديل!!

فإذا درسنا مدارس الجرح والتعديل على مستوى الفرق الإسلامية، سنجد أولا أن الإشكال الأكبر هو غياب مدوناتها عن القرن الأول الهجري، وهو القرن الذي حمل الحلقات الأولى من السند الروائي!! وثانيا: لن نستطيع أن نخرج بنتيجة شافية في الحكم على أي راو من الرواة، فالمجروح عند الشيعة عدل عند السنة، بل وسنجد داخل الفرقة الواحدة أن المجروح عند مذهب من مذاهبها العقدية عدل عند مذهب عقدي آخر!!

فإذا ذهبنا إلى مدونات القرن الثاني الهجري، وجدنا الذهبي يذكر قائمة بأسماء جمع من المؤلّفين قيل إن لهم مدونات، وعند التحقيق العلمي لم يعثر إلا على صحف منسوبة إلى الإمام مالك قيل إنها الموطأ، وأصحاب هذه المدونات هم:

ابن جريج «ت١٥٠هـ»، أبو حنيفة «ت١٥٠هـ»، ابن اسحاق «ت١٥٢هـ»، سعيد بن عروبة «ت١٥٦هـ»، الأوزاعي «ت١٥٧هـ»، سفيان الثوري «ت١٦١هـ»، حماد بن سلمة «ت١٦٧هـ»، الليث بن سعد «١٧٥هـ» مالك بن أنس «ت١٧٩هـ»، ابن المبارك «ت١٨١هـ»، ابن وهب «ت١٩١هـ».

قال الذهبي: ومن هذا يُعرف أنّ عمدة التدوين انّما وقعت في القرن الثالث من الهجرة!!

فإذا ذهبنا إلى القرن الثالث الهجري، عصر النهضة الحديثية، الذي ظهر فيه فجأة أصحاب أصح وأشهر أمهات كتب الحديث عند أهل السنة وهي الكتب الستة، نجد كتاب «الطبقات الكبرى»، لصاحبه محمد بن سعد «ت٢٣٠هـ»، وهو أهم كتاب من كتب تراجم الصحابة ومن جاؤوا بعدهم.

لقد قسم ابن سعد المصادر التي استقى منها تراجمه إلى قسمين: قسم لم يصرّح فيه بمصادره، وهو القسم الأكثر من كتابه، وقسم أفصح فيه عن مصادره وعددها ثمانية، وقد ضعف المحدثون كثيرا منها، وسأذكر منها ثلاثة:

١- محمد بن إسحاق «ت١٥٢هـ»: صاحب كتاب السيرة النبوية، اتهمه بعض أهل الحديث بالزندقة، وأنه أدخل في السيرة النبوية روايات منكرة منقطعة، نقل عنه زياد البكائي «ت١٨٣هـ» أخبار السيرة، ثم نقل ابن هشام «ت١٨٢هـ» عن زياد هذه السيرة بعد أن نقحها واختصرها وسماها «سيرة ابن هشام»!!إن معظم المسلمين يعلمون أن سيرة ابن هشام، «ت١٨٢هـ»، هي المرجع الصحيح لمعرفة السيرة النبوية والأكثر شهرة بينهم، ولكنهم لا يعلمون أن صاحب هذا الكتاب أصلا هو ابن إسحاق، «ت١٥٢هـ»، المتهم من قبل أئمة الجرح والتعديل بالزندقة!!

٢- هشام بن محمد الكلبي الكوفي «ت٢٠٦هـ»: من كبار الأخباريين الشيعة الأُوَل، جرحه أهل السنة لأنه انتقد الأمويين واعتبرهم المسئولين عن الفتنة الكبرى، وأيد العلويين والعباسيين، واعتمد الطبري في تاريخه على روايات الكلبي في الأحداث التي تخدم موقفه من الفتنة الكبرى، ولم ينظر إلى مسألة تشيعه!!

٣- محمد بن عمر الواقدي «ت٢٠٧هـ»: اتُهم بالتشيع، انفرد بروايات وأخبار وأحاديث غير معروفة، بلغ عددها ثلاثين ألف حديث، تباينت آراء المحدثين في درجة توثيقه، واعتبره البعض متروكا لتشيعه، وتبدو ميوله العلوية واضحة في رواياته، فقد أيد علي بن أبي طالب في مواجهته لجيش السيدة عائشة وطلحة والزبير، وكذلك جيش معاوية، وانتقد بشكل حاد سياسة عثمان!!

لقد رمي أئمة الجرح والتعديل الكلبي والواقدي بالتشيع، فمتى علموا بتشيعه؟! الجواب: بعد أن اخترق رواة الشيعة مرويات أهل السنة، وبعد أن دونها المؤرخون والمحدثون في كتبهم، ثم بعد عقود من الزمن اكتشفوا هذا الاكتشاف العظيم!!

لقد أورد الشيخ محمد جعفر الطبسي في كتابه «رجال الشيعة في أسانيد السنة، الصحاح الستة» مئة وأربعين رجلا من رجال الشيعة «١٤٠» دخلوا أسانيد السنة في أصح كتبها مع الإشارة إلى تشيعهم، ومن هؤلاء:

١- سليمان بن صرد الخزاعي «ت٦٥هـ»: ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقال ابن الأثير في أسد الغابة: كان خيّرا فاضلا له دين وعبادة، وقال الذهبي: من شيعة علي ومن كبار أصحابه!!

٢- ظالم بن عمرو الدؤالي «ت٦٩هـ»: ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وعده يحيى بن معين من الثقات، وكذلك ابن حجر، وقال الذهبي: كان من وجوه الشيعة!!

٣ـ فضيل بن مرزوق «ت٧٠هـ»: ورد في صحيح مسلم، وقال سفيان الثوري: ثقة، وقال الذهبي: كان معروفا بالتشيع من غير سبّ!!

فهذه صورة من الصراع المذهبي الذي كان يحكم قلوب رواة الفرق والمذاهب المختلفة قبل عصر تدوين أمهات الكتب الدينية: «تفسير – حديث – فقه – سيرة»!!

فتدبر قوله الذهبي: «كان معروفا بالتشيع من غير سبّ»، لتعلم أن مسألة سب الصحابة، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، مسألة لها جذورها التاريخية، وأن أئمة الجرح والتعديل أقاموا على هذه المسألة توجهاتهم العقدية والتشريعية في الجرح والتعديل!!

إن من فضّل عليّ بن أبي طالب على عثمان قالوا عنه «متشيع»، ومن فضل عليّا على أبي بكر وعمر قالوا عنه «رافضي»، ومن نال من معاوية ومن بني أمية فهو «متشدّد في التشيّع»، ومن نال من أبي بكر وعمر فهو «مغال في الرفض»!!

ووسط هذه البيئة المذهبية التخاصمية، عاش محمد بن إسماعيل البخارى «١٩٤ـ-٢٥٦هـ»، صاحب أصح كتاب من كتب الحديث عند أهل السنة، «صحيح البخاري»، وولد محمد بن يعقوب الكليني عام «٢٥٢هـ»، وهو صاحب أصح كتاب من كتب الحديث عند الشيعة، كتاب الكافي، «ت٣٢٩هـ»!!

هذه هي المنظومة الروائية المذهبية التي ظهر فيها المصدر الثاني للتشريع، الذي يحكم أئمة السلف والخلف على منكره بالكفر، ولكن لماذا هذا الحكم الذي ما أنزل الله به من سلطان؟! الجواب: لحماية هذا المصدر الثاني للتشريع، الذي ظهر ينافس دين الله تعالى ويكون حاكما عليه، بعد أن عجز الشيطان عن اختراق كتاب الله تعالى!!

فإذا سألت معظم علماء المسلمين: هل عقوبة الرجم من الشريعة الإسلامية؟! قالوا: نعم!! هل هي في كتاب الله؟! قالوا: لا!! أليست هذه العقوبة سفكا للدماء بغير حق يُخلد من فعلها في جهنم؟! قالوا: كيف وهي من المصدر الثاني للتشريع الذي حمل «السنة النبوية» التي أوحاها الله لرسوله خارج حدود كتاب الله!! وقد كتبت في هذا الموضوع مقالا بعنوان: «عندما يكون الرجم شريعة يهودية لبست ثوب السنة النبوية»!!

لقد كان الصحابة معاصرين لرسول الله، ومنهم من تولى الخلافة، فلماذا لم يكن تدوين الحديث من أولويات عملهم إذا كان حقا شريعة إلهية واجبة الاتباع؟! وإذا كانت هناك مدونات في القرن الأول الهجري، كما يدعي أهل الحديث، فلماذا لم تأخذ مكانتها العلمية قبل مدونات القرن الثالث الهجري؟!

والسؤال الذي يفرض نفسه دائما: لماذا لم تتول «الخلافة الراشدة»، بمؤسساتها الحكومية المختلفة، مسؤولية تدوين كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ الإسلامي، وأعطت ظهرها لما يفعله المسلمون في دين الله تعالى، كلٌ حسب عقيدته التي تربى عليها، فلا نجد كتاباً من أمهات كتب التراث الديني إلا وصاحبه إن لم يكن إمام مذهب يكون تابعا له مقلدا!!

لقد قام «علم الجرح والتعديل» على أسس وشروط عقدية تحمي كل فرقة بها مروياتها من أن تُخترق من رواة الفرق الأخرى، ومع ذلك حدث الاختراق، ومازال موجودا في الكتب إلى يومنا هذا، ولم يستطع المتأخرون من علماء الحديث أن يحذفوا حرفا منه، لأنهم لو فعلوا هدموا مكانة المتقدمين العلمية، ولذلك اكتفوا بالتنبيه في هذه الكتب على أن هذا الراوي صفته كذا وكذا، فهل هذا العلم المسمى بعلم الحديث يمكن أن يحمل مرويات «السنة النبوية» التي يكفر منكرها؟!

إنه أمر طبيعي أن يكون تراث الأمم ظنياً في ثبوته عن أصحابه، وظنياً في دلالة مروياته، فلا توصف مروياته بالقطعية بأي حال من الأحوال، أما دين الله تعالى فقطعي الثبوت عن الله، فلماذا يصر أئمة السلف أن يجعلوا الظني الثبوت عن البشر حاكما على القطعي الثبوت عن الله، والله تعالى يقول:

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

معلومات:

* ابن جريج: ضعف العلماء رواياته، أباح زواج المتعة استنادا إلى فقهاء مكة ومذهب شيخه عطاء، قال الشافعي: استمتع بتسعين امرأة، وقال الضبي: وتزوج ستين امرأة، وقيل رجع عن المتعة في آخر حياته.

* الزندقة: تعني الإلحاد والابتداع وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، يرمي بها كل إمام من أئمة الفرق المختلفة المخالف له، وهي تعني عند أئمة الجرح والتعديل الطعن الشديد في عدالة الراوي من جهة دينه.

ree


(387) 15/10/2015 (أهل السنة والجماعة بايعوا عليا حتى خرج عليه معاوية وقاتله .. فبايعوه)

 عدد المشاهدات : 227

أهل السنة والجماعة بايعوا عليا حتى خرج عليه معاوية وقاتله .. فبايعوه!

إن ما أنقله من أحداث تاريخية لا يعني قبولي أو رفضي لها، فالتاريخ عندي تراث بشري لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وإنما أضعه أمام أنصار «الفُرقة والمذهبية»، ليقفوا على حقيقة تدينهم الوراثي المذهبي، وما حملته مصادرهم الثانية للتشريع من فتن ومصائب، تقتضي أن يخلعوا ثوب هذا التدين المذهبي!

ولقد حرصت أن أنقل هذه الأحداث من أمهات كتب المؤرخين الأُول، وهم: ابن قتيبة «توفي أواسط القرن الثالث الهجري»، البلازري «ت٢٧٩هـ»، اليعقوبي «ت٢٩٢هـ»، الطبري «ت٣١٠هـ».

لقد شهدت خلافة علي بن أبي طالب ثلاث معارك حربية راح ضحيتها آلاف القتلى من الجانبين، وكانت سببا في تعميق أزمة التفرق والتخاصم بين المسلمين، وظهور فتاوى التكفير واستباحة الدماء بغير حق، الأمر الذي اقتضى إسقاط العدالة عن كل من شاركوا فيها، حسب شروط علماء الجرح والتعديل، وهذه المعارك هي:

موقعة الجمل: بين علي بن أبي طالب، ابن عم النبي وصهره، وأم المؤمنين عائشة، زوج النبي وأكثر رواة الحديث، ومعها طلحة والزبير.

معركة النهروان: بين علي والخارجين عليه، الذين عُرفوا بعد ذلك بفرقة الخوارج.

موقعة صفين: بين علي ومعاوية ذي النسب الأموي، الذي حافظ على ولايته للشام عشرين سنة.

لقد اشتعلت الحرب، وقُتل آلاف المسلمين في موقعة الجمل وحدها، منهم طلحة والزبير، وانتصر خليفة المسلمين علي، وتعامل مع المتمردين بحكمة، وأعاد السيدة عائشة إلى المدينة، ونجح في توحيد الصفوف باستثناء جبهة الشام بسبب وقوف «حركة القراء» بجوار معاوية، فقد انضم إلى جيشه أربعة آلاف من القراء بقيادة عبيد الله بن عمر بن الخطاب!

لقد قامت «حركة القراء» بدور خطير في أحداث الفتن الكبرى، وبلغ عدد المشاركين منها في معركة «صفين» أربعة آلاف قارئ، من مجموع عشرين ألفا في معسكر الطرفين، فما هي «حركة القراء»؟!

القراء: هم قارئوا القرآن ومعلموه، وكان يُنظر إليهم باعتبارهم أهل الورع والتقوى والصلاح من صحابة رسول الله، وقد أخذت هذه الطبقة تزداد يوما بعد يوم حتى أصبحت حركة منظمة «غير رسمية» يقودها مالك بن الحارث الملقب بالأشتر، وأصبح لها نفوذ في البلاد، الأمر الذي جعل ولاة الأمور يقربون القراء إليهم، ويشركونهم في صنع القرار السياسي!

لقد قامت «حركة القراء» بأدوار خفية لتحقيق مصالح سياسية، وكانت تتلوّن باللون السياسي الذي ترى فيه مصلحتها، فقد استغلت فرصة خروج سعيد بن العاص والي الكوفة لمقابلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وقررت منعه من دخول الكوفة، وعينوا مكانه أبا موسى الأشعري، ساعدهم في ذلك عبد الله بن مسعود خازن بيت مال الكوفة، مما اضطر عثمان إلى قبول هذا الوضع مكرها!

ولقد استغلت «حركة القراء» حرق عثمان المصاحف التي كانت موجودة في أيدي القراء، والإبقاء على نسخة واحدة بقراءة واحدة هي لغة قريش، في التحريض ضده، خصوصا بعد أن رفض عبد الله بن مسعود تسليم مصحفه لعثمان، ووقف أبو موسى الأشعري معهم!

لقد اعتبرت «حركة القراء» أن ما يفعله عثمان بدعة مخالفة لسنة رسول الله وخليفتيه، فقد كان في الكوفة قُراء ينسبون قراءاتهم إلى ابن مسعود، وفي البصرة والشام أيضا قراؤها، فشعرت الحركة أن جمع عثمان المسلمين على رسم واحد للقرآن يسحب نفوذهم الديني من بين المسلمين، وبالتالي سلطتهم الشرعية على الخليفة، باعتبارهم الممثلين لرسول الله في العمل بكتاب الله وسنة رسوله!

ولكن اللافت للنظر، والذي يكشف الدور السياسي المتلون الذي كانت تقوم به «حركة القراء»، أنها أشاعت بعد مقتل عثمان أن عليا كان وراء مقتله، وعندما علمت السيدة عائشة ذلك، وكانت وقتها في مكة، طلبت القصاص من قتلة عثمان، فانقسمت البلاد إلى قسمين: الأول: وقف مع السيدة عائشة بقيادة طلحة والزبير، والثاني: وقف مع علي بن أبي طالب باعتباره الخليفة الشرعي.

لقد أخذ علي بن أبي طالب البيعة بإجماع أهل المدينة، وحدث ذلك بصورة سريعة لحسم الخلافات والصراعات والفتن التي ظهرت بعد مقتل عثمان، واستند أهل المدينة في هذه البيعة إلى نتائج مجلس الشورى الذي كان قد اختاره عمر بن الخطاب قبل موته، والتي أسفرت عن أن يكون الاختيار بين عثمان وعلي، فتولى عثمان الخلافة وجاء الدور على عليّ.

وأمام هذه التحديات، ولإحكام السيطرة على البلاد، اضطر علي بن أبي طالب إلى الاستعانة بـ «حركة القراء» ونجح في عزل أبي موسى الأشعري واسترداد الكوفة والسيطرة عليها، ولكن الفريق المعارض بقيادة السيدة عائشة وطلحة والزبير، أعلنوا رفضهم بيعة علي حتى يسلمهم القراء الذين شاركوا في التحريض على قتل عثمان!

وكانت هناك طائفة يطلق عليها «أهل الجماعة»، تنادي بطاعة الإمام الذي تؤول إليه السلطة، ووجوب المسارعة إلى بيعته وتحريم الخروج عليه، حتى وإن فسد وطغى، فهؤلاء انضموا إلى «حركة القراء» وسارعوا إلى بيعة عليّ، وهؤلاء سيبايعون بعد ذلك معاوية الذي خرج على عليّ وقاتله، وهم الذين أطلق عليهم معاوية «أهل السنة الجماعة» بعد أن أصبح خليفة المسلمين!

والسؤال: هل كان لقراء القرآن، أهل الورع والتقوى والصلاح من صحابة رسول الله، دور في حفظ كتاب الله، ووصوله إلينا سالما من التحريف والتبديل، كما يدعي أنصار الفرقة والمذهبية؟!

الجواب: إن تاريخ «حركة القراء»، الذي أشرنا إلي جانب منه، خير شاهد على فاعلية حفظ الله تعالى كتابه دون تدخل أحد من البشر، ولو كان قراء القرآن هم الذين حفظوه لوصل إلينا كما وصلت مرويات الرواة المذهبية التكفيرية المتخاصمة!

لقد أصبح الموقف بين الفريقين صعبا، فالسيدة عائشة وأنصارها لن يبايعوا عليا، وعليّ لن يُسلمهم من تتهمهم السيدة عائشة بقتل عثمان حتى ينتهي التحقيق في هذه الواقعة، ولكن وبسبب تحريضات أصحاب المصالح السياسية الخاصة، انزلق الفريقان في عمل عسكري: جيش تقوده زوج النبي، والآخر يقوده خليفة المسلمين وابن عم النبي!

ولقد استغل الوضّاعون والمفتون المغرضون هذا الصراع السياسي الطائفي في وضع الأحاديث المفتراة على الله ورسوله، والإفتاء بشرعية الخروج على خلافة عليّ، وفتاوى أخرى تدعم هذه الشرعية وتطالب بمحاربة الخارجين عليها! لقد أخرج البخاري في صحيحه: «كنا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم».

نلاحظ أن هذه الرواية ذكرت الخلفاء حسب ترتيبهم التاريخي، ولم تذكر الخليفة الرابع، في الوقت الذي يخبر فيه الراوي عن واقعة حدثت في زمن النبي، «كنا في زمن النبي»، أي قبل ظهور الخلفاء أصلا!

ألا يُشتم من ذلك رائحة الوضع، وأن الفريق الأول الذي تقوده السيدة عائشة ومعها الأمويون، أرادوا بهذه الرواية إخراج عليّ بن أبي طالب من المفضلين الراشدين، وإباحة الخروج عليه في المعارك الثلاث السابق ذكرها؟!

ويروي البخاري عن عمار بن ياسر قوله: «إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي».

يقول ابن حجر عند شرحه هذه الرواية: «مراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي، وأن عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام، ولا أن تكون زوجة النبي في الجنة، فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق»!

ونحن نتحدث عن مدى تحقق شرط العدالة في رواة الأحاديث المنسوبة إلى النبي، فإن قول ابن حجر إن الصواب كان مع علي اعتراف منه بأن السيدة عائشة أخطأت، وعندما يترتب على هذا الخطأ سفك دماء آلاف المسلمين في المعركة التي قادتها، وهي معركة الجمل، فإن ذلك يسقط عدالتها حسب شروط علماء الجرح والتعديل، ولن يشفع لها أنها زوج النبي!

فإذا علمنا أن عمار بن ياسر كان يقاتل في جيش عليّ، وأن هناك رواية في البخاري تقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية»، واعتبرنا أن هذه الرواية حديثا نبويا ووحيا من الله تعالى، كما يدعي المحدثون وأئمة السلف والخلف، إذن فقد حكم هذا الحديث على جيش السيدة عائشة بأنه جيش البغاة، وبذلك تسقط عدالة كل المشاركين فيه من الصحابة، استنادا إلى صحيح «السنة النبوية» التي نقلها أصح كتاب في الحديث عند أهل السنة والجماعة!

فإذا ذهبنا إلى رواية أخرى أخرجها البخاري في باب الفتنة التي تموج كموج البحر، عن أبي بكرة، قال: «لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي أن فارسا ملّكوا ابنة كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»!

وفي هذه الرواية، ينقل لنا أبو بكرة من مسرح الأحداث «أيام الجمل» حديثا جعله يمتنع عن القتال في صف عائشة، ثم تأكد له صحة هذا الحديث عندما انتصر جيش علي!

ألا يُشتم من ذلك رائحة الوضع الشيعي، الذي اخترق أمهات كتب أهل السنة على حين غفلة من أهلها، وهو كثير؟! ألم تأت هذه الرواية ضمن منظومة الروايات المذهبية التي تم توظيفها لخدمة أغراض سياسية تحت رعاية «السنة النبوية» المذهبية؟!

إننا لو صدقنا رواية البخاري، واعتبرناها وحيا من الله أسقطنا عدالة كل من اشتركوا مع السيدة عائشة في حرب عليّ، لأنهم قوم لا يفلحون! ولو كذبناها أسقطنا عدالة الفريقين، لأن الله تعالى يقول:

«وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»!

معلومات:

أبو بكرة: اسمه نفيع بن الحارث الثقفي أبو بكرة، كان من فقهاء الصحابة، مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان بالبصرة «ت ٥٢هـ»، قال الحسن البصري: لم ينزل البصرة أفضل من أبي بكرة، وعمران بن حصين.

ree

(388) 19/10/2015 (الفئة الباغية التي لا نعرف من هي بالضبط ؟)

 عدد المشاهدات : 223

لقد كان الناس على منهج الله وشريعته أمة واحدة، ففتنهم الشيطان فاختلفوا في الدين، وبغى بعضهم على بعض، فأرسل الله النبيين لهدايتهم وردهم إلى صراطه المستقيم، يقول الله تعالى:

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

تدبر قوله تعالى:«وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ»، أي أن الذين اختلفوا في الكتاب هم أنفسهم الذين أوتوا الكتاب، وقد اختلفوا: «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ»، لماذا؟! «بَغْياً بَيْنَهُمْ»!!

أما أن يتعدى البغي الخلاف الفكري والعقدي إلى سفك الدماء بغير حق، فإن المصيبة أكبر!!

إن الله تعالى عندما قال عن الفئة الباغية: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»، فذلك لبيان دور السلطة الحاكمة عند نشوب تقاتل بين طائفتين في البلاد، وقد سبق بيان ذلك في مقال بعنوان: «عند السلفیین .. اقتل أخاك المسلم وادخل الجنة».

يذكر المؤرخون أن الزبير قال لعمار بن ياسر في موقعة الجمل: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ ويضربه عمار بالرمح دون أن يدخله في صدره ويقول له: لا يا أبا عبد الله. ويخشى الزبير أن يكون ممن وصفهم الرسول بالفئة الباغية حين قال لعمار: «وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»، فيخشى الزبير أن يكون من هذه الفئة الباغية، ويريد أن يكفّ عنه، ولم يقتل أحدهما الآخر.

إن هذه الرواية لم تحدد من هي الفئة الباغية، لذلك فإن «الفئة الباغية» التي قتلت عمار ليست إلا قتلة عثمان، وهي التي سفكت الدماء في معركة الجمل، وفي صفين، وبعدها من مصائب وكوارث، فليست القضية في قتل شخص عمار!!

ولنبدأ قصة البغي من بدايتها: لماذا لم يواجه خليفة المسلمين عثمان بن عفان الفئة الباغية، والفتنة المشتعلة خارج قصره، واكتفى بالصبر، ولم يأمر جيشه بالتدخل لفك حصاره؟! إذن فنحن أمام تصرفات غير مفهومة، وغير مبررة شرعا، ولذلك نحتاج أن نسأل:

أولا: ألا يتحمل خليفة المسلمين وجيشه، وكبار الصحابة الذين جلسوا في بيوتهم خوفا من المشاركة في هذه الفتنة، مسؤولية سفك دماء آلاف الصحابة بسبب سوء إدارة هذه الأزمة، التي قال عنها شيخ السلفيين ابن تيمية: «حتى قُتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين»؟!

إذن فمن الذي سيتحمل مسؤولية هذه الدماء التي سفكت، والتي امتدت نيران فتنتها إلى ما بعد مقتل عثمان؟! وكيف يقيم علماء الجرح والتعديل مرويات السنة النبوية على قاعدة «عدالة الصحابة»، وقد مس معظمهم الجرح في هذه الفتن الكبرى؟!

ثانيا: أين كانت الأحاديث المنسوبة إلى النبي، وقت حصار خليفة المسلمين عثمان، التي تأمره بقتال الفئة الباغية، وتأمر المسلمين بالوقوف في صف إمامهم، والتي دوّنها المحدثون في كتبهم في عصر التدوين، كسنة نبوية واجبة الاتباع؟!

لماذا لم يطع خليفة المسلمين وكبار الصحابة رسول الله في هذه الأحاديث التي كانت متداولة على ألسنة الرواة في عصرهم، وإلا فكيف وصلت إلى عصر التدوين؟!

أم أن هذه الأحاديث وُضعت لمواجهة إشكاليات سفك الدماء عمدا مع سبق الإصرار والترصد، ثم دُونت في أمهات الكتب كسنة نبوية، كلٌ حسب وجهة نظره في الدفاع عن موقفه وتبرئة ساحته، وذلك لقطع الطريق على المشككين في عدالة الصحابة أو في عصمة الأئمة؟!

ثالثا: لماذا لم تصدر فتوى من كبار الصحابة بكفر الطائفة الباغية التي كانت وراء فتنة مقتل عثمان، هذه الفتنة التي امتدت نيرانها إلى يومنا هذا؟! هل لأن هناك من كبار الصحابة من اتهموا بإشعال نار هذه الفتنة، ثم راحوا بعد ذلك يطالبون بدم عثمان، فحدثت معركة الجمل، كطلحة والزبير؟!

روى الطبري في تاريخه عن علقمة قال، قلت للأشتر: قد كنت كارها لقتل عثمان فكيف قاتلت يوم الجمل «أي مع جيش علي»؟! قال: إن هؤلاء بايعوا عليا ثم نكثوا عهده، وكان الزبير هو الذي حرك عائشة على الخروج فدعوت الله أن يكفينيه، فلقيني كفه بكفه فما رضيت لشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه ضربة فصرعته!!

رابعا: اتفق البخاري ومسلم على تحريم الخروج على الإمام في عدة روايات، منها:

– من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية!!

– ومن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية!!

– ومن كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية!!

إذن فالذين خرجوا على خليفة المسلمين عثمان بن عفان بغاة ماتوا ميتة جاهلية، فهل اطلع علماء الجرح والتعديل، أتباع الفرق الإسلامية المختلفة، على قلوب من شاركوا في فتنة مقتل عثمان، أو تخاذلوا عن نصرته، فعلموا أنهم تابوا وأنابوا إلى ربهم، لذلك شهدوا لهم بالعدالة؟!

وهل يقبل الله توبة القاتل عمدا مع سبق الإصرار والترصد من غير قصاص؟! وهل شهد التاريخ أن عليا اقتص من قتلة عثمان؟! وهل قامت معارك الفتن الكبرى، التي قتل فيها آلاف الصحابة، من أجل البحث عن قتلة عثمان لقتلهم؟!

خامسا: يروي البخاري في موضعين من صحيحه، الأول: كتاب الصلاة، والثاني: كتاب الجهاد، رواية منسوبة إلى النبي تقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»!!

ألا تعتبر هذه الرواية بيانا نبويا يتهم الفئة التي تحارب جيش علي في معركة الجمل «وفيه عمار»، بارتكاب كبيرة من الكبائر لقيامها بدعوة جيشه إلى النار، وعلي ومن معه يدعونهم إلى الجنة، حسب ما ورد في هذه الرواية؟!

وهل يمكن أن تشمل هذه الرواية أيضا معاوية في قتاله لعلي في معركة صفين، والذي راح ضحيتها عدد كبير من كبار الصحابة وأبنائهم؟!

لقد اختلف المحدثون حول جملة وردت في هذه الرواية هي: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، لماذا؟! لأن هذه الجملة تبين مفهوم كلمة البغي التي وردت في الجملة قبلها، وتجعل البغاة في النار، وبذلك تسقط عدالة كل من شاركوا في أحداث الفتن الكبرى!!

انظر ماذا قال ابن حجر في فتح الباري: «ويظهر لي أن البخاري حذفها عمداً، وذلك لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد الخدري أعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي، فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بيّنت ذلك ليست على شرط البخاري… »، إلى آخر ما ذكر!!

وقال الحميدي في «الجمع بين الصحيحين»: «ولعلها لم تقع للبخاري أو وقعت فحذفها عمداً»!!

ثم انظر قول النووي في شرحه على صحيح مسلم: «قال العلماء هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً، والطائفة الأخرى «بغاة»، لكنهم مجتهدون، فلا إثم عليهم، إلى أن قال: «وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله من أوجه منها: أن عماراً يموت قتيلاً، وأنه يقتله مسلمون، وأنهم بغاة، وأن الصحابة يتقاتلون، وأنهم يكونون فرقتين، باغية وغيرها، وكل هذا قد وقع مثل فلق الصبح، صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»!!

انظر وتدبر قول النووي جيدا، وكيف كان أئمة السلف يقدسون هذه الروايات، الظنية الثبوت عن الرواة أنفسهم، بدعوى أنها وحي يوحى!!!

سادسا: ثم يأتي الحافظ ابن كثير فيرفض تكفير البغاة وإن سفكوا الدماء عمدا مع سبق الإصرار والترصد، فيقول في «البداية والنهاية»:

«ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية «بغاة» تكفيرهم، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم وإن كانوا «بغاة» في نفس الأمر، فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحديث بعد «تقتلك الفئة الباغية»، «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة»، فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله، فإنه لم يقلها إذا لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم».

فها هو ابن كثير يثبت صحة رواية «تقتلك الفئة الباغية»، وينفي صحة الزيادة «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة»، وعلى كل حال فهذه الزيادة ليست موضوعنا، وإنما انظر إلى قوله: «فإنه (يقصد الرسول) لم يقلها إذا لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم»!!

إذن فإثبات حجية أقوال الرسول تتوقف على طرق نقل الرواة لها، وطبعا هذه مسألة مذهبية تتوقف على توجهات الرواة العقدية والتشريعية!!

وهكذا كانت تُصنع الأحاديث المنسوبة إلى النبي عند تدوين المحدثين الأُول لها، ثم يُعاد تنقيتها وفك ألغازها بعد قرون على أيدي جهابذة علم الحديث، وذلك على مستوى الفرق الإسلامية المختلفة!!

والسؤال: عندما خرج خليفة المسلمين علي بن أبي طالب إلى موقعة الجمل لمواجهة الفئة الباغية بقيادة السيدة عائشة وحدثت المعركة، وسفكت الدماء بغير حق، ألم يستخدم حقه الشرعي في ردع هذه الفئة الخارجة على إمامته، حسب ما نصت عليه الأحاديث المنسوبة إلى النبي، والمتعلقة بتحريم الخروج على الإمام، ووجوب قتال الفئة الباغية؟!

إذن، وبصرف النظر عن الخلاف حول زيادة جملة «الدعوة إلى النار» إلى جملة «تقتلك الفئة الباغية»، وبصرف النظر عن أزمة التخاصم بين السنة والشيعة، فإن السؤال المنطقي الذي سينطلق من قاعدة علم الجرح والتعديل:

ألا يعتبر كل الصحابة الذين قاتلوا في جيش السيدة عائشة بغاة لا تُقبل مروياتهم؟!

لقد وقعت هذه الفتن، وهذا البغي، في بداية القرن الأول الهجري، وشارك فيها كبار الصحابة، وكانت بين جيوش مسلمة، فلماذا غض أئمة الجرح والتعديل الطرف عن الصحابة الذين شاركوا فيها؟!

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

معلومات

– البغي: في اللسان العربي له أكثر من معنى، ومن معانيه التعدي على حقوق الآخرين، والتخاصم في الدين القائم على اعتزاز كل صاحب مذهب بمذهبه، وتحميل نصوص الشريعة غير محاملها بهدف إفساد رأي الآخرين!!


ree

(389) 29/10/2015 (أئمة السلف فسروا « السلف » في القرآن خطأ واعتبروها مذهبا)

 عدد المشاهدات : 197

لقد ذُكرت كلمة «السلف»، في القرآن الكريم في موضع واحد من سورة الزخرف، وهو قوله تعالى عن هلاك فرعون وقومه: «فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ». لقد جعل الله مصير فرعون وقومه «سَلَفاً» ومثلا، ليأخذ الخلف منه العبرة، وليعلموا أن انتقام الله سينالهم إن هم ساروا في طريقهم، وعملوا عملهم فهل أخذ المسلمون العبرة، وسلكوا طريقا غير طريق سلفهم الطالح،

«الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!!

عندما تحدث القرآن عن السلف الصالح، ذكر إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه، وأمر المسلمين أن يتأسوا بهم في ملة «الوحدانية»، فقال الله تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ»، ثم بيّن بعدها موضع الدرس فقال: «إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

لقد ضرب إبراهيم والذين آمنوا معه المثل الأعلى في الوحدانية، قال تعالى في سورة البقرة الآية ١٣٣:

«أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

ثم بيّن الله تعالى أن الناس لا يسألون عن أعمال سلفهم الصالح أو الطالح، موحدين أم مشركين، وإنما يسألون عن أعمالهم هم، فقال تعالى الآية ١٣٤:

«تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، ولأهمية هذا البيان كرر هذه الآية مرة أخرى «الآية ١٤١».

إن قوله تعالى «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ» خبر عن أمة مضت، أي خلا منها المكان والزمان، وعندما يذكرها القرآن في هذا السياق فذلك لبيان أن من خلت منهم الأرض «الموتى»، لن ينفعوا من عليها «الأحياء»، إلا في حدود ما جاءت ببيانه الرسالات الإلهية، وليس من خلال المرويات والمدونات التاريخية، لذلك عقب الله بقوله «وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

هذا عن تحرير مصطلح «السلف»، حسب وروده في السياق القرآني واللسان العربي، فكيف استطاع أئمة السلف تحريفه وتوظيفه لخدمة توجهاتهم المذهبية؟!

لقد ظهرت «السلفية» في القرن الثالث الهجري على يد أحمد بن حنبل «ت٢٤١هـ»، ثم قام ابن تيمية بعد ما يقرب من خمسة قرون بإحيائها وتجديدها «ت٧٢٨هـ»، وخلال هذه القرون وإلى اليوم، عاش المسلمون داخل هذه المنظومة السلفية، يفهمون الدين كما فهمه السلف، يأكلون ويشربون كما فعل السلف، ويختلفون كما اختلف السلف، ويتخاصمون كما تخاصم السلف، ويسفكون الدماء بغير حق كما فعل السلف!!

لقد تشكلت المرجعية السلفية لفرقة أهل السنة والجماعة على مرحلتين: الأولى: على يد أحمد بن حنبل «ت٢٤١هـ»، والثانية: على يد أبي الحسن الأشعري «ت٣٢٤هـ»، ومنذ القرن الثالث الهجري وأهل السنة والجماعة لا يعرفون شيئا عن الإسلام ملة وشريعة، إلا من خلال المذهب الحنبلي أو الأشعري!!

ولكن المذهب الحنبلي لم يستطع الانتشار لأنه كان أكثر المذاهب تشددا وإشعالا لأزمة التخاصم والتكفير بين المسلمين، استنادا إلى اجتهادات أئمته المغلقة والمفرطة، خصوصا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى جاء عصره الذهبي عندما تبناه محمد بن عبد الوهاب النجدي «ت ١٢٠٦هـ»، باعث السلفية المعاصرة، الذي استطاع توفير الأموال الطائلة التي ساعدت على انتشار المذهب الحنبلي في البلاد حتى أصبح هو الممثل الرسمي للإسلام!!

لقد اختلف أئمة السلف أنفسهم في تعريف من هم «السلف»، فمنهم من قال هم رسول الله وصحبه، ومنهم من أضاف إليهم الخلفاء الراشدين والتابعين، ومنهم من قال هم أئمة القرون الثمانية الأولى، ولكن الحنابلة حصروا «السلفية» في أئمة القرون الهجرية الثلاثة الأولى، استنادا إلى رواية البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».

قال النووي في شرح الحديث: الصحيح أن قرنه الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم.

لقد اعتبر الحنابلة أن وفاة أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري «ت٢٤١هـ»، يعني أن مذهبهم هو خير المذاهب العقدية، باعتبار أن الحنفية والمالكية والشافعية مذاهب فقهية، فلم يكونوا يعلمون أن هناك من سيأتي في القرن السابع الهجري ليحيى مذهبهم ويجدده ويكون هو الأكثر تأثيرا في عقائد المسلمين وتطرفها، وهو ابن تيمية «ت ٧٢٨هـ»، ثم من بعده محمد بن عبد الوهاب «ت ١٢٠٦هـ»!!

فلماذا لم ترتبط «السلفية» بمذهب أبي حنيفة «٨٠ ـ١٥٠هـ»، أو بمذهب مالك «٩٣-١٧٩هـ» وهو إمام دار الهجرة، أو بمذهب الشافعي «١٥٠-٢٠٤هـ»، الذي عاصر أحمد بن حنبل «١٦٤-٢٤١هـ»، وهي ليست مذاهب فقهية فقط وإنما تكلمت أيضا في العقائد، وقد عدّها البعض من المذاهب الكلامية التي تبحث في صفات الله؟!

لقد ذكر البغدادي، في كتابه «الفرق بين الفرق»، أن أول المتكلمين من أهل السنة هما أبو حنيفة والشافعي، اللذان تحدثا عن القضاء والقدر والجبر والاختيار، وعن الذات الإلهية، وغيرها من القضايا الكلامية، نقلا عن بعض الصحابة والتابعين!!

فإذا أردنا اليوم تحرير مصطلح «السلفية» من كل لبس أو تحريف مذهبي شابه، فهل نستطيع؟!

إننا أمام حديث متفق عليه بين البخاري ومسلم، أي في أعلى درجات الصحة، تستند إليه «المنظومة السلفية» في خيرية أئمة القرون الثلاثة الأولى على سائر الأئمة، ولكن «السلفية» التي تربى عليها المسلمون من أهل السنة، هي سلفية ابن تيمية «ت ٧٢٨هـ»، وسلفية محمد بن عبد الوهاب «ت ١٢٠٦هـ»، وهما خارج القرون الثلاثة الأولى، فما موقف أنصار ابن تيمية والوهابية من رواية البخاري ومسلم؟!

وهل هذه الخيرية التي خص بها الرسول القرون الثلاثة الأولى كانت قاصرة على فرقة أهل السنة والجماعة، وبذلك يكون هذا الحديث دليلا صريحا على أن الفرقة الناجية هي فرقة أهل السنة بقيادة منظومتها «السلفية»، والباقي في النار؟!

ثم كيف تشمل الخيرية القرن الأول الهجري، وقد حدثت فيه الفتن الكبرى، التي شارك فيها الصحابة، وسفكت فيها الدماء بغير حق، وقام فيه الملك العضوض بقيادة الخلافة الأموية؟!

لقد ظهرت المذاهب العقدية المتصارعة في القرون الثلاثة الأولى، واحتدم الصراع بينها، فأحمد بن حنبل «ت٢٤١هـ» يتهم أبا حنيفة «ت١٥٠هـ» بالقول بخلق القرآن، وكل من قال بخلق القرآن فهو جهمي، وكل جهمي في نظر الحنابلة كافر!!

وكان أحمد بن حنبل يؤمن بوجوب طاعة الحكام وإن فجروا وظلموا، وهو موقف السلفية بشكل عام، فكان يُحرم الخروج على خلفاء عصره من العباسيين، وهذا ما جعله يُخرج أبا حنيفة من أئمة السلف، لأنه لم يقبل الخضوع لأبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس «ت١٥٨هـ»، ووقف مع آل البيت في مواجهة ظلم المنصور، وعندما دعاه ليتولى منصب قاضي القضاة امتنع، فحبسه إلى أن توفي في بغداد عام١٥٠هـ!!

ولقد كان للحنابلة مواقف تخاصمية تكفيرية على مر العصور، فقد كفروا الأشاعرة، ورفضوا المذهب المالكي ونهوا السلفيين عن تقليده، وسبوا الشافعي وطعنوا في إمامته وترصدوا لأتباعه في الطرقات، وما حدث من فتن ببغداد بين الشافعية والحنابلة، وبين الحنابلة والأشعرية وما يعرف بفتنة ابن القشيري «الأشعري»، التي وقعت في القرن الخامس الهجري.. إلى آخر ما هو مفصل في تاريخ الفرق والمذاهب العقدية.

سأل أحد المصلين الشيخ عبد الله الهروي «ت٤٨١هـ»، وهو أحد شيوخ الحنابلة، وصاحب كتاب «ذم الكلام»: هل تجوز الصلاة خلف صاحب عقيدة مخالفة لأهل السنة والجماعة كالأشعري مثلا؟!

الجواب: «الحاصل أن الصلاة تصح خلف مبتدع بدعة لا تخرجه عن الإسلام، أو فاسق فسقا ظاهرا لا يخرجه من الإسلام، لكن ينبغي أن يولى صاحب السنة»!!

انظر إلى قوله: «لكن ينبغي أن يولى صاحب السنة»، أي أن الأشعري ليس من أهل السنة، لأنه في نظر السلفية مبتدع!!

لقد اعتبر ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية الأشعري جبريا، ثم جاءت الأشعرية فأفتوا بسجن ابن تيمية، لأنه ذهب إلى التجسيم والتشبيه، وأصدروا فتوى أن من كان على دين ابن تيمية فقد حل دمه!!

فهل يعقل أن تكون القاعدة الأساس التي قام عليها تدين معظم المسلمين اليوم هي هذه المنظومة السلفية بقيادة أحمد بن حنبل «١٦٤-٢٤١هـ»، ويقابلها المنظومة الأشعرية بقيادة أبي الحسن الأشعري «٢٦٠ -٣٢٤هـ»، والمنظومتان ضربتا أسوأ المثل في تاريخ الصراع العقدي المذهبي؟!

لقد أصبحت الحدود الجغرافية للبلاد حدودا دينية سلفية، تقتل على الهوية، ويحافظ السلفيون على هذه الحدود السلفية أكثر من محافظة الأنظمة الحاكمة على حدودها الجغرافية، وعلى الرغم من أن دساتير البلاد تنص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، فإن التابعين للمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية في البلاد، العاملين بالكتاب والسنة، أعضاء في هذه المنظومة السلفية المتطرفة!!

فمتى ستتعلم الشعوب الدرس، وتفهم أن الإسلام الذي كان عليه رسول الله محمد، عليه السلام، لم يكن إسلام ابن حنبل، ولا إسلام ابن تيمية، ولا إسلام ابن عبد الوهاب؟!

«فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ».


ree

(390) 2/11/2015 (شبهات مشروعة بشهادة المؤرخين الأوائل)

 عدد المشاهدات : 190

لقد ذكرت في مقال سابق بعنوان «أهل السنة والجماعة بايعوا عليا حتى خرج عليه معاوية وقاتله .. فبايعوه! »: «إن ما أنقله من أحداث تاريخية لا يعني قبولي أو رفضي لها، فالتاريخ عندي تراث بشري لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وإنما أضعه أمام أنصار «الفُرقة والمذهبية»، ليقفوا على حقيقة تدينهم الوراثي المذهبي، وما حملته مصادرهم الثانية للتشريع من فتن ومصائب، تقتضي أن يخلعوا ثوب هذا التدين المذهبي».

وقلت: «ولقد حرصت أن أنقل هذه الأحداث من أمهات كتب المؤرخين الأُول، وهم: ابن قتيبة «توفي أواسط القرن الثالث الهجري»، البلازري «ت٢٧٩هـ»، اليعقوبي «ت٢٩٢هـ»، الطبري «ت٣١٠هـ».

لذلك سأكتفي في مقالي هذا بذكر الأحداث دون الإشارة إلى مرجعيها، وذلك لكثرتها، وثانيا لعلمي أن القارئ الكريم سيسهل عليه التعرف على ما إذا كانت مرجعية الخبر سنية أم شيعية، مع ملاحظة أن الصحيح عند السنة ضعيف عند الشيعة، والعكس صحيح!

هناك إشكالية فرضتها الأسباب التي دعت إلى إحداث الفتن الكبرى، بداية بمقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وتهاون جيشه وكبار الصحابة في فك حصاره الذي دام أربعين ليلة، وانتهى بقتله، وهي:

لقد كان للسيدة عائشة مكانة كبيرة في قلوب الصحابة، وشخصية قوية يُسمع لها ويُستجاب لأمرها، حتى أنها استطاعت أن تجهز جيشا صمد أمام جيش خليفة المسلمين علي بن أبي طالب لمدة عشرة أيام، فلماذا لم تفعل ذلك لفك الحصار عن خليفة المسلمين عثمان بن عفان؟! وأين كانت السيدة عائشة خلال فترة هذا الحصار؟!

لقد علمت السيدة عائشة بمقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان وهي عائدة من مكة متجهة إلى المدينة، وذلك عندما لقيها عبيد بن أم كلاب فسألته عن أحوال المدينة فأخبرها بمقتل عثمان، فقالت:

«ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالإجماع، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، واجتمعوا إلى علي بن أبي طالب، فقالت: والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك، ويحك انظر ما تقول؟!».

قال: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين، فولولت فقال لها: ما شأنك يا أم المؤمنين والله لا أعرف بين لابتيها أحدا أولى بها منه، ولا أحق، ولا أرى له نظيرا في جميع حالاته فلماذا تكرهين ولايته؟!

صاحت أم المؤمنين: ردوني ردوني، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قُتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه، فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟! فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت، فلقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولى الأخير خير من قولى الأول.

لقد عادت أم المؤمنين إلى مكة، واجتمع إليها الناس، وقالت لهم: «يأيها الناس إن عثمان قتل مظلوما والله لأطلبن بدمه»، وفي رواية: «يا معشر قريش إن عثمان قد قتل، قتله علي بن أبي طالب، والله لأنملة، أو قالت لليلة، من عثمان خير من علي الدهر كله».

وكان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام قد سألا عليا أن يوليهما البصرة والكوفة فرفض، فكان ذلك من أسباب خروجهما عليه، فبايعاه تقية حتى يسمح لهما بالخروج من المدينة، فيتمكنا من السفر إلى مكة واللحاق بأم المؤمنين عائشة!!

لقد نكث طلحة والزبير بيعتيهما لعي بعد أن سمح لهما بالخروج، وأصبحا من كبار قادة جيش السيدة عائشة، ولما علم عليّ بموقفهما قال: إنه قد بايع أبا بكر مرغما، ومع ذلك فقد ألزم نفسه بشروط هذه البيعة، ولم ينكث بيعته أبى بكر ولا عمر ولا عثمان.

والحقيقة أن الخلاف حول مبايعة طلحة والزبير للخليفة علي، وهل كانت طوعا أم كرها، أم طوعا وفي نيتهما الخيانة والغدر، خلاف قد حسمه واقع الصراع الطائفي، وقيادتهما جيش السيدة عائشة في مواجهة جيش خليفة المسلمين علي بن أبي طالب.

لقد استقر الرأي على مسير جيش السيدة عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة لمواجهة جيش علي، وفي الطريق مر الجيش بـ «ماء الحوأب»، وهو مكان للماء قريب من البصرة، فنبحتهم كلابه، فسألت السيدة عائشة عن اسم مكان هذا الماء الذي مروا به، فقيل لها: إنه «ماء الحوأب»، فضربت عضد بعيرها وأناخته وقالت: أرجعوني فقد سمعت رسول الله يقول وعنده نساؤه: «كأني بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب وإياك أن تكوني أنت يا حميراء».

والسؤال: إذا كانت السيدة عائشة قد سمعت هذا الحديث من رسول الله، فلماذا لم ترجع بعد أن علمت أنها المقصودة به؟! لماذا لم تطع حديث النبي؟! أم أن طاعة النبى ومعصيته لا يملك مفاتيحها إلا أئمة الجرح والتعديل؟!

هل خالفت أم المؤمنين عائشة سنة النبي بعدم التزامها بالتحذير الذي وجهه لها مباشرة: «وإياك أن تكوني أنت يا حميراء»، ومع هذا التحذير استمرت في معركتها مع جيش علي، والتي أسفرت عن سفك دماء آلاف الصحابة؟!

ولكن الغريب أن يخرج علينا من يبرر استمرار السيدة عائشة في مسيرها بدعوى أن فريقا ممن كانوا حولها خدعوها، وقالوا لها إن هذا ليس هو مكان «ماء الحوأب»!!

ولو أنها رجعت لأنقذت الأمة الإسلامية من كل الفتن الكبرى والمصائب التي حلت بها إلى يومنا هذا؟!

أما خليفة المسلمين علي بن أبي طالب فقد خرج لمواجهة جيش السيدة عائشة باعتباره الفئة الباغية الناكثة لبيعته، المخالفة لسنة النبي، ومن هذه السنة التي نسبوها إلى النبي، لإثبات شرعية موقف علي في قتاله جيش السيدة عائشة، أن النبي قال للزبير بن العوام: «ستقاتله وأنت له ظالم».

وفي رواية أن النبي قال لعلي: «أما إن ابن عمتك هذا سيبغى عليك ويريد قتالك ظالما». وفي رواية أخرى وجدناهم يقولون، إن علي بن أبي طالب فى أثناء معركة الجمل، سأل الزبير: هل تذكر قول النبي لك «ستقاتله وأنت له ظالم»، فأجاب: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا»، الأمر الذي دفع الزبير إلى ترك المعركة!!

إذن، وحسب هذه الرواية، فإن الزبير ترك المعركة طاعة للنبي، بعد أن تذكر حديثه، ولكن الغريب أن يقابله ابنه عبد الله بن الزبير وينعته بالجبن لأنه ترك المعركة، فيغير الزبير رأيه ويعود مرة أخرى إلى المعركة، بعد أن أعتق غلامه كفارة عن قسمه!!

فهل كان الزبير يخدع عليا عندما قال له: «اللهم نعم»، وهو يعلم عدم صحة هذا الحديث المنسوب إلى النبي، لذلك عاد إلى القتال مرة أخرى؟!

إذن فحتى عصر كبار الصحابة، وفي حياة خليفة المسلمين علي بن أبي طالب، وهو إمام الشيعة «ت٤٠هـ»، ثم ما بعد عصر الخلافة الراشدة وإلى عصر التدوين، لم تكن هناك مدونات موثقة من السلطة الحاكمة يمكن عن طريقها معرفة حقيقة المرويات والأحداث التاريخية التي كانت منتشرة على ألسنة الرواة، ومنها كل مرويات الفتن الكبرى!!

لذلك لم يكن غريبا أن يختلف المؤرخون من السنة والشيعة حول ملابسات مقتل الزبير بن العوام، وهو من كبار الصحابة المبشرين بالجنة، ففي الوقت الذي يبرئ فيه الشيعة ساحتهم من مقتله، يرى أهل السنة أن مقتله كان بسبب موقفه من علي، وأن مقتله جريمة ارتكبت في حق الإسلام!!

أما عن ملابسات مقتل طلحة بن عبيد الله في موقعة الجمل «٣٦هـ»، وهو أيضا من المبشرين بالجنة، فيرى أهل السنة أنه أعلن قبل موته ندمه عن تخاذله وتهاونه في نصرة عثمان، وفريق آخر حمل مروان بن الحكم مسؤولية قتله ثأرا لبني أمية!!

ويرى الشيعة أن هذا الاعتراف يُسقط عن علي تهمة الضلوع في مقتل عثمان، ويجعل خروج السيدة عائشة للمطالبة بالقصاص من قتلة عثمان في غير محله!!

وأمام كل هذه الإشكاليات التي واجهت أئمة السلف عند تدوين أمهات الكتب، من تفسير وحديث وفقه وتاريخ، والتي تُسقط عدالة كل من كان له دور في أحداث الفتن الكبرى، وذلك بأي صورة من الصور، خرج علينا من أهل السنة من يدّعون أن وراء كل هذه المصائب التي حلت بالمسلمين شخصية يهودية تدعى «عبد الله بن سبأ» هي التي قامت بدور رئيس في مقتل عثمان، وفي معركة الجمل، وذلك لرفع المسؤولية عن الصحابة حتى لا تسقط عدالتهم!!

فإذا أردنا الوقوف على المصدر الرئيس لهذا الخبر، وجدناه «سيف بن عمر»، وهو عند علماء الجرح والتعديل مطعون في ضبطه وعدالته!! أما إذا أردنا الوقوف على المؤرخ الرئيسى الذي نقل عنه دور عبد الله بن سبأ في فتنة عثمان والجمل، وجدناه «الطبري»، وهو عند علماء الجرح والتعديل ليس بالثقة!!

والسؤال: هل يستطيع شخص واحد اسمه «عبد الله بن سبأ»، أن يكون وراء كل هذه الفتن، التي استطاعت في فترة زمنية وجيزة أن تغير مجرى التاريخ لصالح أعداء الإسلام، خصوصا إذا علمنا أن المؤرخين يُرجعون عدم إتمام الصلح بين السيدة عائشة وعلي إلى نجاح المؤامرة التي قام بها ابن سبأ، والتي أدت إلى اشتباك الطرفين؟!

لقد حٓمٓل ما يُسمى بالمصدر الثاني للتشريع إشكاليات لا وزن لها عن التحقيق العلمي، ولا تساوي قيمة المداد التي كتبت به، ولا الصفحات التي دُونت عليها، لذلك أسأل أئمة الخلف:

كيف تجعلون هذا المصدر الثاني للتشريع، الذي حمل أمهات كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ، عند كل الفرق الإسلامية، مصدرا تستقون منه أحكام الحلال والحرام، باعتبارها وحيا إلهيا باسم «السنة النبوية»، وقد آتاه الباطل من بين يديه ومن خلفه؟!

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»


ree

(391) 6/11/2015 (الإسلام.. إسلام الآية القرآنية)

 عدد المشاهدات : 182

لقد خُتمت «النبوة»، وبدأ عصر تتحمل فيه البشرية مسؤوليتها في التعامل المباشر مع رسالة الله و«آيته القرآنية»، القائمة بين الناس إلى يوم الدين، وأصبح هناك سبيلان للدخول فى الإسلام: الأول، باب «الآية القرآنية»، والثاني، باب «الإسلام الوراثي».

الأول، باب «الآية القرآنية»: التعامل المباشر مع كلام الله، وآيات ذكره الحكيم، من خلال تعلم ودراسة نصوص رسالته الخاتمة، القرآن الحكيم، وهو الباب الذي دخل منه النبى، عليه السلام، وصحبه الذين رضى الله عنهم، ويدخل منه الناس إلى يوم الدين، وليس للإسلام باب غيره.

ولقد سمى الله تعالى المسلمين الداخلين من باب الآية القرآنية «الربانيين»، ووصفهم في كتابه الحكيم بقوله:

«مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ».

إن الإسلام دين العلم، و«الربّانيون» هم العلماء الذين وقفوا على فاعلية آيات الكتاب في الآفاق والأنفس، في كل مجالات العلوم المختلفة، لذلك يستحيل أن يصل المرء إلى «الربانية» دون تفعيل آليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر … ، آليات عمل القلب.

والذين يتصورون أن نصوص «الآية القرآنية» يمكن أن تُفهم دون منهجية علمية، تحمل أدوات لفهم سياقاتها وعطاءات كلماتها، للوصول إلى درجة «الربانية»، هؤلاء واهمون، متناقضون في اجتهاداتهم، يُضلون الناس بتأويلات عشوائية متناقضة لا علاقة لها بالفهم الواعي لمنظومة «الآية القرآنية».

إن المسلمين، قبل غير المسلمين، لا يصدقون أن القرآن الذي بين أيديهم اليوم «آية إلهية»، وأنها البرهان الوحيد الذي يملكونه لإثبات صدق «نبوة» النبي الخاتم محمد، عليه السلام، وأنها لا تقل في حجيتها عن «الآيات الحسية» التى أيد الله بها الرسل السابقين، ورآها الناس بأم أعينهم، كعصى موسى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله…، بل إن القرآن هو الذى حفظ خبر هذه الآيات الحسية للناس.

ألم يكن الله تعالى قادرا على أن يجعل آيات هذا القرآن تخرج من المصحف بمجرد تلاوتها، فتكون آية حسية يشاهدها الناس؟! ألم يكن الله تعالى قادرا أن يجعل آيات هذا القرآن تسبح في الهواء أو تمشي على الماء؟! ألم يكن ذلك معينا على إيمان الناس وتصديقهم بنبوة رسول الله محمد، عليه السلام، والإقرار بأن هذا القرآن حقا من عند الله؟!

هل يعلم أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة لماذا لم تأت آية النبى الخاتم حسية تراها الأعين؟! الجواب: لأن مفعول الآية الحسية ينتهي بوفاة النبى الحامل لها، ولذلك جاءت آية النبي الخاتم آية عقلية تراها القلوب بآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر …، فهى ليست مرتبطة بشخص النبى!

وهل يعلم أنصار وأتباع المنظمات المتطرفة الإرهابية، التي أصبحت اليوم تشكل تهديدا حقيقيا لشعوب العالم وهي ترفع راية الإسلام، أن هذا القرآن ليس ورقا يحمل جملا وكلمات عربية، يوظفونها لصالح شريعتهم الجهادية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما يحمل فى ذاته «آية إلهية»، لن يقبل الله تعالى إسلام المرء إلا إذا دخل من بابها، فهل دخلتم الإسلام من هذا الباب؟!

لقد تعامل المسلمون مع القرآن باعتباره كتابا إلهيا، ككتب الرسل السابقين، يدرسون آياته، ويبحثون في إعجازه العددي، وفي حرفه ورسمه …، ويقدمون الأبحاث العلمية عن موضوعاته، ويقرؤونه في المناسبات، وفي الصلاة وتراويح رمضان…، تماما كما فعل أهل الكتب السابقة.

لقد غاب عن أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية أن أهل الكتب السابقة ما كانوا ليؤمنوا برسولهم دون برهان يثبت أنه رسول الله، فلولا عصا موسى ما آمن أحد بالتوراة، ولولا الآيات الحسية التي أيد الله بها عيسى ما كانوا ليؤمنوا بالإنجيل، ولولا «الآية القرآنية» ما آمن أحد بالنبى الخاتم محمد.

إنه مع إيماننا بأن العلوم والمعارف، والتقنيات…، سلسلة متصلة الحلقات، ومع اعترافنا بأنه لولا حلقات السلف ما وصلت هذه المعارف إلى الخلف، فإننا نؤمن بأن مجىء رسالة الله الخاتمة «آية قرآنية» حجة على العالمين إلى يوم الدين، وأن حجيتها ليست بشرية، ولا تاريخية، ولا تراثية دينية، وإنما في تفاعل آياتها مع آيات الآفاق والأنفس، تفاعل كل عصر، حسب متطلباته وتحدياته.

لقد جاء الأمر بتدبر القرآن للناس كافة، وليس لفئة معينة، لذلك كان على الناس أن يتعلموا كيف يتدبرون القرآن، لا من خلال تراث المسلمين الدينى، ¬وما حمل من أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، وإنما من خلال المنهجية العلمية التي اشترط القرآن اتباعها، وما حملته من أدوات مستنبطة من ذات النص القرآنى، يستحيل فهم أحكام القرآن بمعزل عنها.

إن علماء كل عصر، بتخصصاتهم العلمية المختلفة، مصابيح هداية وإرشاد للناس، ونقل خبرات علمية وتقنية، إنهم والناس جميعا طلاب علم أمام نصوص «الآية القرآنية»، فليس فى الإسلام رجال تفسير وحديث وفقه، فكل هذه التخصصات الدينية ظهرت بعد عصر الخلافة الراشدة، بعد أن تفرق المسلمون إلى فرق عقدية وتشريعية متخاصمة متقاتلة.

وليس في الإسلام منظمات ومؤسسات للإعجاز العلمى للقرآن، منفصلة عن المنظومة العلمية العالمية الحضارية، فالقرآن في ذاته منظومة علمية متكاملة، تحتاج إلى واقع حي تعيش بداخله، يشاهده الناس ويتفاعلون معه، وليس فقط لعقد المؤتمرات وتقديم البحوث، ثم تحفظ بعد ذلك فى الملفات والمكتبات.

الثاني: باب «الإسلام الوراثي»، وهو التعامل المباشر مع كلام البشر وتراثهم الدينى، ومروياتهم المذهبية، من خلال أمهات كتب الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وهذا الباب هو الذي دخل منه معظم المسلمين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وما زالوا يدخلون، ولقد حذر الله تعالى الناس من دخول الإسلام من هذا الباب في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى:

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ».

ومصيبة «الإسلام الوراثي» أن أتباعه يفهمون الإسلام من خلال مرجعيات أصحابها في ذمة التاريخ، يأتمرون بأمرهم، ويتحدثون بلسانهم، ويسفكون الدماء بغير حق بفتاواهم، فماذا سيكون موقفكم يوم القيامة إذا علمتم أن تقليد آبائكم بغير علم لن يدخلكم الجنة، وقد حذركم الله من هذا التقليد الأعمى وأنتم ما زلتم في الدنيا؟!

لم تتعلم الشعوب المسلمة أصول المنهج العلمى في التفكير، ولا طرق وأدوات البحث العلمى، لا فى البيئة التي تربت فيها، ولا فى مراحل التعليم الأساسى، وكل ما نسمعه على منابر الدعوة المختلفة عن أمجاد علماء الإسلام الأُول، الذين علموا العالم العلوم، قد ذهب خيره للشعوب التي تربت على المنهجية العلمية في التفكير.

إن تخلف المسلمين وسقوط نهضتهم لم يكن بسبب «الآية القرآنية» التي أنعم الله بها عليهم لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكن بسبب هجرهم للقرآن، فلم يعد القلب الحامل للقرآن يفقه، «قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا»، ولم يعد القلب يعلم، «وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»، ولم يعد القلب سليما، «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»، ولم يعد منيبا، «وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ»، ولم يعد ذاكرا، «مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ».

لقد سقطت قلوب المسلمين في دوامة «الآبائية» والتقليد الأعمى، والاتباع بغير علم، والتغييب العقلى، وأصبح الشغل الشاغل لأئمة السلف والخلف هو علاج أعراض المرض العضال، دون المساس بشعرة منه، فعاشوا حياتهم يجلسون بجوار المريض يبكون، ويصدرون الفتاوى وبيانات الشجب والإدانة، فكانت النتيجة المنطقية أن يُخرجوا الناس من النور إلى الظلمات، ظلمات الجاهلية الأولى التي أنقذهم الله منها، «وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا».

إن الذي يريد أن يعرف حقيقة الإسلام عليه أن يدخل من الباب الذي دخل منه رسول الله وصحبه الذين رضى الله عنهم، وهو باب «الآية القرآنية»، وتناغم نصوصها مع آيات الآفاق والأنفس، ومع آليات التفكر والتعقل والتدبر، فلا إسلام من غير علم، ولا علم من غير تفكر وتعقل وتدبر، فالله تعالى القائل:

«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»

إننا لا يمكن أن نحمل للناس الحق والعدل، الهدى والنور، الصلاح والفلاح، التقدم والرقى، ونحن نقدم لهم الإسلام من خلال المرجعيات السلفية، والروايات البشرية، والفهم العشوائى المذهبى لنصوص «الآية القرآنية».

إن كل الجماعات والجمعيات والمنظمات «السلمية والإرهابية» التى ترفع رآية الإسلام، والعمل بالكتاب والسنة، المنتشرة في العالم، كلها لم تدخل الإسلام من الباب الذي دخل منه النبى، عليه السلام، وصحبه الذين رضى الله عنهم، لذلك فإنها التحدي الأكبر الذي يجب أن تواجهه الشعوب بقوة، وإلا فإنها ستدفع ثمن تهاونها وتخاذلها عبودية جديدة في ثوب الجاهلية الأولى.

إنه لا مفر من إعادة تقديم أوراق الالتحاق بـ «المدرسة الربانية» مرة أخرى، وفيها لن يقبل مسلم أن ينسب إلى الله أو إلى رسوله شيئا إلا بالبرهان قطعى الثبوت عن الله تعالى، وليس فقط عن رسوله، بعد أن حكم الإسلام الوراثى «الآية القرآنية»، وحكم الهوى السياق القرآنى، وحكم فقه السلف المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، وحكمت القراءات الشاذة للقرآن كثيرا من قلوب المسلمين، والله تعالى يقول:

«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

———————معلومات :الرَبّانِية: نسبة إلى الرب. والربانى الموصوف بعلم الرب، وهو العالم «العامل» المعلم الراسخ في العلم الحكيم، الدارس فاعلية آيات الكتاب في الآفاق والأنفس، ويرسل الله الرسل ليقولوا للناس: «كونوا ربانيين»، لا «كونوا قرآنيين».

ree

(392) 9/11/2015 (عبثية أن يحكم فقه الرواية فقه الآية)

 عدد المشاهدات : 236

لقد أغلق الله تعالى جميع أبواب المرجعيات الدينية ببعثة رسوله الخاتم محمد، عليه السلام، واصطفى أمته لتحمل «آيته القرآنية» بين الناس، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، وتتحمل مسؤوليتها في الشهادة عليهم على مر العصور، كما تحمل رسول الله مسؤوليته فكان شهيدا على عصره:

«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً…».

لقد كانت شهادة رسول الله، وصحبه الذين رضي الله عنهم، شهادة بلاغ وتفعيل لنصوص «الآية القرآنية» بين الناس، كانت شهادة الأمة الواحدة، التي لم تعرف تفرقا مذهبيا، ولا تخلفا حضاريا. لقد عرفتهم من خلال تدبرى لنصوص «الآية القرآنية»، فشهدت لهم بما شهد به القرآن، ولكن أين هي هذه الأمة التي تأست برسولها، فأقامت واقعا مُشَرّفا يشهد بسموها الأخلاقى، وسلوكها الحضارى، في عصرتحديات الاتصالات العالمية، والتقنيات الرقمية، وثورة الإنترنت، والليزر، والفيمتو ثانية، والنانو تكنولوجي، والميكروسكوب الإلكتروني؟!

لقد تفرق المسلمون إلى أحزاب متصارعة، وانشغل كل حزب بتراثه الديني، وجعله حاكما على فاعلية نصوص «الآية القرآنية»، فلما هجروا «الآية القرآنية»، فقدوا خيريتهم، وشرف شهادتهم على الناس.

إنها مصيبة كبرى أن يتخلى المسلمون عن مسؤوليتهم في الشهادة على العالمين مخالفين بذلك سنة نبيهم، فرحين بتفرقهم وتخاصمهم، وبتعميق أزمة التخاصم والتكفير بينهم، من خلال منابر الدعوة التخاصمية، المحلية والفضائية!

لقد سألت نفسي: أي فرقة من الفرق الإسلامية تعاملت مع كتاب الله باعتباره «الآية القرآنية» الدالة على صدق رسول الله محمد في بلاغه عن الله؟! أي فرقة من الفرق الإسلامية أقامت شهادتها على الناس على أساس فاعلية نصوص «الآية القرآنية» بينهم؟!

لقد غاب فقه «الآية» عن واقع الناس، وحضر فقه «الرواية»، فقه التخاصم والتكفير، وتوقف بظهوره عطاء «الآية القرآنية» المتجدد مع كل عصر، هذا العطاء الذي كان من المفترض أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويواجه التحديات والشبهات التي تسيء للإسلام والمسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالصراخ وحرق الممتلكات وقتل النفس بغير حقَ!

إنه يستحيل أن يعرف أئمة وعلماء الفرق الإسلامية المختلفة طريقهم إلى نصوص «الآية القرآنية» وهم يصرون على تقديس أئمة السلف، وتقديس تراثهم الدينى، الذي حملوا مؤهلاته وتخصصاته العلمية من مؤسسات دينية مذهبية، قامت على أزمة التفرق والتخاصم بين المسلمين!

إن دين الله ليس مهنة أو حرفة، لها مؤهلاتها العلمية، التي يجب أن يحصل عليها المسلم من المؤسسة الدينية التابعة للمذهب الذي ينتمي إليه، فهذه المؤسسات تعمل على ترسيخ أصول التفرق والتخاصم في قلوب أتباعها، باسم العمل بكتاب الله وسنة رسوله!

لقد آمنت أن رسالة الله الخاتمة، «آية قرآنية» عالمية، وليست تراثا بشريا مذهبيا يرثه علماء الفرق والمذاهب المختلفة، كل حسب مدرسته في التفسير والتأويل والجرح والتعديل، ذلك أن الساحة التي انتصر فيها رسول الله، ودلت على صدق بلاغه عن الله، كانت فاعلية «الآية القرآنية» بين الناس، الممتدة المفعول إلى يوم الدين، فكيف يترك المسلمون هذه الساحة، ويتدينون بتراث فقد فاعليته منذ قرون مضت؟!

لقد قمت بحصر معظم الخلافات القائمة بين علماء وأتباع الفرق والمذاهب المختلفة، وكذلك فتاوى التطرف واستباحة الدماء بغير حق، فوجدتها قائمة على «مرويات» منسوبة إلى رسول الله، ما أنزل الله بها من سلطان، ولقد كان لها أثرها الكبير على الفهم المذهبى المعوج لآيات الذكر الحكيم، وعلى ثقافة التخاصم والتكفير التي تشربتها قلوب أتباع هذه المذاهب المختلفة، وعلى تعميق أزمة الخلاف الفقهي بينهم!!

والسؤال: مادام السابقون واللاحقون مختلفين في أحكام الشريعة لاختلافهم في حجية «المرويات» التي يستقون منها هذه الأحكام، ففريق يقول بالحل في مسألة استنادا إلى ما صح عنده من مرويات، والآخر يقول بالحرمة مستندا إلى ما صح عنده من مرويات جاءت في نفس الباب وإن لم تصح عند غيره .. إذن فلماذا نشغل المسلمين بآراء واجتهادات فقه السلف المدون في آلاف الصفحات، ومئات المجلدات، لنصل في النهاية إلى أن الحكم في مسألة بفعلها أو اجتنابها سواء؟!

لماذا لم تقتصر أبواب الفقه الإسلامي على ما اتفق على تحريمه فقهاء الفرق والمذاهب المختلفة في عصر معين، ثم يعاد النظر في هذه الأحكام حسب مقتضيات وإمكانات كل عصر؟!

فهل يعقل أن تعرض أحكام الشريعة على المسلمين بهذه الصورة المذهبية المؤسفة فمذهب يقول بالحل ومذهب يقول بالحرمة، في مسألة واحدة، وفي قضايا تتعلق بقرون مضت، والمفتون أتباع مذهب واحد؟!

لماذا ظل الفقه الإسلامى يتحرك في حراسة أتباع أئمة المذاهب الفقهية المختلفة؟! لماذا يصر الخلف على الرجوع إلى فقه واجتهادات السابقين، في مسائل حياتية اختلفت طبيعتها، وأشكالها، ووسائلها، وأصولها، وقواعدها.. عما عليه الناس اليوم؟!

وإذا كانت «المرويات» المنسوبة إلى رسول الله هي كلام النبي المبيّن للقرآن، فلماذا احتاجت هي أيضا إلى بيان وشرح علماء الحديث؟! هل يحتاج المبيِّن إلى من يبينه؟! ولماذا ظهرت أمهات كتب التفسير والفقه؟ وما هي أهميتها، إذا كانت كتب الحديث هي التي حملت البيان النبوي للنص القرآني؟!

وإذا كانت اجتهادات وشروح أئمة الفرق والمذاهب المختلفة، قد زادت مع بداية عصر التدوين، ثم زادت الحواشي على الشروح، ثم زادت الهوامش على الحواشي، إلى أن أُغلق باب الاجتهاد منذ ألف عام تقريبا، فأين نجد «الأحاديث النبوية» بكلماتها وحروفها التي خرجت على لسان النبي، وسط هذه المنظومة المذهبية التي حملت للناس أزمة اختلاف المحدثين، وعلماء الجرح والتعديل، في تصحيح وتضعيف المرويات التي أقام عليها كل فريق مذهبه؟!

إن معظم المسلمين اليوم أعضاء في منظومة واحدة، هي منظومة الآبائية المذهبية، لذلك فهم يواجهون خطرا واحدا وهو خطر محو هويتهم الإسلامية، هذا الخطر الذي لا يراه إلا أصحاب البصيرة، والذي يتحمل مسؤولية ذلك هم الذين يصرون على تفرقهم وتخاصمهم، وانشغالهم بخلافاتهم المذهبية، وفتاوى التخلف، وثقافة الهزيمة!!

إنه لا سبيل أمام المسلم، الذي يريد أن يتعرف على طبيعة وخصائص المصدر الثاني للتشريع، وما حمله من تراث دينى مذهبى تكفيرى، ومرويات منسوبة إلى رسول الله ما أنزل الله بها من سلطان.. إلا أن يدرس أمهات كتب الفرق الإسلامية المختلفة، دراسة علمية جادة، سيعلم بعدها معنى قول الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً» -ــ «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً».

فهل شكر المسلمون ربهم على نعمة النور المبين، وتحملوا مسؤوليتهم على الوجه الذي يرضى الله تعالى؟! وهل استحلال الدماء استنادا إلى مرويات ظنية الثبوت عن رسول الله، إن صحت عند فريق لم تصح عند آخر، من شكر الله على هذه النعمة؟!

ولكن الأخطر من ذلك أن يفجر الإنسان نفسه وسط المخالف له في الملة أو المذهب، بفتوى تبشره بدخول الجنة من غير حساب!! إذن فلماذا لا يأخذ المسلمون وعلماؤهم قراراً موحدا بالهجوم على عدوهم على قلب رجل واحد بهذه الطريقة السهلة، التي ترفع عنهم مسؤولية الشهادة على الناس، ولا تحتاج إلى مناورات عسكرية، ولا إلى إعداد ما استطاعوا من قوة؟!

لماذا لا يبادر علماء المسلمين بهذا العمل ليفوزوا جميعا بالجنة، التي هي أصلا أمل كل مسلم، وبذلك تنتهى مشكلاتهم العائلية وأزماتهم الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية؟!

إن الأمة الإسلامية، المقطعة الأوصال، لم تحظ بأى تأييد إلهى ينصرها على عدوها المحتل لأراضيها، السالب لكرامتها، الناهب لخيراتها، المحطم لعزتها.. فلماذا لم يُمكِّن الله تعالى دينه الذي ارتضاه لهذه الأمة ليصبح المسلمون بنعمته إخوانا، في مواجهة التحديات التي تسعى لمحو هويتهم الإسلامية؟! أليس الله تعالى هو القائل، مخاطبا المؤمنين:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ».

لماذا لم يبدل الله خوف المسلمين أمنا؟! هل المشكلة في وعد الله أم في الموعودين؟! هل يمكن أن يخلف الله وعده، أم أن إيمان الموعودين ذهب ولم يعد؟!

لقد جاءت «الآية القرآنية» لتأخذ بأيدى الناس إلى بناء مستقبل أفضل، فهل أقام المسلمون إسلامهم على فهم واع لمكانة هذه «الآية القرآنية»، وفاعلية نصوصها، وقيمها الحضارية ومقاصدها العليا، أم أنهم أقاموا إسلامهم على استرجاع الماضى، وإسقاطه على الحاضر، فتخلفوا عن ركب التقدم الحضاري؟!

لقد حكم الإسلام الوراثى إسلام «الآية القرآنية»، وحكم فقه الرواية فقه الآية، وحكم الهوى علم السياق القرآنى، وحكمت الفُرقة والمذهبية المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، وحكمت القراءات الشاذة للقرآن قلوب كثير من أتباع الحداثة والمعاصرة .. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يفرض على الشعوب أن تستيقظ من سباتها، وتعمل له ألف حساب، وإلا فإن حكم الجاهلية الأولى آت، بعد أن ظهرت ملامحه حولها!!

إن عاطفة الشعوب الدينية وحدها لن تصنع مستقبلها، وإنما يصنعه العلم والتقدم الحضارى، وعندما تحركت الشعوب بعاطفتها الدينية لتقول نعم لحملة الرايات الدينية المذهبية دفعت ثمن ذلك دماء وتشريدا وخرابا لبلادها، والمستفيد الأول هو القوى العظمى، التي لم تجد سلاحا فاعلا تستعمله لإعادة تشكيل العالم العربى وصياغته بما يحقق مصالحها وأهدافها غير سلاح تفرق المسلمين وتخاصمهم، الذي قدمه المسلمون لها على طبق من ذهب!!

«وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا» ــ «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا».

معلومات:

* الشرح: عمل يُتوخى فيه توضيح ما غمض من المتون، وهي رسائل صغيرة خالية من الاستطراد والشواهد والأمثلة، وتفصيل ما أُجمل منها، وهو يتراوح بين الطول والقصر والسهولة والعسر، وفيه الوجيز والوسيط والبسيط.

* الحاشية: إيضاحات مطولة دعت إليها ظاهرة انتشار المتون والشروح، وقد قصد منها حل ما يستغلق من الشرح، وتيسير ما يصعب فيه، واستدراك ما يفوته، والتنبيه على الخطأ والإضافة النافعة، وزيادة الأمثلة والشواهد.

ree

(393) 19/11/2015 (كيف يكون الحوار العلمي؟)

 عدد المشاهدات : 242

منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، وخلال كثير من الحوارات والمناظرات التي أجريتها مع كبار أئمة الحديث من مختلف الفرق الإسلامية (سنة – شيعة – معتزلة – أباضية)، كنت أنتظر، بل أتمنى، أن أجد عند واحد منهم برهانا من كتاب الله يسقط مشروعي الفكري من قواعده، لماذا؟

أولا: لأن هذه اللقاءات كانت تعقد بهدف (الاستتابة)، فلم أكن أنا الداعي إليها، ولكن منصب والدي كإمام لأهل السنة فرض عليه التحقق من صحة أو بطلان ما أنا عليه، فقبلت أنا أيضا ذلك ابتغاء معرفة الحق.

ثانيا: كنت أعلم حجم المخاطر والتحديات التي ستواجهني، وهي خطيرة، فلا يعقل أن ألقي بنفسي في التهلكة، كما قال لي أحدهم (لقد دخلت عش الدبابير)، بعد أن بيّن لي هؤلاء الأئمة أين الخلل الذي يسقط المنهجية العلمية التي قام عليها مشروعي الفكري، ولكنهم لم يبينوا، وكانوا يرددون نفس الكلام الذي اعتدت سماعه في كل لقاء، وهذا ما زادني إيمانا بما أنا عليه.

ثالثا: لقد تذكرت هذه السيرة الذاتية العلمية، وأنا أقرأ تعليق الأستاذ (سليمان خلفان)، على المنشور الأخير بتاريخ (١٧-١١-٢٠١٥)، الذي قلت فيه:

«لذلك يستحيل أن نقضي على الإرهاب ولا على الإرهابيين، إلا إذا أعلنا أماما العالم أجمع، وفاة المصدر الثاني للتشريع، ودفنه، والتبرؤ منه».

لقد علق الأستاذ سليمان خلفان على هذه الجملة، على صفحة الصديق سلطان الشارجي، في (١٧-١١-٢٠١٥) على الرابط:www.facebook.com/sultan.alsharji.18?fref=nf

فقال: «اذا ألغينا المصدر الثاني للتشريع، يعني أننا قضينا على مصدر معمم من مصادر العلوم الشرعية، وماذا إذا كان رب العزة يأمرنا بأخذ بأقوال وأفعال النبي: (وماتأكم الرسول فَخُذُوه وما نَهَاكُم عنه فَانتَهُوا) ..، الأولى أن نقول الحديث الصحيح الثابت عن النبي وما يعارض القرآن فنرده».

فقلت له: «رب العزة لم يأمر الصحابة المخاطبين (في المقام الأول) بهذه الآية بأخذ أقوال وأفعال النبي، حسب مدارس الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، التي ظهرت بعد قرنين من وفاة النبي، وإلا فأين أمهات كتب الحديث التي دونها الصحابة تحت إشراف النبي؟! وانتبه قبل أن تتسرع وتردد ما يردده دوما أنصار (الفرقة والمذهبية) أن الصحابة لو دونوا هذه الأحاديث تحت إشراف النبي، لما كان هناك (سند روائي) مطلقا، أي أننا سنقرأ الحديث منسوبا إلى النبي مباشرة، فهل ورث المسلمون عن الصحابة أحاديث النبي عن النبي مباشرة؟»!!

ثم قلت له: «وعلى كل حال البرهان على أن رب العزة لم يأمرنا بأخذ أقوال وأفعال النبي موجود في مقال بعنوان: (هل حفظ الله الأحاديث النبوية كما حفظ النص القرآني)، بتاريخ ٦ إبريل ٢٠١٥!

فماذا كان رد الأستاذ سليمان خلفان؟! هل قرأ المقال فوجد فيه ثغرة علمية فجاء يناقشني حولها؟! هل فهم معنى قولى:

«وانتبه قبل أن تتسرع وتردد ما يردده دوما أنصار (الفرقة والمذهبية) أن الصحابة لو دونوا هذه الأحاديث تحت إشراف النبي، لما كان هناك (سند روائي) مطلقا، أي أننا سنقرأ الحديث منسوبا إلى النبي مباشرة، فهل ورث المسلمون عن الصحابة أحاديث النبي عن النبي مباشرة؟»

وهل يعلم أن هذا الذي ذكرته عن (السند الروائي)، يُسقط حجية الأحاديث من قواعدها، وبالتالي حجية ما يسمى بالمصدر الثاني للتشريع؟!

وهل يعلم أن قوله: «الأولى أن نقول الحديث الصحيح الثابت عن النبي وما يعارض القرآن فنرده»، هو شهادة منه، بسقوط حجية الحديث من أساسه، لأن هذا (الحديث الصحيح الثابت عن النبي) من الذي حكم عليه بالصحة، هل هم أئمة أهل السنة أم الشيعة؟!

رابعا: الحقيقة أن الأستاذ سليمان خلفان لو علم ما سبق بيانه لتوقف عند هذه المسألة، ولم يتفرع إلى مسائل أخرى، حتى يحدد موقفه من هذه الحجة العلمية الدامغة، ولكنه قال:

«سيدي الفاضل .. قِس على ذلك القرآن الكريم اذا جائنا الى أصل التدوين حتى القرآن لم يدون ولم يجمع في مصحف واحد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولكنه جمع في زمن ابي بكر رضي الله عنه رغم كونه المصدر الاول للتشريع .. فهل يعني ذلك ان نلغي المصدر التشريعي القرآني؟».

هنا تذكرت ما كان يردده المتحاورن معي من أئمة الحديث، وكأنهم جميعا يقرؤون من كتاب واحد، نفس الكلام، نفس التعبيرات، نفس أسلوب الهروب، والتفرع إلى مواضيع أخرى بدعوى أن لها علاقة بالموضوع الأول!!

وهل أجبت على الأول حتى تتفرع إلى غيره؟!

ومما تذكرته أيضا، أنني بعد ساعات من هذه الحوارات، وأمامي وحولي عشرات الكتب التي كنت أستخرج منها ما يهدم حجية هذا المصدر من داخله، ومع وضوح التناقض بين النصوص وتهافت حجيتها، كان أئمة الحديث يصرون على الجدل العقيم، فأهل السنة يصرون على حجية أحاديثهم التي نقلها الصحابة (العدول)، والشيعة يصرون على حجية أحاديثهم التي نقلها الأئمة (المعصومون)، ويعطون ظهورهم لما شهدت به كتبهم من استحالة أن تكون هذه الأحاديث وحيا إلهيا!!

لذلك لم يكن غريبا ألا يقرأ الأستاذ سليمان خلفان المقالات التي بين يديه على هذه الصفحة، والتي فيها كل الردود على معظم الشبهات المثارة حول حجية المصدر الثاني للتشريع، بما في ذلك مسألة الصلاة، ويستمر في جداله فيختم حواره بقوله:

«ما أردت قوله لا يمكن إلغاء التشريع الثاني كون أن القرآن أمر بذلك، وفي زمن النبي كما ذكر الاستاذ محمد .. هناك فرائض لم تذكر تفاصيلها في القرآن ولكنها جاءت مفصلة في السنة الثابتة كالصلاة وغيرها»!!



(394) 19/11/2015 (المغيبون عن الحقيقة … لا دين لهم ولا وطن)

 عدد المشاهدات : 198

في معظم العمليات الإرهابية، كان الاتهام يوجه إلى التنظيمات الإرهابية التي تعمل تحت راية (لا إله إلا الله – محمد رسول الله)، ويخرج علماء المسلمين ببيانات الإدانة، والقول بأن ما حدث عمل فردي لا يجب أن يحسب على الإسلام!!

واليوم، وبعد أحداث باريس الأخيرة، أصبح الاتهام يوجه إلى (الإسلام) ذاته، بعد أن أعلنت التنظيمات الإرهابية عن قيامها بغزوات إسلامية ضد أعداء الإسلام في دول العالم، وأن ما حدث يوم الجمعة (١٣- ١١- ٢٠١٥) هو أولى هذه الغزوات، التي أطلقوا عليها اسم (غزوة باريس)!!

والسؤال إلى علماء ودعاة المسلمين: هل هذه الإمكانات العسكرية التي ظهرت في باريس في ثمانية مواقع في وقت واحد: الشارع – المسرح – المطعم – المول التجاري – الاستاد الذي كان يتواجد فيه رئيس الدولة…، ثم هذا التخطيط الذي أذهل كثيرا من المحللين العسكريين، وحالة الطوارئ التي أعلن عنها كثير من دول العالم،هل كل هذا كان عملا فرديا لا يدعو إلى القلق؟!!

لقد تذكرت وأنا أتابع هذه الأحداث الدامية الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، في احتفالية وزارة الأوقاف بذكرى المولد النبوي الشريف، الذي قال فيه:

أولا: «نتوقف كثيرا أمام الحالة الي احنا موجودين فيها، مش معقول يكون الفكر اللي احنا بنقدسه ده يدفع بالأمة دي بالكامل إن هيه تبقى مصدر للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها».

ثانيا: «أنا مش بقول الدين أنا بقول الفكر ده اللي تم تقديسه، نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين وأصبح الخروج عليها صعب أوي لدرجة إن هيه بتعادي الدنيا كلها، يعني الواحد والستة من عشرة مليار هيقتلوا الدنيا كلها اللي فيها سبعة مليار عشان يعيشوا همه..، مش ممكن!!

ثالثا: وقال مخاطبا علماء الأزهر: «والله لأحاجيكم يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى على اللي أنا بتكلم فيه ده دلوقتي، أنت مش ممكن تكون وأنت جواه حاسس بيه، لازم تخرج منه وتتفرج عليه وتقرؤه بفكر مستنير حقيقي، دا انتو محتاجين تتوقفوا بشدة، وأنا بتكلم وأقول تاني: إحنا محتاجين ثورة دينية» (تصفيق من الحضور)!!

رابعا: ثم وجه الرئيس كلامه بعد ذلك مباشرة إلى شيخ الأزهر: «فضيلة الإمام أنتو مسؤولين أمام الله، الدنيا كلها منتظرة منكم، الدنيا كلها منتظرة كلمتكم، لأن الأمة دي بتُمزَّق، الأمة دي بتُدمَّر، الأمة دي بتضيع، وضياعها بإيدينا إحنا، إحنا اللي بنضيعها».

وهنا يمكن أن نتوقف عند قول السيسي: «أنا بقول الفكر ده اللي تم تقديسه، نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين وأصبح الخروج عليها صعب أوي لدرجة إن هيه بتعادي الدنيا كلها، يعني الواحد والستة من عشرة مليار هيقتلوا الدنيا كلها اللي فيها سبعة مليار عشان يعيشوا همه..، مش ممكن»، أليس هذا هو نظرة العالم إلى المسلمين اليوم بعد ليلة باريس الدامية؟!

فما هي هذه النصوص والأفكار التي تم تقديسها مئات السنين، حتى أصبحت تعادى الدنيا كلها، مما جعل السبعة مليار يخافون أن يقتلهم واحد وستة من عشرة مليارات مسلم، غير التراث الديني، للفرق والمذاهب المختلفة، الذي حمل تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان؟!

ولقد هيمنت الحوادث الإرهابية التي وقعت في باريس على فاعليات مؤتمر «تجديد الخطاب الديني وتفكيك الفكر المتطرف»، الذي افتتحه شيخ الأزهر، ووزير الأوقاف، في (١٤- ١١- ٢٠١٥)، ومما اقترحه فضيلة شيخ الأزهر على الحضور ما يلي:

أن تتم دعوة كبار علماء المسلمين لمواجهة قضايا ملحة مثل الإرهاب والتكفير والهجرة والخروج على المجتمع والانفصال عنه واستباحة الدماء…، منتقداً وقوف البعض عند ظواهر بعض (النصوص الشرعية)، متجاهلين مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحية نصوصها لكل زمان ومكان!!

والسؤال: منذ عقود من الزمن ومثل هذه المؤتمرات تعقد وتنفض وتخرج بتوصيات، لا فاعلية لها على أرض الواقع، لماذا؟!

لأن الذين يحضرون هذه المؤتمرات من مذاهب عقدية وتشريعية مختلفة، أثبت الواقع استحالة اتفاقهم على شيء، فكل فرقة، وكل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، يقدسون نصوص مصدرهم الثاني للتشريع!!

فما هذه (النصوص الشرعية) التي وقف البعض عند ظواهرها غير نصوص (التراث الديني)، للفرق والمذاهب المختلفة، المقدسة عند أئمة وأتباع كل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، ومعظهم من المجتمعين في المؤتمر!!

ولذلك فعندما انتقد فضيلة الدكتور شيخ الأزهر وقوف البعض عند ظواهر بعض (النصوص الشرعية)، متجاهلين مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحية (نصوصها) لكل زمان ومكان، كان من الضروري تحرير مصطلح (النصوص الشرعية)، وأية فرقة من الفرق الإسلامية يطالبها بـ (تجديد الوعي وتوسيع الفهم..، والتعامل مع المشكلات بفتاوى أكثر شجاعة من دون تردد أو تخوف..)!!

وعندما قال فضيلته: «ابتلينا بمن يفهمون (النصوص) على حسب الهوى، ويوظفون الدين لاستقطاب شبان وفتيات لتفجير أنفسهم وقتل الأبرياء طلباً للجنّة بزعمهم، مثلما تفعل (داعش)»!!

إذن فالقضية من وجهة نظر فضيلته ليست في (النص) وإنما في (فهم النص)، وطالما أن لكل فرقة من الفرق الإسلامية مصدرها الثاني للتشريع، إذن فهي تفهم (نصوص الشريعة) من خلال مصدرها، وهذه هي مأساة المسلمين، أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، منذ عصر التدوين (١٥٠هـ) وإلى يومنا هذا!!

فهل يُعقل أن تُسفك الدماء بغير حق، استنادا إلى نصوص مصدر تشريعي، إن صحت عند فرقة لم تصح عند أخرى، وإن صحت عند مذهب فقهي من مذاهب الفرقة الواحدة، لم تصح عند آخر؟!

ولكن اللافت للنظر هو سؤال فضيلة شيخ الأزهر في نهاية كلمته: أين التجديد وأين المجددون؟! فإذا وضعنا هذا السؤال أمامنا، وقول السيسي لفضيلته:

«فضيلة الإمام أنتو مسؤولين أمام الله، الدنيا كلها منتظرة منكم، الدنيا كلها منتظرة كلمتكم، لأن الأمة دي بتُمزَّق، الأمة دي بتُدمَّر، الأمة دي بتضيع، وضياعها بإيدينا إحنا، إحنا اللي بنضيعها».

فماذا يفعل المسلمون أمام هذا الإشكال؟!

أولا: إن جميع الأعمال الإرهابية، لا تستند مطلقا إلى نص قراني، ولا حتى إلى فهم خاطئ لنص القرآني، لانتفاء وجوده أصلا، وإنما تستند إلى نصوص التراث الديني التي حملت فتاوى أئمة السلف التي تبيح هذه الأعمال الإرهابية، وهي لا تقبل تجديدا ولا تنقية، وإلا لفعلته المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة!!

ثانيا: لا يوجد كتاب أُلف في جواز هذه الأعمال الإرهابية، على مستوى العالم، إلا وحمل للناس كلاما مرسلا، ومفاهيم مغلوطة، وجهلا بأولويات التفكير المنطقي، وأصول البحث العلمي، ومن هذه الكتب كتاب: «الأدلة الشرعية في جواز العمليات الاستشهادية، تأليف: علي بن نايف الشحود»، يقول في مقدمته:

١- «وبما أن العدو يملك جميع أدوات البطش والدمار فكان لا بد من التفكير بطريقة جديدة تؤثر في العدو وخسائرها قليلة، فجاءت العمليات الاستشهادية التي يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد فيفجرون أنفسهم أو سياراتهم داخل صفوف العدو أو أماكن تجمعه فيحدثون به أذى كثيرا، ويرهبونه أيضاً استناداً إلى قول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ…».

٢- «وبما أن الإسلام دين شامل لكل زمان ومكان، فكان لا بد أن يكون له حكم في ذلك، ومن ثمَّ فقد بحث أهل العلم المعاصرون عن تكييف هذه العلميات الاستشهادية فوجدوها تدخل تحت ما يسمى بـ (الانغماس في العدو) الذي تكلم عنه الفقهاء، فتبين لديهم أنها جائزة، بل مستحبة، وربما تجب في بعض الأحوال والأوقات»!!ويقصدون بـ (الانغماس في العدو): إلقاء المقاتل بنفسه وسط أعدائه، فإنه يغيب فيهم كالشيء ينغمس في ما يغمره!!

٣- فإذا ذهبت إلى كتب الفقه، لتتعرف على حكم (الانغماس في العدو)، وعلاقته بالتفجيرات الانتحارية، وجدت مثلا رواية عن أحمد: أن رجلا حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كلا بل هذا ممن قال الله فيه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ».ويقولون: لقد كان الرجل وحده على عهد النبي يحمل على العدو بمرأى من النبي، و ينغمس فيهم، فيقاتل حتى يُقتل، و هذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي وخلفائه.

ويعتبرون قصة أصحاب الأخدود، التي رواها مسلم في صحيحه، دليل على أن الغلام ضحى بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الله، فعندما عجز الملك عن قتله أكثر من مرة، قال الغلام له: لن تقتلني إلا إذا فعلت ما أمرك به، أن تجمع الناس على صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهمًا من كنانتي، وقبل أن ترمني به تقول: باسم الله رب الغلام، فإن فعلت قتلتني!!

وكذلك قصة ماشطة ابنة فرعون، التي رواها مسلم في صحيحه، هذه المرأة التي ضحت بكل أسرتها وبرضيعها، ثم بنفسها، في سبيل إعلاء كلمة الله داخل بيت الطاغية فرعون!!

ثالثا: فهل يعقل أن كل ما يحدث في العالم من عمليات إرهابية، وتفجيرات انتحارية، باسم الإسلام، وتحت راية «لا إله إلا الله – محمد رسول الله»، والتي أصبحت ظاهرة خطيرة تهدد أمن وسلامة الشعوب…، لا يحمل دليلا شرعيا غير ما سبق بيانه من أدلة متهافتة، ساقطة شرعا!!

لذلك سيبقى السؤال قائما: لماذا لم يصدر عن مؤتمر «تجديد الخطاب الديني وتفكيك الفكر المتطرف» بيان للعالم ينص فيه على تكفير جميع التنظيمات الإرهابية، وأن ما تقوم به من أعمال إجرامية محرم في الشريعة الإسلامية، كما تشهد بذلك كثير من الآيات القرآنية؟!

من الذي سيعلن للعالم أجمع، أن الإسلام لا يُعرف له مرجع، ولا مصدر تشريعي، غير نصوص «الآية القرآنية»، وما عدا ذلك فليس من الدين الإسلامي الذي أمر الله اتباعه؟!

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»


(395) 21/11/2015 (القرآن أمر بطاعة الرسول واتباعه لا الفقهاء والمحدثين)

 عدد المشاهدات : 175

يعتقد البعض أنني عندما أستند في مقالاتي إلى أمهات كتب المؤرخين والمحدثين، لإثبات أن ما يُسمى بـ «المصدر الثاني للتشريع» ما هو إلا تراث بشري لا علاقة له بدين الله تعالى، أكون بذلك قد خالفت مشروعي الفكري القائم على تدبر منظومة النص القرآني، وهذا الفهم غير صحيح، ذلك أن تدبر القرآن يجب أن يقوم على منهجية علمية، تحمل أدوات لفهم آياته، ويشترط أن تكون هذه الأدوات مستنبطة من ذات النص القرآني، فما هي أدوات فهم القرآن حسب مشروعي الفكري؟!

خلال رحلتي من «الإيمان الوراثي» القائم على التقليد بغير علم، إلى «الإيمان العلمي» القائم على الحجة والبرهان، قررت أن لا أستعين بأي مصدر معرفي خارج حدود القرآن، وذلك خلال تدبري لنصوصه، فكان أول إشكال وقف عقبة أمام هذا القرار هو:

لقد نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، وتعلم العرب هذا اللسان في البيئة التي تربوا فيها إلى يومنا هذا، أي من مصدر معرفي خارج حدود القرآن، إذن فهناك أدوات يجب الاستعانة بها من خارج القرآن لفهم نصوصه، فكان عليّ أن أعيد صياغة هذا القرار وأقول: النص القرآني بالإضافة إلى «اللسان العربي».

وعلى أساس هذه المنهجية العلمية أضفت إلى «اللسان العربي» أدوات أخرى هي: ١- السياق القرآني ٢- آليات عمل القلب: آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر ٣- منظومة الآيات الكونية في الآفاق والأنفس ٤- منظومة التواصل المعرفي.

إن «منظومة التواصل المعرفي» هي ما يُميز مشروعي الفكري عن سائر التوجهات القرآنية الأخرى، وهذا الاسم ودلالاته من إبداعي، فلم يسبقن إليه أحد، لذلك عندما ظن الأستاذ جمال البنا أني من القرآنيين، وقال في مقال له منشور على صفحة شفاف الشرق الأوسط، بتاريخ ١١ مارس ٢٠٠٥م:

«فالقرآنيون في القاهرة كان البارز فيهم الدكتور صبحي منصور والدكتور مشتهري (ابن الشيخ مشتهري الذي كان رئيسا للجمعية الشرعية) وكل واحد منهم آوى إلى الظل بعد فترة من النشاط»، ثم أعاد الأستاذ جمال البنا نشر ذلك في جريدة «المصري اليوم» عام ٢٠٠٧م، فأرسلت إليه ما يُبيّن الاختلاف الجذري بين مشروعي الفكري والتوجهات القرآنية الأخرى، فقام بتصحيح ما سبق أن نشره، وكتب في مقال له بعنوان «دلالات تدهور الفتوى»:

«صديقي الكاتب الإسلامي المحقق الدكتور محمد المشتهري عاتب علي لأنني أدرجته في «القرآنيين» – المصري اليوم، ٤- ٦- ٢٠٠٧، وكتب إلي أن القرآنيين لهم آراء أخري، خلاف إنكارهم السنة هو براء منها، الحق أنني لم أكن أعرف هذه الجزئية، وبالتالي فلا يكون منهم، معذرة يا صديقي».

ثم نشرت جريدة «المصري اليوم» في ٩- ٦- ٢٠٠٧ أيضا توضيحا لذلك بعنوان «مشتهري: لست من القرآنيين.. وأرفض فكرهم»!!

فلماذا شغلت القارئ الكريم ببيان ما سبق؟!

لأنه مع وضوح الفرق الذي يُميز مشروعي الفكري عن سائر التوجهات القرآنية الأخرى، مازلت محسوبا على «القرآنيين»!!

فتعالوا نضرب بعض الأمثلة المثبتة لحجية «منظومة التواصل المعرفي»، وأن الكلمة القرآنية (اسم – فعل- حرف)، يستحيل فهمها بمعزل عن هذه المنظومة المعرفية، فكيف عرفنا دلالات الأسماء والصفات: تفاحة ـ كرسي ـ شجرة ـ بحر ـ كلب ـ شمس – أبيض ـ ساخن …، وكذلك الأفعال: يأكل ـ يمشي ـ يضرب ـ يذبح ـ يقوم ـ يركع ـ يسجد…، إذا لم نشاهد هذه المسميات، وهذه الكيفيات بأعيننا، خارج النص القرآني؟!

لقد تعلم الإنسان كيف يدفن الموتى بمواراة الجسد في باطن الأرض، يقول الله تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ»، ثم تواصلت هذه الكيفية عبر هذه المنظومة المعرفية إلى يومنا هذا.

وتعلم نوح، عليه السلام، صناعة الفلك بوحي من الله تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا» ثم تواصلت هذه الصناعة بين الناس وتطورت عبر هذه المنظومة المعرفية.

وتعلم الإنسان كيف يصنع دروع القتال، فيقول الله تعالى عن سليمان عليه السلام: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ»، ثم تواصلت هذه الكيفية بين الناس وتطورت حسب إمكانات وتقنيات كل عصر.

وعندما نقرأ قوله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً» فهل حمل القرآن صورة النخلة، والفرق بينها وبين الشجرة؟! ثم هل يعقل أن يكون قد حدث تحريف في دلالة الكلمة القرآنية، فورث الناس الشجرة على أنها النخلة؟! وهل اسم «البلح الرطب» الذي حملته نخلة مريم، يختلف عن اسمه الذي عرفه أهل الجزيرة العربية، ونعرفه اليوم؟!

وعندما نقرأ قوله تعالى عن قوم لوط: «أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ»، فهل اسم (النادي) الذي كان موجودا في عصر لوط، عليه السلام، يختلف عن اسم (النادي) الذي يتجمع فيه الناس إلى يومنا هذا؟!

وعندما تحدث القرآن عن عدة الشهور، فقال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ..»، فهل ذكر القرآن أسماء هذه الشهور، وما هي الأربعة الحرم؟!

إن القرآن الحكيم لم يذكر أسماء هذه الأشهر، باستثناء شهر رمضان، فكيف يذهب البعض إلى القول بجواز أن يؤدي المسلم مناسك الحج في أي وقت من أشهر الحج، ثم يقع في تناقض فكري غريب، فيأخذ من «منظومة التواصل المعرفي» أسماء هذه الأشهر التي سيحجون خلالها: (شوال – ذو القعدة – ذو الحجة)، ثم يعطون ظهورهم لما تواصل عمليا من تفاعل المسلمين مع هذه الأشهر منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، وهم يؤدون مناسك الحج في أيام (معلومات معدودات) من شهر (ذي الحجة) فقط، وليس في أي وقت من أشهر الحج؟ [انظر تفصيل ذلك في مقال سابق بعنوان: «سبيلنا إلى معرفة ما لم يذكره القرآن عن الحج»]

وعندما ذكر القرآن اسم صلاتين من الصلوات المفروضة على المسلمين، فقال تعالى في سورة النور، مبينا أوقات العورات التي يجب على الأطفال الاستئذان عندها: «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ»، فهل معنى هذا أن الصلوات الني فرضها الله على المسلمين صلاتان فقط هما الفجر والعشاء؟!

إن سياق الآية ليس أصلا سياق تشريع لأحكام الصلاة، وإنما لأحكام وآداب الاستئذان، لذلك جاء فقط بذكر الصلاتين المتعلقتين بوقت العورات، وليس حصرا لعدد الصلوات المفروضة، التي تعلمها المسلمون عبر «منظومة التواصل المعرفي»، وليس عبر «التواتر العملي» كما يعتقد البعض، وسأبين الفرق بعد قليل.

ولقد عرف الناس من لدن آدم عليه السلام معنى الركوع والسجود وكيفيتهما، وتواصلت هذه المعرفة على مر العصور، فعرفها إبراهيم عليه السلام: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ»، وعرفتها مريم، عليها السلام: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»، وعرفها المسلمون وقت نزول القرآن: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ»، وكل هؤلاء تعلموا هذه الكيفية عبر «منظومة التواصل المعرفي»، منذ أن كانوا أطفالا.

وعندما أخبر القرآن عن أحوال قوم موسى فقال تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً»، وعن قصة إبراهيم، عليه السلام، مع ابنه، فقال تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»، فهل كان الناس وقتها يعرفون الفرق بين «الذبح» وطرق «القتل» الأخرى؟! وهل كانت الكلمة القرآنية وحدها تكفي لفهم هذا الفرق دون تواصل هذه الكيفية معرفيا بين الناس؟!

إن حجية «منظومة التواصل المعرفي» لا تثبت إلا بتفاعلها مع الكلمة القرآنية، أي أن الكلمة أو الجملة القرآنية هي التي تفرض علينا الاستعانة بهذه المنظومة المعرفية للوقوف على فاعليتها في واقع الحياة، (وليس العكس)!!

مثال: عندما يقول الله تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»، فكيف نتعامل مع هذه الآية بالاستعانة بـ «منظومة التواصل المعرفي»؟!

أولا: عندنا نص قرآني يقول: «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ».

ثانيا: النبي، عليه السلام، لم «يُقتل» في المعركة التي وردت هذه الآية في سياقها (آل عمران ١٤٤)، وإنما «مات» على فراشه، فكيف نثبت أن الصحابة انقلبوا على أعقابهم بعد «موت» النبي؟!

ثالثا: لا سبيل إلى إثبات وقوع هذا الانقلاب، إلا بالاستعانة بما قاله المؤرخون والمحدثون الأُول من حقائق تاريخية، نقلتها لنا «منظومة التواصل المعرفي»، تثبت حدوث هذا الانقلاب.

وعلى أساس هذه المنهجية العلمية لفهم النص القرآني، استندت في مقالاتي إلى ما ذكره المؤرخون والمحدثون الأُول عن هذا الانقلاب، لإثبات فاعلية قوله تعالى: «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»، وليس كما فهم البعض أني خالفت مشروعي الفكري!!

إن الذين يتعاملون مع النص القرآني مباشرة دون الاستعانة بأي مصدر معرفي من خارجه، عندما واجه بعضهم مشكلة كيفية أداء ما أجمله النص القرآني من أحكام العبادات، (كالصلاة مثلا)، ذهبوا إلى ما ذهب إليه «السلفيون»، وقالوا: تعلمها المسلمون عن طريق «التواتر العملي»!!

إن الفرق بين «التواتر العملي»، و«منظومة التواصل المعرفي»، فرق جوهري، فالأول مصطلح مذهبي، اصطلح عليه أئمة الفرق والمذاهب المختلفة، فما تواتر عمليا عند فرقة، كمسألة الإمامة مثلا عند الشيعة، لم يتواتر عند أخرى، وما تواتر عمليا عند مذهب فقهي من مذاهب الفرقة الواحدة، كوضع اليدين في الصلاة، لم يتواتر عند آخر، ذلك أن «التواتر العملي»، الذي هو أعلى درجات الصحة عند المحدثين، تواتر مذهبي، مختلف في حجيته أصلا بين علماء الفرق والمذاهب المختلفة!!

أما «منظومة التواصل المعرفي» فقد حملت ما أجمع عليه الناس (المنظومة العالمية)، أو المسلمون (المنظومة الأممية)، من كيفيات الأداء العملي، بشرط أن يكون هذا الإجماع قائما على نص قرآني.

مثال: عندما يأمر الله تعالى رسوله بإقام الصلاة: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا»، وليس في القرآن بيان لكيفية إقامة هذه الصلاة، ولا لمعنى (دلوك الشمس)، ولا لمعنى (غسق الليل)، ولا لمعني (الفجر) ووقته، فماذا يفعل المسلمون؟!

أولا: هناك نص قرآني يأمر النبي بإقام الصلاة «أَقِمِ الصَّلَاةَ»، وذلك في أكثر من موضع من كتاب الله.

ثانيا: هناك أكثر من نص قرآني يُبين أن الصحابة كانوا يُصلون مع النبي: «وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ …» – «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ … وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ …».

ثالثا: لقد صلى آلاف الصحابة مع النبي في حياته، ثم مع الخلفاء الراشدين، وصلى «التابعون» بصلاتهم، حتى أصبحت هذه الصلاة تشكل منظومة عبادية يستحيل اختراق قواعدها وأصولها العامة، من هيئة ومواقيت، وعدد ركعات..، تعلمها المسلمون جميعا عبر العصور بالتقليد والمحاكاة، حتى وصلت إلينا محفوظة بحفظ الله للنص القرآني «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ».

أما الأحكام الفرعية، التي «تواترت مذهبيا» بين فقهاء الفرق والمذاهب المختلفة، وكانت محل خلاف بينهم، فهذه ليست من أركان الصلاة الرئيسية، التي فرضها الله على المسلمين، وتدخل دائرة المباح ما لم تخالف نصا قرآنيا.

مثال: أجمع فقهاء المذاهب المختلفة على أن القهقهة في الصلاة تبطلها، لوجود نص قرآني يأمر بالخشوع في الصلاة، ولكن هل تبطل أيضا الوضوء؟! هنا اختلفوا، ولا وجه لاختلافهم، لعدم وجود نص قرآني يشترط الخشوع في الوضوء!!

لقد ورث المسلمون كتاب الله، الذكر الحكيم، عبر «منظومة التواصل المعرفي»: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»، محفوظا بحفظ الله له: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، أما أمهات كتب المصدر الثاني للتشريع، فقد ورثها المسلمون عبر «منظومة التواتر المذهبي» المغلقة على أتباع كل فرقة من الفرق الإسلامية، أو على أتباع مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، والذي حفظ هذا الميراث هم أئمة وأتباع كل فرقة، وليس الله عز وجل، لذلك فإن هذا المصدر التشريعي الثاني ليس من دين الله في شيء!!

إن النص القرآني الذي أمر بطاعة الرسول واتباعه، لم يأمر بطاعة المحدثين والفقهاء واتباعهم، حسب توجه كل واحد منهم العقدي والتشريعي، وحسب انتماء كل مسلم لهذا التوجه، وإنما جاء الأمر بطاعة الرسول واتباعه في السياق القرآني ويقصد به طاعته شخصيا واتباع رسالته!! [وتفصيل ذلك في مقال سابق بعنوان: «هل الطاعة للرسول أم للمحدثين؟!».

إن إيماني برسول الله محمد عليه السلام، وبرسالته، لم يقم على أساس تواصل خبره بين الناس، عبر «منظومة التواصل المعرفي»، رغم وجود أكثر من نص قرآني يجعلني أكتفي بخبر هذه المنظومة المعرفية، وإنما قام على ما هو أكبر من ذلك بكثير، وهو الإيمان بـ «آيته القرآنية» المعاصرة لي اليوم، فالقرآن ليس كتابا إلهيا كباقي الكتب التي سبقته، وإنما يزيد عليها بأنه حمل في ذاته «الآية الإلهية» الدالة على صدق بلاغ رسول الله محمد عن الله، فهل عندما ننظر إلى آيات الله في الآفاق والأنفس ننظر إليها بمنظار الماضي أم بمنظار الحاضر المشاهد أمامنا اليوم؟!

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

معلومات:

وتقطعون السبيل: تقطعون الطريق، فقد كان قوم لوط يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارة من يختارونهم لإكراههم على الفاحشة، أو يأخذون أموالهم في مقابل تركهم، فأضافوا إلى جريمة إتيان الرجال جريمة قطع السبيل!!

الأشهر الحرم: أربعة، وهي: رجب والقعدة والحجة والمحرم، ونلاحظ أن شهر رجب جاء وسط العام لتأمين المعتمرين، وجعل آخر العام شهرين متتالين (القعدة والحجة)، وشهر في أول العام (المحرم)، لتأمين الحجيج في ذهابهم وعودتهم.

ree

(396) 28/11/2015 (بدعة النسيء … وشريعة الجاهلية الأولى)

 عدد المشاهدات : 553

هناك من يعتقدون أن التقويم القمري يجب أن يرتبط بفصول السنة الشمسية، فيأتي شهر ربيع الأول في (مارس) لأنه فصل الربيع، ويأتي شهر رمضان في (سبتمبر)، بطقسه اللطيف، ويأتي شهر الحج في (ديسمبر) حيث الشتاء المناسب لأداء مناسك الحج…، وكي يحدث هذا التناغم بين الشهور القمرية والشمسية علينا أن نعيد إلى هذه المنظومة الكونية شهر (النسيء) الذي كان يُعمل به في الجاهلية، قبل نزول الآيات بتحريمه!!

ويدّعي هؤلاء أنهم استطاعوا، بالحسابات الرياضية، أن يعيدوا شهر (النسيء) إلى مكانه، وها هم اليوم لا يصومون ولا يحجون حسب التقويم القمري الذي عرفه الناس، منذ خلق الله السماوات والأرض، وإنما يتبعون (النسيء)!!

فتعالوا نتعرف على قصة هذا (النسيء)، وأين وردت هذه الكلمة في كتاب الله، وهل يسمح السياق القرآني الذي وردت فيه بالتلاعب في التقويم القمري؟!

لقد كانت معايش العرب تقوم على الحروب والصيد، بالإضافة إلى رحلتي الشتاء والصيف، ومع تمسكهم بحرمة القتال والصيد في الأشهر الحرم، اتباعا لما ورثوه عن ملة أبيهم إبراهيم، وهي: (ذو القعدة ـ- ذو الحجة -ـ محرم / ثم رجب)، إلا أن مصالحهم الدنيوية كانت تتعارض أحيانا مع الكف عن القتال وعن الصيد ثلاثة أشهر متتابعة من الأشهر الحرم، خصوصا وأن بعض القبائل كانت تكره التوقف عن القتال، إذا حل الشهر الحرام، ثم استكماله بعد ذلك في الأشهر الحلال!!

لقد ظهر من يفتي أهل الجاهلية بشهر (النسيء)، و(النسيء) كلمة مشتقة من مادة (النَّسَاء)، وتعني تأخير شيء عن وقته، يقول ابن منظور في لسان العرب: «وَنَسَأَ الشَّيْءَ يَنْسَؤُهُ نَسْأً وَأَنْسَأَهُ: أَخَّرَهُ..، وَالنَّسِيءُ: شَهْرٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُؤَخِّرُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)».

وفي الجاهلية كانت العرب تؤخر تحريم شهر (محرم) إلى (صفر)، أي أنهم استحلوا شهر (محرم)، وهو من الأشهر الحرم، وحرموا شهر (صفر) وليس من الأشهر الحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم (صفر) أخروه إلى (ربيع الأول)..، وهكذا، يؤخرون شهرا بعد شهر…، مع الاحتفاظ بعدد الأشهر الحرم الأربعة: «لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ»، فنزل القرآن بتحريم هذا (النسيء)، ووصف أصحابه ومن اتبعوهم بالكفر، فقال تعالى في الآية (٣٧) من سورة التوبة:

«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

لقد نزل القرآن يصحح عقائد وشرائع كانت العرب عليها في جاهليتهم، ومن ذلك عقيدة (النسيء) التي يرى البعض اليوم ضرورة إعادتها، مع أن الله وصفه بـ «زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ»، وأنه «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» وسواء قرأت كلمة (يُضَلُّ) بصيغة المبني للمجهول، فيكون المضلِّل مجهول، أو بضم الياء وكسر الضاد (يُضِلُّ) فيكون المضلِّلُ هم الكافرون، أو بفتح الياء وكسر الضاد (يَضِلُّ) فيكون النسيء هو نفسه الذي يضل الناس، فإن النتيجة واحدة: كفر الذين ابتدعوه والذين اتبعوه!!

إن افتتاح الآية بقوله تعالى «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ»، استئناف بياني يتعلق بالآية التي قبلها، وهي قوله تعالى (الآية ٣٦):

«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».

إذن فهناك علاقة بين تحريم العمل بـ (النسيء)، الوارد في الآية (٣٧)، وبين (الأربعة الحرم)، التي وردت في الآية (٣٦)، وقوله تعالى بعدها: «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»، ولكي نفهم هذه العلاقة علينا أن

نتدبر سياق سورة التوبة من أوله، وقوله تعالى:

«بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِين» (١).

«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ» (٢).

لقد اعتاد المشركون نقض المعاهدات، وخيانة المسلمين والاعتداء عليهم في (الأشهر الحرم)، فنزلت الآيات تعلن براءة المسلمين منهم ومن معاهداتهم، وتمنحهم فترة أمان (أربعة أشهر)، يعيدون خلالها النظر في اعتداءاتهم المتكررة على المسلمين، وإلا فليستعدوا للحرب والقتال.

لقد أعطت الشريعة القرآنية الأمان للمشركين المعتدين الناقضين لعهودهم، وجعلتهم يتحركون بين المسلمين مطمئنين، يحرم على المسلم أن يمسهم بسوء: »فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»، ولم تعاملهم بمثل خيانتهم، ولم تعتد عليهم وهم غافلون، وتركتهم (أربعة أشهر) يستعدون للقتال، فأين المغيبون عن هذه الحقائق، الذين يدّعون أن الإسلام انتشر بحد السيف؟!

لقد أمر الله رسوله أن يبين للناس نقض المشركين للمعاهدات، وأن يعلن ذلك يوم تجمعهم على عرفات، ليكون هذا اليوم بداية فترة الأمان الممنوحة للمشركين، وهو يوم التاسع من ذي الحجة، يوم الحج الأكبر، والتي تنتهي يوم التاسع من ربيع الثاني، فيقول الله تعالى:

«وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» (٣).

فإذا انتهت (الأربعة أشهر)، يصبح من حق المسلمين قتال المشركين الناقضين لعهودهم، في أي مكان وجدوا فيه، إلا الذين أعلنوا توبتهم وإسلامهم، فهؤلاء يتوقف المسلمون عن قتالهم، فيقول الله تعالى:

«فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (٥).

ولكن لماذا وصف الله (الأربعة أشهر)، المهلة الممنوحة للمشركين، بـ (الأشهر الحرم)؟!

والجواب: لأن الله حرم القتال فيها، وقد كان هذا التحريم تحريما استثنائيا خاصا بنقض المشركين للمعاهدات، ولم يكن تشريعا عاما ثابتا كالذي ورد في (الآية ٣٦)، في سياق بيان عدة الشهور، فقال تعالى: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، وبرهان ذلك ما يلي:

أولا: إن (الأربعة الحرم) التي وردت في سياق (الآية ٣٦) هي أشهر ثابتة، لا تتقدم ولا تتأخر: «يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»، وهي: (ذو القعدة ـ- ذو الحجة -ـ محرم / ثم رجب)، أما المهلة الممنوحة للمشركين، (الأربعة أشهر)، فمن بينها (صفر، وربيع الأول، وربيع الثاني)، وهذه ليست من الأشهر الحرم، بشهادة السياق القرآني، و«منظومة التواصل المعرفي».

ثانيا: قوله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ»، دليل على أن هذه الأشهر الحرم المنسلخة هي نفسها فترة الأمان (الأربعة أشهر) الممنوحة للمشركين، بدليل أنه بانتهاء فترة الأمان، أي بانسلاخها، يحق للمسلمين قتال المشركين، وهذا ما نص عليه السياق فقال تعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».

ونلاحظ أن قوله تعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ« جاء ردا على عدوانهم أول مرة، وخيانتهم وقتلهم المسلمين، وهذا ما بينته الآية (١٣) فقال تعالى مخاطبا المسلمين:

«أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

تدبر قوله تعالى: (وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وهو من الأدلة قطعية الثبوت عن الله عز وجل، قطعية الدلالة، على أن المسلمين يستحيل أن يكونوا معتدين، كما يفعل اليوم أئمة الإرهاب والتكفير، الذين يعتبرون التفجيرات، سواء كانت انتحارية أو غيرها، سلاحا رادعا لإرهاب عدوهم، من العسكريين أو المدنيين، وهي في الحقيقة خيانة عظمى للدين الإسلامي، الذي ارتضاه الله للناس جميعا.

ثالثا: إن الله تعالى لم ينص على أن الأشهر (الأربعة الحرم) متتابعة، فقد قال تعالى: «مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»، ولكن أين هي هذه الأربعة الحرم، بين باقي الأشهر، هذا ما نقلته لنا «منظومة التواصل المعرفي»، وقد سبق بيان ذلك، ولو أراد الله التتابع لنص على ذلك صراحة، كما نص عليه في سياق الحديث عن القتل الخطأ، فقال تعالى: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ».

رابعا: هناك ما يُعرف في علم السياق القرآني بأقرب مذكور، فعندما يقول الله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ»: (الآية ٥)، فعلينا أن نبحث عن أقرب مذكور يتحدث عن هذه الأشهر، فسنجده في قوله تعالى (الآية ٢): »فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ«، ونلاحظ أن (أربعة أشهر) جاءت غير معرفة، فكيف نقول إنها هي التي عرفها الناس من لدن آدم عليه السلام، لذلك لا يعقل أن نذهب إلى أبعد مذكور، وهو قوله تعالى: «مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»: (الآية ٣٦)، الذي جاء لبيان ثبات وإحكام عدة الشهور، وأنها لا تتبدل ولا تتغير، منذ خلق الله السماوات والأرض!!

إن المرجع الوحيد لفهم الإشارات القرآنية المتعلقة بالآيات الكونية، حسب مشروعي الفكري، هم علماء الفلك، ولم يخرج علينا أحد من علماء العالم، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، يشكك في صحة تواصل الأشهر العربية وصحة الأهلة التي يعرفها المسلمون!!

إن تحديد ميقات الشهر العربي يعتمد على التقويم القمري، وليس الشمسي، أي يعتمد على «الأهلة»، وبرهان ذلك قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»، فلا علاقة بين التقويم القمري وفصول السنة الشمسية!!

الآن أعود إلى قوله تعالى في (الآية ٣٦): «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»، الذي ورد في سياق الحديث عن عدة الشهور، وعلاقته بـ (الأربعة الحرم)، وبما ورد بعدها من تحريم العمل بشهر (النسيء)، فأقول:

إن افتتاح (الآية ٣٦): «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا..» بحرف التوكيد (إِنَّ) بعد هذا السياق الطويل، (الآيات ١ ـ-٣٥) الذي تحدث عن نقض المعاهدات، والأحكام المنظمة للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين المحاربين المعتدين..، إن حرف التوكيد هذا جاء للفت النظر إلى جريمة كبرى أضافها المشركون إلى جرائمهم، وهي خيانة المسلمين والاعتداء عليهم في الأشهر الحرم، ولذلك أمر الله المسلمين أن يقاتلوهم في هذه الأشهر الحرم: «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»!!

ثم أضافوا جريمة أخرى تتعلق بهذه الأشهر الحرم، وهي جريمة (النسيء)، فقال تعالى (الآية ٣٧): «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..»، وبنزول هذه الآية تكون بدعة (النسيء) قد انتهت إلى الأبد، ولم يعد لشريعة الجاهلية وجود.

لقد عادت أسماء الشهور إلى ما كانت عليه قبل التلاعب بها، وأصبح شهر رمضان يدور على كافة الفصول، وكذلك شهر الحج، وتوفي النبي وقد أصبحت هذه الأشهر من الدين القيم، المحفوظ بحفظ الله لنصوص «آيته القرآنية».

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

ملاحظة هامة:

الأخوة الأصدقاء الذين يخالفونني الرأي:

عند التعليق، برجاء تحديد الجملة التي وردت في المنشور، ووجه الاعتراض، وما يؤيد هذا الاعتراض من كتاب الله، علما أن ما كتبته في هذا المقال هو عن مفهوم «النسيء» كما ورد في سياق سورة التوبة، ويستطيع القارئ الكريم أن يتعرف على كافة التوجهات الفكرية المخالفة بمجرد كتابة كلمة (النسيء) على محرك البحث، فأرجو عدم التفرع في تعليقاتكم إلى موضوعات قد قتلتها بحثا، ولم أجد لها سندا قرآنيا.

معلومات:

* لِّيُوَاطِئُوا: الموطأة الموافقة، أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة، فقد كان العرب يحتفظون بعدد الأشهر الحرم، والعدد في ذاته ليس له أهمية في الدين، وإنّما هو تابع لتعيين الأشهر الحرم.

* الاستئناف البياني: هو الجملة الواقعة جوابا على سؤال مقدر، فكأن سائلا سأل: ما هو (النسيء)؟! فجاء الجواب: «إِنَّمَا النَّسِيءُ …»، فالجملة الاستئنافية وإن كانت منقطعة عن سابقتها، إلا أنها تأتي لإتمام الفكرة السابقة أو لتفسيرها وتعليلها.

ree

(397) 29/11/2015 (بدعة النسيء، وغياب المنهجية العلمية)

 عدد المشاهدات : 272

كنت أعلم مسبقا ماذا سيقول الأصدقاء المخالفين لي الرأي، لذلك ولأول مرة أكتب (الملاحظة الهامة) التي ذكرتها عقب المقال، لعلمي أن كل التعليقات المخالفة ستأتي خارج النقاط الرئيسية والبراهين القرآنية التي جاءت في هذا المقال!

لقد أردت بهذه (الملاحظة الهامة) أن أقطع الطريق من البداية أمام هذا النوع من التعليقات حتى لا نضيع الوقت، وندخل في دائرة الجدل العقيم، خاصة أني قد قرأت واستمعت إلى معظم من تكلموا في هذا الموضوع وأعلم جيدا الأدلة التي يستندون إليها!

ويكفي أن يلقي الأصدقاء نظرة على تعليقاتهم على هذا المقال!

إن من مظاهر غياب المنهجية العلمية عن الحوار ترك النقاط الرئيسية التي تحدث عنها المقال، والبراهين القرآنية المؤيدة لها، ثم الذهاب إلى موضوعات فرعية، لم تذكر أصلا في المقال، ليس سهوا مني، وإنما لأنها من المسائل المتفرعة عن النقاط الرئيسية، (كمسألة تحريم الصيد في الأشهر الحرم)، والحقيقة أن المسائل الفرعية كثيرة!ولكن، هل انتهينا أولا من النقاط الرئيسية التي جاءت في المقال كي نذهب إلى ما تفرع عنها؟

مثال: تعليق للصديق غالب قال فيه:

«استاذ محمد لم يتطرق لتعريف النسيء حسب ابن منظور، بل استرسل في تفسير ابن المنظور للآية حسب تدارك المنظور المعرفي، ومن الخطئ اتباع ماكان عليه القدماء في تفاسير كتاب الله والمعرفة عندهم لاتتجاوز القيل والقال»!

ثم قال الأستاذ غالب: قول ابن منظور: (والنسيء شهر كانت العرب تؤخره في الجاهلية فنهى الله عنه)، هذا ما اورده ابن منظور، وهو يعتقد أن النسيء هو اسم شهر). انتهى

فأقول: يا أستاذ غالب

الذي ذكرته أنا في المقال نقلا عن ابن منظور هو: «.. وَالنَّسِيءُ: شَهْرٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُؤَخِّرُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ…».

أما أنت فقد افتريت على ابن منظور عندما قلت في تعليقك:

«هذا ما أورده ابن منظور، وهو يعتقد أن النسيء هو (اسم شهر)»، ثم أقمت على هذا الافتراء تعليقك كله!وعندما صححت لك فهمك لكلام ابن منظور، لم تعتذر عن سوء الفهم، وجادلت وقلت:

«لم نقل النسيء اسم شهر، بل النسيء شهر»!!

ولأني أعلم أنك صححت فقط دون أن تعلم حقيقة ما قاله ابن منظور، سأبين لك ما قاله:

إن قول ابن منظور: (والنسيء: شهر كانت العرب تؤخره)

معناه أن هناك أصلا شهرا من الأشهر الحرم له اسم، وليكن (محرم)، فكان العرب يؤخرون حرمة هذا الشهر إلى (صفر)، فأصبح (محرم) الذي تأخرت حرمته إلى (صفر) هو (النسيء)، وهذا ما قصده ابن منظور بقوله: (شهر كانت العرب تؤخره)!

والغريب أني شرحت ذلك في المقال فقلت:

(وفي الجاهلية كانت العرب تؤخر تحريم شهر (محرم) إلى (صفر)، أي أنهم استحلوا شهر (محرم)، وهو من الأشهر الحرم، وحرموا شهر (صفر) وليس من الأشهر الحرم)!

وعلى كل حال، فهذا هو فهمي لـ (بدعة النسيء)، حسب مشروعي الفكري، وما حمله من أدوات لفهم القرآن، وفي مقدمتها: «منظومة التواصل المعرفي»!

ومن أصول الحوار العلمي، أنك عندما تختلف مع صاحب مشروع فكري في مسألة، عليك أن تترك هذه المسألة جانبا، وتذهب إلى القواعد التي أقام عليها مشروعه، وتهدمها فتكون بذلك قد هدمت المسائل كلها، وليس فقط مسألة واحدة!

ولقد ذكرت مرارا في معظم مقالاتي، أن ما يميز مشروعي الفكري عن سائر التوجهات القرآنية الأخرى، هو ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي»، وهي المحور الأساس الذي تدور حوله أدوات فهمي للقرآن، فإذا استطعت أن تهدم هذا المحور فقد هدمت المشروع كله!

فأتعجب من الذين بعد عجزهم عن نقض القواعد والأصول، ذهبوا ينقضون الفروع!


(399) 2/12/2015 (أكاذيب السلفية الوهابية التي يحاولون إقناعنا أنها أحاديث نبوية)

 عدد المشاهدات : 190

إن المحور الأساس الذي تدور حوله إشكاليات تجديد الخطاب الديني، عند جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، هو مساواة حجية (المرويات) التي نسبها الرواة إلى النبي، عليه السلام، ودوّنها المحدثون بعد وفاته بقرنين من الزمن، بحجية كلام النبي الذي خرج على لسانه بلفظه وحرفه في حياته!!

والذين قالوا إن (مرويات) الرواة وحي إلهي، حمل للمسلمين مصدرا تشريعيا مستقلا عن كتاب الله، هؤلاء هم الذين أسّسوا ونظّروا وقعدوا لمنظومة الفكر المتطرف، الذي وظفته المنظمات والجماعات والمؤسسات الإرهابية التي ظهرت منذ عصر تدوين أمهات الكتب، وإلى يومنا هذا، الأمر الذي يستلزم ثورة فكرية ثقافية (لتأصيل) الخطاب الديني، وليس (تجديده)!!

إن (تأصيل) الخطاب الديني، يقوم على قاعدة (الحجيات)، قاعدة: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»، وذلك على النحو التالي:

أولا: حجية «كتاب الله»: وهي ثابتة ثبوت كتاب الكون أمامنا، ثم إن كتاب الله هو «الآية الإلهية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، والقائمة بين الناس إلى يوم الدين، وعندما طلب الكافرون أن ينزل الله على رسوله «آيات حسية»، كالتي أيد الله بها الرسل السابقين، قال تعالى:

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

ثانيا: حجية «الحديث النبوي»: وهي ثابتة ثبوت بعثة النبي، عليه السلام، وتحركه بين قومه، هؤلاء الذين كان بإمكانهم سماع كلامه، الذي خرج على لسانه بلفظه وحرفه، والتفاعل معه. وقد انتهت فاعلية هذا الحديث بوفاة النبي، ويبقى النص القرآني حاملا لبعض حديثه، محفوظا بحفظ الله لكتابه، يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين المعاصرين للرسول:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ…» – «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ…» – «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ…» – «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ…».

ثالثا: حجية «السنة النبوية»: وهي ثابتة ثبوت تفعيل النبي للنص القرآني في حياته الخاصة والعامة، وكيفية أدائه لما أجمله هذا النص من أحكام، كالصلاة، والتي تناقلها المسلمون بالتقليد والمحاكاة عبر «منظومة التواصل المعرفي»، وقد سبق بيان ذلك في أكثر من مقال.

رابعا: حجية «المرويات»: وهذه الحجية لم تثبت لها فاعلية في حياة النبي، وبرهان ذلك هو ما بين أيدي المسلمين اليوم من أمهات كتب هذه «المرويات»، فهل توجد رواية واحدة منسوبة إلى النبي مباشرة بدون «سند روائى»؟! لا توجد مطلقا، لماذا؟!

لأن هذه «المرويات» لم تدوّن في حياة النبي، وإنما دوّنت بعد قرن ونصف القرن (على أقل تقدير) من وفاة النبي، فكان لابد أن يكون لها سند روائي: روى فلان عن فلان عن فلان…، حتى يصل إلى رسول الله، والذي يشهد بصحة أو عدم صحة هذا السند الروائي هم علماء الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، حسب انتماءاتهم العقدية والتشريعية!!

والغريب، الذي يدعونا إلى التوقف كثيرا، ونحن أمام مصدر تشريعي تسفك بمروياته وبفتواه الدماء بغير حق، أن حجية هذه «المرويات» قامت على ما يُسمى بـ «خبر الواحد»، أو بـ «حديث الآحاد»، فمن أين جاء هذا المصطلح؟!

لقد كان الصحابة يتداولون ما سمعوه من النبي (شفاهة)، فلم يشهد عصر الرسالة ولا عصر الخلافة الراشدة أي مدونة لهذه المرويات، ثم نقل التابعون عنهم مروياتهم، واستمر هذا النقل من راوٍ إلى آخر عقودا من الزمن حتى جاء عصر التدوين وسُمح بالتدوين، فدوّن المحدثون هذه المرويات كما وصلت إليهم!!

ثم جاء عصر تتبع فيه المحدثون هذه «المرويات» لمعرفة أحوال رواتها، فنتج عن هذا التتبع أن قسموها إلى «متواتر»، وهي الرواية التي نقلها عدد كثير يستحيل اتفاقهم على الكذب، عن مثلهم، إلى آخر السند الروائي، وإلى «آحاد»، وهي الرواية التي لم تنطبق عليها شروط «التواتر»، ثم جاء أبو حنيفة وأضاف قسما ثالثا سماه بـ «المشهور»، وهي الرواية التي كانت في أصلها «آحادا» ثم نقلها بعد ذلك جمع كثير!!

مثال للمشهور: رواية عمر بن الخطاب «إنما الأعمال بالنيات»، لم يروها عنه خلال القرن الأول إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم نقلها عنه في القرن الثاني العدد الكثير!!

ثم جاء من قسم رواية الآحاد إلى أقسام: غريب، وعزيز، ومشهور..، لذلك لم يكن غريبا أن نجد المحدثين، على مستوى الفرق الإسلامية المختلفة، يختلفون اختلافا كبيرا حول أقسام الرواية وندرة ما اصطلحوا على تسميته بـ «المتواتر»، يقولون:

إن من لوازم القول بعدم حجية خبر الواحد ألا يُكْتَفَى بقول واحد من علماء الحديث بتواتر حديث ما، ذلك لأن قوله هذا، عن تواتر الحديث، هو خبر آحاد، ويتعذر إثبات شهادة جميع علماء الحديث بتواتر الحديث، لذلك وجب قبول خبر الواحد المتخصص في علم الحديث، وإلا سقط علم الحديث كله، فإن أكثر الأحاديث النبوية آحادٌ، والمتواتر منها قليل بالنسبة إلى الآحاد!!

هذه فكرة عامة وسريعة عن إشكاليات «المرويات»، التي قام عليها تدين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وقام عليها ما يُسمى بالمصدر الثاني للتشريع، وقامت عليها التوجهات العقدية والتشريعية للقائمين على إدارة المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، محليا ودوليا!!

فإذا ذهبنا إلى السلفية الوهابية، وجدناهم يخالفون كثيرا من الفرق والمذاهب الأخرى (كالمعتزلة، والأشاعرة) في حجية العمل بخبر الواحد في العقائد والأحكام، ويقولون إنه لا فرق بين رواية الآحاد والرواية المتواترة، بدعوى أنه إذا صحت الرواية إذن فهي حجة بنفسها في العقائد والأحكام معا!!

في عام ١٩٩٩م، جمعني لقاء بأحد أئمة السلفية الوهابية، الذي كان له دور كبير (عام ٢٠١٣م) في دفع المسلمين للجهاد في سوريا، وكان على رأس القيادات السلفية الإرهابية التي دعت إلى مؤتمر نصرة الشعب السوري، وقد كان هذا اللقاء لمناقشة مشروعي الفكري، وفيه بيّنت البراهين الدالة على أن مستقبل الإسلام والمسلمين في خطر، بسبب هذا المصدر الثاني للتشريع، الذي يحمل مرويات وفتاوى التخاصم والتكفير وسفك الدماء بغير حق، ثم انتهى اللقاء باتهامي بإنكار السنة!!

وفي (أكتوبر ١٩٩٩م) كان الموسم الثقافي السنوي الذي يعقد في مسجد العزيز بالله، بحي الزيتون القاهرة، ويحضره مئات السلفيين، وفيه تحدث الشيخ عن حجية السنة النبوية، وحجية خبر الواحد، ثم قال (والحديث مسجل ومنشور على موقعي):

«إن فريقا من أهل العلم ذهبوا إلى أن خبر الآحاد قطعي الثبوت، فسواء قلنا قطعي الثبوت، أو ظني الثبوت، فليُعلم أن (أهل السنة) اتفقوا، (واتفاقهم حجة)، على أن خبر الآحاد يٌعمل به سواء كان ذلك في العقائد أو في الأحكام، في العقائد (مرة ثانية) أو في الأحكام، هذا هو مذهب أهل السنة»!!

وقال: «إن الأمة أجمعت على أن جحد السنة كفر، كفر بالله تبارك وتعالى، لأنه رد للقرآن، رد للقرآن:

«وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»

المؤمنون كلهم يحتجون بالسنة، الذي يسقط السنة هذا خرج عن سبيل المؤمنين جمعهم، والخارج عن سبيل المؤمنين كفره معروف»!!

ثم قال: «الشيخ عبد اللطيف مشتهري رحمه الله، ابنه محمد المشتهري، أسأل الله عز وجل أن يهديه، أو أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر، يؤتى به في التلفاز ليبين للناس أن السنة لا حجة فيها، وقد جالست هذا الأحمق، وقلت له: إذن سقط القرآن كله، قال: لا لم يسقط القرآن، قلت له: كيف، لغة العرب التي نزل بها القرآن من أين عرفناها؟ نُقلت إلينا، قال: نُقلت نقلا متواترا، قلت: وكذلك الاحتجاج بالسنة كلها نقل إلينا نقل التواتر، فكيف نأخذ بالتواتر في موضع ونترك التواتر في موضع آخر؟!»!!

فتعالوا أولا إلى قول الشيخ عني: «يؤتى به في التلفاز ليبين للناس أن السنة لا حجة فيها»!!

فها هو أحد كبار أئمة السلفية الوهابية، الذين يؤمنون بوجوب العمل بخبر الآحاد في العقائد والأحكام، ينقل لنا خبرا مفترى من أساسه، يهدم مذهبه في حجية خبر الآحاد، لأنه لم يحدث في يوم من الأيام، أني ظهرت في (التلفاز)، أتحدث عن شيء له علاقة بالإسلام، ملة وشريعة، منذ أن ظهر إلى الوجود، إلى يومنا هذا!!

إذن فمن أين جاء الشيخ بهذا الخبر المفترى، الذي أعلنه على حشد كبير من الناس، ليصبح بعد ذلك متواترا، وما زلت أعاني من آثاره إلى يومنا هذا؟! هل شاهد بنفسه هذا البرنامج؟! مستحيل، لأنه لم يحدث أصلا!! إذن فإما أنه افتراه، أو أبلغه به أحد (الرواة الثقات العدول) من أتباعه، وفي الحالين، يكون الشيخ قد أقام على خبر مفترى حكما بكفري!!

انظروا: هذه رواية مفتراة، لشيخ مازال حيا، وإنا مازلت موجودا، ونعيش في بلد واحد..، فكيف بحال «المرويات» التي نُسبت إلى رسول الله، ثم دوّنت بعد قرن ونصف القرن من وفاته، بعد أن توفي الصحابة والتابعون، وهم أصحاب الحلقة الأولى من السند الروائي؟!

ثم انظروا إلى قول الشيخ، في سياق اتهامه لي بالكفر: «والخارج عن سبيل المؤمنين كفره معروف»، يعني لو أنني كنت موجودا بين الحضور، وأشار الشيخ إليّ وقال لأتباعه: هذا هو محمد مشتهري، لاستحلوا دمي جميعا!!

لذلك سيبقى السؤال قائما: أي خطاب ديني هو المطلوب تجديده؟! ثم ما المقصود بكلمة (ديني)، فأي طائفة دينية هي التي ستقوم بتجديده؟!

لقد ذكرت هذه الواقعة (التاريخية)، لأقول:

أولا: للمسلمين، الذين تدفعهم عاطفتهم الدينية إلى ارتكاب أعمال عنف، حتى ولو أدت إلى سفك الدماء، أقول لهم: هذه العاطفة الدينية التي تندفع بغير علم، وبرهان من الله تعالى، هي التي ستعتمد عليها السلفية الجهادية في أعمالها الإجرامية، في المستقبل القريب، سواء كان ذلك بدعوى الدفاع عن الرسول، أو بدعوى إقامة الخلافة الإسلامية، فاستيقظوا وانتبهوا، فالإسلام دين العلم، والعلم برئ من هؤلاء.

ثانيا: وأقول لمن يعتقدون أنه بالإمكان القضاء على الإرهابيين بما يملك العالم من أسلحة الدمار الشامل: إنكم واهمون، إن الإرهابيين ليسوا هم الذين يحملون السلاح أمامكم، وإنما هم الذين صنعوا منظومة الفكر الإرهابي، واخترقوا بها المصدر الثاني للتشريع، وقالوا إنها «السنة النبوية» فأصبحنا أمام كيانات عقدية لا ترى أمامها اليوم إلا قوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ»

إن الإرهابيين ليسوا هم الذين يقومون بالتفجيرات، بأنواعها المختلفة، وإنما هم الذين استطاعوا أن يقنعوا من يقومون بهذه الأعمال الإجرامية أنهم بعملهم هذا سيدخلون الجنة بغير حساب!!

إن الإرهاب فكر قبل أن يكون سلاحا، وهذا الفكر يحتاج إلى ثورة فكرية ثقافية، تقوم على تأصيل الخطاب الديني، وليس تجديده ولا تنقيته، ومرجعنا في هذا التأصيل هو كلام الله عز وجل.

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

محمد السعيد مشتهري

معلومات:

أمهات الكتب: مصطلح استخدم للدلالة على أوائل الكتب التي حملت التراث الديني للفرق والمذاهب المختلفة، كأمهات كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ والسيرة..، ويشمل أيضا كتب اللغة والأدب والفلسفة وغيرها.

أبو حنيفة: ولد عام ٨٠هـ، وهو إمام المذهب الحنفي، تعرض لمحنتين: الأولى في الخلافة الأموية لوقوفه مع ثورة زيد بن علي، فحبسه الوالي. والثانية في الخلافة العباسية لوقوفه مع ثورة محمد النفس الزكية، فحبسه المنصور، إلى أن توفي عام١٥٠هـ.

ree

(400) 9/12/2015 (حجية القرآن ليست في نصوصه فقط، وإنما في مقابلها الكوْني)

 عدد المشاهدات : 195

حجية القرآن ليست في نصوصه فقط، وإنما في مقابلها الكوْني

لقد أنزل الله القرآن على قلب النبي الخاتم محمد، عليه السلام، وسمى ما كان يتنزل «كتابا»، قبل استكمال نزول آياته، وذلك لبيان أن هذا القرآن، المجموع في قلب النبي، ستُدوّن آياته في الصحف، ولن يتوفى النبي إلا وهي مجموعة في كتاب، يعلم الناس أوله وآخره، وكلماته وسوره، ولقد جاءت سورة البقرة ببيان هذه الحقيقة، فقال تعالى:

«الم – ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ».

لقد جاء اسم الإشارة «ذلك» في سياقه المحكم، فاستعمل للإشارة إلى القريب، وهو مقدار ما نزل من آيات قبل هذه الآية، واستعمل للإشارة إلى البعيد، وهو ما سيلحق ما نزل من آيات، كما استعمل لبيان علو شأن الكتاب، وأنه محفوظ بحفظ الله له، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: «لَا رَيْبَ فِيهِ»، ومن قوله تعالى في سورة الحجر (الآية ٩): «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

إن حفظ الله للذكر الحكيم، لا يعني حفظ ورق المصحف من أن يمسه أحد بسوء، فقد شاهد الواقع على مر العصور حرق المصاحف، وحدوث تحريفات وأخطاء مطبعية لم تُكتشف إلا بعد أن انتشرت بين الناس، ولم يتدخل الله لمنعها، فلم تشل يد وهي تقوم بتحريفه، ولم تحرق ماكينة الطباعة التي أخطأت!!

إن حفظ الله للذكر الحكيم، يشمل حفظ الكلمة، وحفظ المسمى المقابل لها في الآفاق والأنفس، ولذلك سمى الله تعالى الجملة القرآنية «آية»، ووصفها بالذكر: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ»، وقال تعالى في سورة ص: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ».

إن الإنسان لا يستطيع الوقوف على حقيقة شيء لم يشاهد مُسماه من قبل، ولا يمكن أن يتذكر شيئا لم توجد له صورة ذهنية عنده، ولذلك وصف الله الجمل القرآنية (المتلوة) بالآيات، فقال تعالى في سورة آل عمران: «ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ»، والتلاوة هنا تعني اتباع ما يتلى.

ووصف الله الجمل القرآنية (المدونة) في الكتاب بالآيات، فقال تعالى في سورة الحجر: «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ».

ووصف الله الجمل القرآنية (المقروءة) بالآيات، فقال تعالى في سورة النمل: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ».

و«الآيات» هي «البراهين» الدالة على الوحدانية، وعلى صدق النبوة، وحكمة التشريع، والتي يعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثلها، وهذا دليل على أن حفظ «الذكر» لا ينظر إليه من منظور الجمل القرآنية المدونة في الكتاب فقط، وإنما بالنظر إلى المقابل الكوني لها، الذي حملته آيات الآفاق والأنفس، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:

«قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا».

إن كلمات الله هي دلائل وحدانيته القائمة بين ذرات هذا الكون، والتي يستحيل فصل أجزائها عن بعضها، ومنها كلمات الله التي أنزلها على النبي الخاتم محمد، عليه السلام، لذلك قال بعدها:

«قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا».

إن قضية إقامة البراهين الدالة على صدق نسبة هذا القرآن إلى الله تعالى، ليست خاصة بعصر الرسالة فقط، ولا بالعرب وحدهم، وإنما هي للناس جميعا، على مر العصور، وإلى يوم الدين، يقول الله تعالى في الآية (٢١) من سورة البقرة:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

ثم ذكر بعدها دلائل الوحدانية التي تقتضي إخلاص العبودية لله تعالى، والتصديق برسالة النبي الخاتم، فقال تعالى (الآية ٢٢):

«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

وبعد أن بيّن الله حجية الآيات الدالة على الوحدانية، انتقل إلى بيان حجية المقابل لها في كتاب الله، فقال تعالى (الآية ٢٣):

«وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

إذن، فلم يكن المقصود بقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ»، أن يأتوا بمثل الجمل القرآنية التي تكونت منها السور، من حيث نظمها وبلاغتها، وإنما أن يأتوا أيضا بالمقابل الكوني لها، ولذلك عقب بقوله تعالى:

«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»؟!

إن قوله تعالى مخاطبا المكذبين: «وَلَن تَفْعَلُوا»، كان يجب أن يدفعهم إلى تكثيف الجهود والاستعانة بالإنس والجن «ليفعلوا»، ولكنهم وقفوا عاجزين عن أن يفعلوا شيئا، بعد أن أدركوا أن «المثلية» ليست في الإتيان فقط بمثل «الجمل القرآنية»، وإنما بمثل «الآيات القرآنية»!!

فما فائدة أن تحاكي أو تستنسخ نصوصا بلاغية قرآنية، ثم تعطي ظهرك للمحور الأساس في هذه القضية، وهو المقابل الكوني لها، خاصة وأن قوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ» جاء في سياق بيان دلائل الوحدانية: «فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»، ومن هذه الدلائل إثبات أن هذا القرآن من عند الله تعالى!!

فتدبر قوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»، ثم قوله بعدها: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا»!!

وقوله تعالى في سورة الإسراء: «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»!!

فهل يُعقل أن يقول الله تعالى للعرب، وللإنس والجن، في عصر الرسالة، وعلى مر العصور: «وَلَن تَفْعَلُوا»، «لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ»، أي في الحاضر والمستقبل، وإلى يوم القيامة، ثم يكون هناك من يستطيع أن يأتي بسورة واحدة من مثله، في أي عصر، أو يقوم بتحريفها، إلا إذا كان المقصود أن يكون هو المبدع لمقابل الكوني لها؟!

إن أقصر سورة من سور القرآن، هي سورة الكوثر، فعدد كلماتها عشر (١٠)، يقول الله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ – فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ – إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ»

فهل استطاع أحد من أهل اللسان العربي، المرتابين المشككين في حفظ الله لكتابه، المتخصصين في فنون البلاغة والمعاني والألفاظ، أن يحاكي هذه الجمل القرآنية الثلاث، ويخلق المقابل الكوني لها؟!

إن المحاور الرئيسية التي تدور حولها هذه الجمل القرآنية الثلاث هي:

أولا: إثبات الوحدانية: في ضمير «إِنَّا»: «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»؟!

ثانيا: إثبات النبوة: في « أَعْطَيْنَاكَ»: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ»

ثالثا: إثبات أحكام الشريعة، وارتباطها بالوحدانية: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ»

رابعا: موقف النبي من أعدائه: «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

وهذه كلها ليست جملا قرآنية فقط، وإنما هي آيات إلهية، يستحيل أن يأتي أحد من أهل الفصاحة والبيان، بالمقابل الكوني لها، إلا إذا كان هو الخالق، الله عز وجل؟!

إن البرهان على أن القرآن، الذي بين أيدي المسلمين اليوم، هو «الآية الإلهية»، الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، هو تفاعل نصوص هذا القرآن مع آيات الآفاق والأنفس، قال تعالى:

«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

إن قوله تعالى: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»، برهان على أن القرآن حق، وآيات الآفاق والأنفس حق، لذلك عقب بقوله: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»، لبيان أن هذه المنظومة الكونية التي حملها كتاب الله، والمنظومة المشاهدة التي حملتها آيات الآفاق والأنفس، هي منظومة محكمة، متصلة الحلقات، لا تنفصل أجزاؤها أبدا، وذلك بشهادة الله تعالى، فكيف يتم اختراقها، أو العبث بها وتحريفها؟!

إن فالعلاقة بين «القرآن»، و«الكون»، علاقة وثيقة، يستحيل أن يخترقها إنس ولا جان، ومن الآيات القرآنية التي جاءت تبيّن هذه العلاقة، قوله تعالى:

«أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟!

فتدبر قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»، وعلاقته بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»، لتقف على معنى المقابل الكوني للقرآن.

ولذلك عندما طلب المكذبون الآيات الحسية، نزل القرآن يبين للناس هذه المسألة، فقال تعالى:«وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ«.

ثم بيّن الله بعدها أن الآيات الحسية تنتهي فاعليتها بوفاة النبي، أما الآية القرآنية فحجيتها قائمة بين الناس إلى يوم الدين، فقال تعالى:

«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ، أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ«.

والسؤال: كيف تكون «الآية الإلهية»، التي حملها القرآن، حجة على الناس جميعا، وقد نزلت بلسان العرب؟! وإذا كانت حجيتها قد ثبتت لأهل اللسان العربي، فكيف تثبت لأهل اللسان الأعجمي؟!

أقول: إن حجية «الآية الإلهية» ليست في نصوصها العربية فقط، وإنما في المقابل الكوني لها، وهذا المقابل الكوني حجة على الناس جميعا، فهم يرونه، ويفهمونه بألسنتهم المختلفة، بل ويفهم علماؤهم ما في داخله من آيات وآيات وآيات..، لا يعلمها أهل اللسان العربي!!

ولذلك يكفي لغير العربي، أن يجلس مع من يجيد لغته من المسلمين الدارسين كتاب الله، المتدبرين آياته، ويترجم له النص القرآني، مشيرا إلى المقابل الكوني له، ويخبره أن الذي خلق هذا الكون، هو الذي أنزل هذا القرآن، ولم يظهر من عارض ذلك منذ نزول القرآن وإلى يومنا هذا!!

إن كل ما سبق بيانه في هذا المقال، يتعلق بجانب واحد فقط، من البراهين الدالة على أن هذا القرآن كلام الله يقينا، وهو برهان التفاعل القائم بين كتاب الله المقروء، وكتاب الله المشاهد، وهذا التفاعل قائم بين الناس جميعا، لم ينكره أحد!!

فلماذا لا يؤمنون بمن أنزل هذا القرآن، وبمن بلغ هذا القرآن، وكان هذا القرآن «الآية الإلهية» الدالة على صدق نبوته؟!

أما عن البراهين الأخرى المرتبطة بعلم البيان، وببلاغة وإحكام السياق القراني، فمن أراد أن يقف على فاعليتها، فعليه أن يتعلم اللسان العربي، لأنه المكون الأساس الذي قامت عليه هذه البراهين!!

فإذا اكتفى بأن أهل اللسان العربي قد عجزوا عن معارضة هذه البراهين، فهذا شأنه، وهي طريقة مقبولة من طرق تحصيل العلم.

أما كيف يكون القرآن «آية إلهية»، محفوظة بحفظ الله لها، مع اختلاف المصاحف التي بين أيدينا اليوم، فهذا موضوع المقال القادم.

«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ، أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

محمد السعيد مشتهري

معلومات:

* الآفاق: جمع أفق، وهو الناحية والجهة، والمقصود إطلاع الناس على دلائل الوحدانية في جميع جهات السموات والأرض، من آيات كونية مثل آيات الشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والرياح والأمطار، والجبال والبحار والأنهار والنباتات.

* الأنفس: جمع نفس، والمقصود بها الإنسان، وإطلاع الناس على دلائل القدرة الإلهية في داخل جسم الإنسان، وما فيها من إحكام الصنعة وبديع الحكمة، بحيث شملت وظائف الأعضاء التي يعلمها الإنسان، والتي مازال يكتشفها إلى يومنا هذا.


ree

فبراير 1

72 min read

0

1

0

منشورات ذات صلة

Comments

مشاركة أفكارككن أول من يعلِّق.

جميع الحقوق محفوظه © 2025 نحو إسلام الرسول 

  • Facebook
  • Twitter
  • YouTube
bottom of page